المواطنة والفضاء السياسي

 محمد محفوظ

 المواطنة لا تنجز إلا في ظل نظام سياسي ديمقراطي - تعددي، يحترم حقوق الإنسان ويصون كرامته ويوفر ضرورات العيش الكريم. ولا يكتمل مفهوم المواطنة إلا في دولة الإنسان المدنية التي تمارس الحياد الإيجابي تجاه قناعات ومعتقدات وأيديولوجيات مواطنيها

 

ثمة علاقة عميقة وجوهرية، بين مفهوم المواطنة والأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية السائدة. وذلك لأن الكثير من مضامين المواطنة على الصعيدين الذاتي والموضوعي، هو بحاجة إلى فضاء سياسي جديد، يأخذ على عاتقه تحريك الساحة بقواها ومكوناتها المتعددة باتجاه القبض على المفردات والعناصر الضرورية لهذا المفهوم.

فالمواطنة كمبدأ ومرجعية دستورية وسياسية، لا تلغي عملية التدافع والتنافس في الفضاء الاجتماعي، تضبطها بضوابط الوطن ووحدته القائمة على احترام التنوع وليس على نفيه، والساعية بوسائل قانونية وسلمية للإفادة من هذا التنوع في تمتين قاعدة الوحدة الوطنية. بحيث يشعر الجميع بأن مستقبلهم مرهون بها، وأنها لا تشكل نفيا لخصوصياتهم، وإنما مجال للتعبير عنها بوسائل منسجمة وناموس الاختلاف وآفاق العصر ومكتسبات الحضارة. ولا يكتمل مفهوم المواطنة على الصعيد الواقعي، إلا بنشوء دولة الإنسان. تلك الدولة المدنية التي تمارس الحياد الايجابي تجاه قناعات ومعتقدات وأيدلوجيات مواطنيها. بمعنى أن لا تمارس الإقصاء والتهميش والتمييز تجاه مواطن بسبب معتقداته أو أصوله القومية أو العرقية. كما أنها لا تمنح الحظوة لمواطن بفضل معتقداته أو أصوله القومية أو العرقية. فهي مؤسسة جامعة لكل المواطنين، وهي تمثل في المحصلة الأخيرة مجموع إرادات المواطنين.

لذلك فإن مفهوم المواطنة لا ينجز في ظل أنظمة شمولية - استبدادية، لأن هذه الأنظمة ببنيتها الضيقة والخاصة، تحول مؤسسة الدولة إلى مزرعة خاصة، تمارس الإقصاء والتهميش، كما تمنح الامتيازات بمبررات دون مفهوم الوطن والمواطنية.

فالدولة المدنية التي تحترم الإنسان وتصون كرامته، وتمنحه حرياته الأساسية، هي الحقيقة الموضوعية الوحيدة، التي تبلور مفهوم المواطنة، وتخرجه من إطاره النظري المجرد إلى حقيقة سياسية ومجتمعية راسخة وثابتة. فدولة الاكراه والاستبداد وممارسة القمع والتعسف، تجهض مفهوم المواطنة وتخرجه من مضامينه السياسية المتجهة صوب الموازنة الفذة بين ضرورات النظام والسلطة ومتطلبات الكرامة والديمقراطية. وكل الشعارات والمشروعات ذات الطابع التقدمي التي تحملها بعض السلط والدول، تبقى مجردة وفي دائرة الاستهلاك الاعلامي والسياسي بدون المواطنة التي تمارس حقوقها غير منقوصة وتلتزم بواجباتها دون مواربة. وعليه فإن مراعاة مصالح المواطنين والعمل على ضمان حقوقهم واحترام حرياتهم وصيانة كراماتهم، هو الذي يضمن الاستقرار السياسي، ويطور مستوى التفاهم والانسجام بين السلطة والمجتمع وتتبلور الإرادة الوطنية صوب القضايا الكبرى للوطن والأمة.

لذلك فإن المواطنة وفق هذا المنظور، هي قوام الحياة السياسية الفاعلة والسليمة. وحينما تجرد الحياة السياسية من مقتضيات ومتطلبات المواطنة، تتحول إلى حياة مليئة بالنزاعات والانقسامات وتكريس مضامين التخلف والانحطاط المجتمعي.

وذلك لأن المنابر الاعلامية ووسائط الثقافة في المجتمع، تشترك في عملية تفتيت مضمون المواطنة، عن طريق نشر ثقافة الكراهية والدعوة إلى المفاصلة والقطيعة مع بعض شرائح المجتمع. فينتشر التمزيق، وتتعاظم مظاهر التهميش وأشكال التمييز، وتهدد الوحدة الوطنية في أهم مقوماتها ومرتكزاتها ألا وهي المواطن. حيث ان تسميم المناخ الوطني العام، بثقافة التمييز والكراهية، ودعوات المفاصلة والتحريض الطائفي والقومي، تقلص امكانية الاستقرار، وتحول دون توفر متطلبات الوحدة الوطنية. فالدولة التسلطية بصرف النظر عن أيدلوجيتها والشعارات التي ترفعها، هي التي تجوف مفهوم المواطنة وتفرغه من مضامينه السياسية والمجتمعية. لذلك هناك علاقة وطيدة بين مفهومي الدولة المدنية والمواطنة. إذ لا دولة مدنية بدون مواطنة كاملة تمارس كل حقوقها وتقدم بكل واجباتها الوطنية. كما أنه لا مواطنة مستديمة بدون دولة مدنية تسن القوانين التي تحمي قانون المواطنة ومتطلباته، وترفده بالمزيد من الآفاق وأدوات الفعالية المجتمعية. فلا يمكن أن تتحقق مواطنة في ظل دولة تسلطية - استبدادية، لأن هذه الدولة ببنيتها القمعية، تلغي دور المواطن في عملية البناء وتسيير أمور الوطن. كما أنه لا يمكن أن ينجز مفهوم الدولة المدنية في مجالنا الإسلامي، بدون احترام مفهوم المواطنة وتوفير كل مستلزماته الذاتية والموضوعية.

فالعلاقة جد وطيدة بين مفهومي المواطنة والدولة المدنية، إذ كل مفهوم يستند على الآخر لاستمراره وتحذره في المحيط الاجتماعي. وهذا بطبيعة الحال يتطلب «تسريع الاتجاه نحو الديمقراطية الحقيقية والتعددية الفعلية والتنمية الشاملة في الدولة وبالدولة إن أمكن، جنباً إلى جنب، محو الأميات المتكثرة، وتحرير الأبنية الثقافية السائدة من عقد الأتباع والتقليد، وتثوير الوعي الاجتماعي. بما يؤكد معاني الحراك والمغايرة وحق الاختلاف، وتدعيم أسس المجتمع المدني بما يؤكد مفهوم المواطنة بكل لوازمه الحديثة وشروطه الإنسانية التي لا تفارق حرية الرأي والاجتهاد وحق الخطأ في الوقت نفسه (راجع كتاب جابر عصفور - ضد التعصب، ص 242، المركز الثقافي العربي) وبالتالي هناك منظومة متكاملة من القيم والمبادئ، التي تكرس مفهوم المواطنة في الواقع الاجتماعي. ومن هذه المنظومة الديمقراطية والحوار والتسامح وحقوق الإنسان وحرية التعبير والانتماء. فكلها قيم ضرورية لإرساء مضامين المواطنة. أي أن توفر هذه القيم، هو الذي يؤدي إلى انجاز مفهوم المواطنة. وبمقدار غياب هذه القيم أو بعضها، بذات المقدار يتم انتهاك مفهوم المواطنة.

وهذا يدفعنا إلى القول: ان المواطنة لا تنجز إلا في ظل نظام سياسي ديمقراطي - تعددي، يحترم حقوق الإنسان ويصون كرامته ويوفر ضرورات العيش الكريم. وعليه فإن الاستقرار السياسي والمجتمعي في المجالين العربي والإسلامي بحاجة إلى توفر العناصر التالية:

1- المواطنة التي تمارس دورها في الشأن العام بدون خوف أو تردد.

2- مؤسسات المجتمع المدني، التي تأخذ على عاتقها استيعاب طاقات المجتمع وتبلور كفاءاته وقدراته، وتساهم في معالجة المشكلات التي يمر بها المجتمع.

3- الدولة المدنية التي تجسد إرادة المواطنين جميعا، ولا تميز بين المواطنين لدواعي ومبررات ليست قانونية وإنسانية. فهي دولة جامعة وحاضنة لكل المواطنين وتدافع عنهم، وتعمل على توفير ضرورات معيشتهم وحياتهم. فالأوضاع العربية والإسلامية، بدون هذه العناصر، تعيش القهقري والمزيد من التراجع والانهيار على الصعد كافة. لذلك فإن الجهود العربية والإسلامية اليوم، ينبغي أن تتجه إلى توفير كل مستلزمات تجسيد هذه القيم والوقائع في المجالين العربي والإسلامي.

ولعلنا لا نبالغ حين القول: ان غياب مبدأ المواطنة ومؤسسات المجتمع المدني والدولة المدنية عن واقعنا العربي والإسلامي، ينذر بتطورات كارثية على المستويات كافة. ولا خيار أمام النخب السياسية السائدة، إذا أرادت الاستقرار لأوطانها، إلا الانخراط في مشروع الاصلاحات السياسية والوطنية، المتجهة صوب إرساء دعائم المواطنة ومؤسسات المجتمع المدني والدولة المدنية الملتحمة في خياراتها الاستراتيجية مع خيارات مجتمعها، والساعية نحو إزالة كل رواسب الدولة التسلطية من واقعها ومؤسساتها وهياكلها المختلفة. وحده الاصلاح السياسي الحقيقي، هو الذي يوقف الكوارث القادمة وعلى الصعد كافة.

الرياض ـ 22/3/2005