في الثقافة السياسية

المشروعية، الاندماج، والقمع

  إعداد: عبد الله الراشد

 

مقدمة:

هناك اعتقاد شائع بأن الانظمة السياسية بحاجة الى الدعم الشعبي للبقاء على قيد الحياة، ولكن هناك كثير من الانظمة تبقى كذلك دون أن تكون مقبولة من قبل السكان. إن ظاهرة القمع واسعة الانتشار، وأن مفهوم الديكتاتورية ليس من بين تلك المفاهيم التي لها مستوى متدنٍ من التطبيق العملي أو ليس لها تطبيق بالمره. إن التناقض الواضح بين الحاجة المقررة للدعم وواقع الانظمة القمعية هي واحدة من المسائل الرئيسية التي بحاجة الى تحليل من قبل العلوم السياسية والحكم المقارن.

إن الدعم يتصل بالمشروعية (legitimacy)، المفهوم الذي يجب أن يتم تمييزه عن القانونية (legality)، بالرغم من أن هناك ارتباطات بين الفكرتين. فالحالات التي تستوعب الانظمة القانونية، هي أنظمة ليست أو لم تعد شرعية لأنها لم تعد تتمتع بالدعم الشعبي.. فروسيا القيصرية في فترة الحرب العالمية الاولى هي مثال على ذلك. وهناك أنظمة أيضاً تتمتع بالدعم دون أن تكون قانونية، أو أنها لم تصل الى في يؤهلها كيما تكون قانونية (على سبيل المثال إذا كان النظام السابق قد تم اسقاطه عن طريق الانقلاب). في معظم المؤسسات، على أية حال، فإن القانونية تساعد في زيادة المشروعية لأن هناك كثيريين سيدعمون النظام السياسي لسبب كونه قانونياً.

إن نوع الدعم الذي تم للتو الاشارة اليه يقوم على مشاعر الافراد. وعلى اية حال، فإن هناك نوعاً آخر من الدعم، والذي ينبع من العلاقة بين الهياكل (المؤسسات والمجموعات) والنظام السياسي: الاحزاب وجماعات المصالح، وأيضاً الهيئات القبلية والاثنية والدينية، والتي تلعب ـ زعماً ـ دوراً أكبر. إن الدعم الممنوح من قبل المؤسسات والجماعات يحدد مستوى الاندماج السياسي في البلاد، وإن هذا النوع من الدعم واضح أهميته، شأنه في ذلك وربما أكثر أهمية منه شأن القبول بالنظام السياسي من قبل الافراد. ولذلك، علينا أن ننظر الى المشروعية بين الافراد وفي الاندماج السياسي للمؤسسات والجماعات، من اجل تقييم مقدار الدعم الاجمالي الذي يتمتع به نظام سياسي معين.

إن النظام الذي لا يمتلك دعماً كافياً فإنه يلجأ الى القمع أو الفرض: إن هذا النظام دكتاتوري. إن تاريخ العالم، بما في ذلك العالم المعاصر، يفيد بأن الدكتاتوريات هي ميزة واسعة الانتشار، وعليه فإن القمع يمكن أن يصبح بديلاً للدعم في ظروف عديدة بالرغم من الادعاء (أو التمني) بأن الدكتاتوريات قد لا تكون حيوية. إن وضعها بصورة مختلفة، بالرغم من أن هناك سخطاً واضحاً بين السكان في العديد من البلدان، يظهر بأن التمردات نادرة وأن التمردات الناجحة (والثورات) هي أكثر ندرة. لقد استغرق القضاء على بعض الدكتاتوريات الاوروبية حرباً عالمية، فيما بزغت بعض الانظمة الدكتاتورية في أجزاء متفرقة من العالم منذ عام 1945. إن الحكم الدكتاتوري هو ميزة ثابتة في الحياة السياسية، الى جانب أنظمة تحظى بالدعم وتعتمد على التوافق.

إن واحدة من مفاتيح الحل للتناقض الواضح بين الحاجة للدعم وبقاء الدكتاتوريات يكمن في الاعتراف بأن هذه الاوضاع، كما هو شأن الكثير من التي تمت مصادفتها، تنتمي الى الابعاد المستمرة وانها لا تشكل متقابلات فحسب. إن مستوى الدعم الفردي للنظام يتفاوت، وأن دمج الجماعات في النظام السياسي لا يفصح بقليل أو كثير. بل على العكس من ذلك، هناك اختلافات جلية في مدى اعتماد الحكومات على القمع، وتبدأ من تلك التي تستعملها الانظمة القمعية اللينة وتنتهي بالدول التسلطية القمعية. وفي المحصلة، لايجب القول ببساطة أن جميع هذه الانظمة دكتاتورية، ولكن ينظر اليها باختلاف الى حد ما بدرجات متفاوتة في حدتها. في الوقت نفسه، وفي المجمل فإن الانظمة تتمتع أيضاً بمستويات متباينة من الدعم الفردي والدمج.

واخيراً، فإن بإمكاننا الاعتقاد بأن ليس هناك أنظمة سياسية تقف عند حافة أي من الجانبين: بمعنى، أنظمة سياسية حيث لا يوجد قمع على الاطلاق كما لا يوجد دعم على الاطلاق. وإذا تمت صياغة المشكلة على هذا النحو، فإنه يصبح من غير الضروري محاولة شرح بقاء الدعم والقمع بالمعنى التام، ولابد حيئنذ من الأخذ في الحسبان التفاوتات في الدعم والقمع على أساس فرضية بأنه في كل الحالات هناك دائماً قدر أدنى من كل من الدعم والقمع.

 

المشروعية والدعم الفردي

إن مفهوم الشرعية يتم استعماله من قبل أدبيات العلوم السياسية المتخصصة وفي اللغة السياسية الشائعة. على أية حال، يبقى أن هذا المفوم قد تمت دراسته بصورة معلولة نسبياً من وجهة النظر الرسمية. فلا أصوله، ولا نموه وانتكاسته (حيث أننا قلنا بأن الدعم يتفاوت من حيث المستوى، وأن الشرعية أيضاً تتفاوت في الدرجة)، ولا   حتى أثره قد تم تحليله بصورة منظمة حتى الآن (أنظر: Ferrero, 1945; Easton, 1965:278-310; Connolly, 1984).

ومن المحتمل أن يكون هذا أحد الاسباب التي يجعل بعض الدعاوى الافتراضية المبالغة تدور حول أثرها، أو بصورة أكثر تحديداً، حيث أن درجاتها لا تقاس أو تقيّم بأي دقة، لماذا بعض التأثيرات المحددة لمقادير محدد من الشرعية لا يمكن ان تكون على صلة لمخرجات محددة. في حقيقة الامر، كانت هناك محاولات قليلة حتى الآن من اجل تعميل المفهوم ومحاولة مقارنة الانظمة من اجل اختبار التأثيرات المحتملة للمستويات المختلفة للشرعية من حيث مؤدياتها (أنظر: Rogowski, 1974). ولذلك، فإن التحليل الذي سنقوم به هنا سيفتقر الى قاعدة تجريبية صلبة، والتي يجب ان يحوز عليها التحليل والتي دون شك في نهاية المطاف سيقوم بتطويرها.

 

 

الشرعية والمشروعية

قيل غالباً بأن الانظمة تحتاج الى شرعية وأن فكرة خلق شرعية إصطناعية ترد بصورة طبيعية الى أذهان أغلب القادة، إن لم يكن جميعهم. إن العملية التي تتم بها محاولة هندسة شرعية اصطناعية تعرف بكونها مشروعية legitimation)).

إن الطريقة الخام او البدائية التي تتم بها تنشئة مشروعية هي عبر الدعاية. ومع تطور الاعلام الجماهيري، ففي التفكير الاولي، أن بإمكان الدعاية أن تنجح في تغيير أذهان السكان. إن وجهات النظر هذه كان يجب أن يتم التخلي عنها تدريجياً. إذ أن الانظمة التي تقوم على الدعاية قد سقطت، وأن كثيراً من المجهود الدعائي بدا بأنه لا ثمرة فيه ولا طائل. لقد بدا الآن واضحاً بأن لا أحد بإمكانه إن يسبغ مشروعية على الانظمة عن طريق الدعاية وحدها.

لقد تمت محاولة صناعة مشروعية عبر طرق أخرى. فمع تطور آليات استطلاع الرأي العام على نطاق واسع، فإن الحكومات منخرطة الى حد كبير في عملية المشروعية بصورة شبه يومية، أولاً للحكومة نفسها، وثانياً في حالات عديدة على الاقل للنظام السياسي أيضاً. في الماضي، كان على القادة الاتكال على القمع، وغالباً التشويه، حول الدعم الذي يحظون به: إنهم يزرعون جواسيس يتولون إدارة عمليات استطلاع خاصة من أجل اكتشاف الدعم الشعبي. وقد فعلوها. إن فكرة زيادة دعمهم تظل في أذهانهم بإستمرار، وأن أعمالهم موجّهة غالباً عن طريق هذه الفكرة.

وبحسب رؤية هذا الطريق، فإن مسألة الدعم تصبح على هذا النحو: الدعم يبقى لأن المجتمع يقنع الافراد ويستحثهم على تقديم الدعم. إن المشروعية تصبح جزءا من عملية الاجتماع والشراكية، ويصبح الافراد بمعنى ما التعبير عن القوى الاجتماعية: والنتيجة تبدو مبالغة، ولكن التناظر حولها يظل قائماً ومتصلاً.

 

مم يتكوّن الدعم الفردي

تنبع المشروعية من الدعم الفردي، ولذلك دعنا نبدأ من هذا الدعم للأخذ في نظر الاعتبار معظم أشكاله البدائية. فهناك دعم حين يكون أعضاء الحكومة أكثر ميلاً للنظام السياسي أو الحكومة (فمن الواضح، أن الدعم قد يستوعب او لا يستوعب كليهما، وأن لذلك تداعياته). ولن نحاول التحقيق هنا في الاسباب التي تجعل شخصاً ما يدعم السلطات السياسية الوطنية، فمثل هذا التحقيق سيضعنا في مجال علم النفس الفردي والجماعي، وهو خارج سياق هذا العمل. ودعنا ببساطة ملاحظة أن الدعم قد يأتي من عملية الاجتماع او الشراكية (socialization)، وبالتالي من ضغوطات خارجية كما من الخصوصيات الشخصية، مطلق الشخصية بما في ذلك عناصرها المؤثرة والاداركية.

 

عناصر الدعم

مهما تكن أصول النظرة الايجابية لدى المواطنين تجاه النظام الحاكم، فإن موضوعها قد يتباين بصورة واسعة. وقد يتعلق الأمر بالطريقة المنبثه للنظام في المجمل (رغم أن ذلك لا يعني بأن هذا الدعم ضعيف)، أو قد تكون موجهة بالتحديد الى عدد من الاجراءات التي  تتخذها الحكومة أو وعدت بها. في الواقع، من الناحية العملية، وخصوصاً بالعودة الى النظام السياسي الوطني، وللحكومة الوطنية، التي يصل مدى نشاطاتها الى مستوى بالغ، إن دعم الافراد يتألف غالباً من تظافر عنصرين: عام وخاص، غامض ومحدد، ولكن الى درجة متفاوته. وسيكون هناك كل من الدعم الاجمالي للنظام وبعض الدعم للسياسات الفردية (أنظر: Easton, 1965:311-19; Berger and Luckman, 1966: 110-46)  

 

تباينات في مستويات الدعم

إن وجود تركيبة من أنواع ومواد الدعم تفيد بأن هذا الدعم يتفاوت أيضاً من حيث القوة عبر الزمن، حتى ولو بصورة تدريجية، وفي حالات عديدة لحد معين. إن مستوى هذه التباينات من المحتمل هو الآخر ان يتفاوت: حين يكون الدعم من أجل سياسات محددة على سبيل المثال فالتفاوتات قد تكون أكثر سرعة. وفي مثل هذه الحالة، إن الانظمة السياسية التي تعتمد بصورة أساسية على دعم سياسة محددة ستبدو كونها هزيلة، حيث أنها قد تكون خاضعة لتغييرات مفاجئة في الدعم. على أية حال، ليس هذا الحدث بالنسبة للانظمة السياسية الوطنية.  ومن المحتمل أن تأخذ موقعها في سياق الحكومات، التي قد يعتمد دعمها على نجاح أو فشل بعض السياسات، كما تظهر استطلاعات الرأي العام بصورة متكررة. إن الدعم للأنظمة السياسية، من جهة أخرى، قد من المحتمل أن يستند على العادات، على حب الوطن أو على الموقف الايديولوجي الذي يمثله الوطن. وكنتيجة، فإن من المحتمل أن يكون الدعم أكثر استقراراً، أو إذا ما تغير، فإنه يتغير بصورة بطيئة، على سبيل المثال، كنتيجة لتأثير البيئة أو تغييرات في ظروف الحياة الشخصية.

وبالرغم من أننا بالتالي نعرف بصورة انطباعية بأن التغييرات في مستويات الدعم تقع، فإن مدى ومعدل تلك التغييرات لم يتم قياسها حتى الآن في ضوء الانظمة السياسية. (إن انعدام الدعم ـ على سبيل المثال كما في التمردات ـ قد تم التحقق منه: أنظر Gurr, 1970: 183-92; Jackson and Stein, 1971: 265-84; 347-59; Zimmermann, 1980:167-237) . من الناحية النظرية، فإن قياساً كهذا ليس مستحيلاً، ولكن من الناحية العملية لم يتم تجريبه. وبذلك، فليس بإمكاننا عند هذه النقطة تقييم مقدار الوقت الذي يستغرقه نظام سياسي ما كي يصبح أكثر أو أقل شعبية كنتيجة للتفاوتات في خصوصيات المجتمع، أو في مسلكيات أفراد المجتمع. وبمقدار ما تتطلب هذه الحالة من وقت، فإن دراسة الشرعية ستبقى غامضة الى حد ما و، كلازمة، إن النتائج حول مقدار الشرعية المطلوبة من قبل نظام سياسي كي يبقى على قيد الحياة ستظل غير دقيقة.

 

كثافة الدعم

حيث تقع تبدلات في مستوى الدعم، فإن ما يعقب ذلك أن كثافتها تتفاوت أيضاً. وبالتالي، فإن الدعم قد يتفاوت من كونه فعالاً للغاية والى كونه سلبياً بالكامل. إن المواطنين قد يميلون للتصرف بصورة ايجابية لصالح النظام السياسي، ومن جهة ثانية، فإنهم قد يتحاشون أي تصرف ضد السلطات والقبول بأي تصرف تقوم به طالما أنهم لن يتأثروا سلباً على المستوى الشخصي. وبناءً على ذلك، فباستثناء حين يكون هناك حالة طارئة أو حرب، فمن غير المثير للدهشة أن كثيراً من الانظمة السياسية يجب أن تكون قادرة على العمل بواسطة دعم سلبي فحسب.

في الحقيقة، إن الدعم السلبي قد يكون طريقة عادية حيث يرتبط السكان بالنظام السياسي في تلك البلدان حيث الدولة تنجز القليل، لا تخترق بصورة واضحة المجتمع، وأن لديها قلة من موظفي الخدمة المدنية الذين يديرون خدماتها. إن هذا الوضع يوصّف بدرجة أقرب البلدان التقليدية. في الحكومات القروية المهيمنة، على سبيل المثال، فإن تأثير النظام السياسي على المواطنين يبقى محدوداً. فالدولة لا تخترق المناطق لأنها لا تملك المصادر لتعيين المسؤولين بصورة واسعة في البلاد، وأيضاً بسبب مقاومة النخب الملحية. وفي حالات كهذه، فإن المعارضة الفاعلة للنظام ستمظهر نفسها فحسب إذا ما رغبت النخب المحلية في ذلك، وهي نقطة تتعلق بمدى الاندماج وليس الدعم الفردي. إن الوضع يختلف في المجتمعات النامية وفي المجتمعات التي لديها قاعدة عمرانية وصناعية قوية، حيث ان غالبية السكان متأثرة بالخدمات الاجتماعية، والاعمال العامة والنظام الضريبي المنظم. على أية حال، حتى في هذه الحالات، لا يجب التقليل من أهمية المدى الذي تقارب الدولة الحياة اليومية لمعظم الافراد.

 

الشرعية كـ (محصول اجمالي) لدعم الافراد

إن الدعم يتميز في حالات عديدة بواسطة مشاعر استسلامية وغامضة تجاه النظام و/أو الحكومة. وهذا الدعم يجب حينئذ أن يراكم لتقديم الانطباع للمستوى الاجمالي لمشروعية النظام السياسي. وكما رأينا، فإن اعضاء الحكومة يبدون مقادير متفاوتة من الدعم ـ حيث أن البعض، وإن بصورة محددة، يميل بدرجة ايجابية وشديدة الى السلطات، فإن آخرين معارضون لها، ويبقى هناك آخرون لا إلى هؤلاء ولا الى هؤلاء، أي محايدين في نظراتهم، فإن مدى المشروعية التي يتمتع بها نظام سياسي ما هي حاصل تظافر كل هذه التفاعلات.

إن الدعم القوي للبعض أو الدعم السلبي لكثيرين يمكنه أن يعوّض عن معارضة القلة، وعليه، وحيث أن الدعم الايجابي او المستقيل يتجاوز التفاعلات الايجابية، فإن النظام يمكن أن يقال عنه شرعياً بصورة نسبية، وكلما ازداد الفارق لصالح الدعم الايجابي، يزداد تبعاً له مقدار الشرعية.

 

الدعم ومصير الانظمة السياسية

في غياب قياس دقيق لتلك التفاعلات الايجابية والسلبية للنظام، فإن من المستحيل المضي بعيداً للقول بأنه بالنظر الى الخصائص التي قد حددناها (التغير البطيء نسبياً حيث العادات تكون قاعدة الدعم، ومستوى متصل من الدعم المستقيل)، فإن معظم الانظمة قد يتمتع بقدر كبير ولكن ليس عالياً من المشروعية، وهذا يمكِّن السلطات العامة لمواصلة البقاء في مواقعها، وخصوصاً اذا لم تقم بعمل مطالب جديدة كبيرة (والتي قد تعدل العادات الداعمة لكثيرين)، ما لم يحدث تغيير في المجتمع يفضي الى تغييرات في السلوك العام بين السكان. في مثل هذه الحالات، فإن السلطات قد تقوم بإدخال سياسات مصممة لارضاء تلك المطالب، وغير ذلك فإن الدعم من المحتمل أن يتقلص وأن احتمالية بروز تمظهرات للسخط تؤول ربما الى التمرد قد تزداد. إن هذه الاستراتيجية، على أية حال، تفرض مشكلة حيث ستكون هناك معارضة أيضاً لتلك التغييرات. إن التوتر لذلك قد يزداد مهما كان المقترح وأن الحكومة قد تلجأ الى القمع.

وعلى أية حال، فحتى في وضع كهذا، فإن تآكل المشروعية قد لا يؤدي (أو لايؤدي بسرعة) الى انهيار النظام، حيث قد لايكون هناك بديل جدير ومؤهل. في المؤدى النهائي، فإن السلطات العامة قد تكون بحاجة الى دعم فحسب حين تتعرض للتحدي بصورة مباشرة. بطبيعة الحال، حين يتضاءل الدعم، فإن مثل هذا التحدي قد يظهر بصورة طبيعية، ولكنه من غير المحتمل ان يقع بصورة عفوية وبالخصوص بدون وجود مجموعة تحظى بالاهتمام. ولهذا السبب فإن التمرد، دع عنك الثورة، يبدأ نادراً من انتفاضة شعبية عفوية، ولكن في الغالب جداً من خلال هيئة منظمة لا تكون مندمجة في النظام القائم. ولكن ما يحققه الدعم، حين يكون قوياً، يجعل ظهور تحدي قوي غير محتمل، وفي الواقع فإذا قام بعض العناصر بالافصاح عن معارضته، فإنهم سيجدون صدى قليلاً. حتى في حال كان السخط كبيراً وأن الدعم سلبي جداً، وأكثر من ذلك فسيكون هناك دائماً على الاقل بعض التأخير قبل أن يتم الاحساس بتداعيات الوضع، إن النظام من المحتمل ان يفيد من حقيقة كون التذمر يستغرق وقتاً قبل أن يتحول الى تحدي مؤثر.

 

الاندماج السياسي

إن الانظمة السياسية قد تعيش غالباً على الدعم السلبي التسليمي طالما ليس هناك نقطة محورية التي يمكن ان ينشأ منها التحدي. وهذا يعني أن العنصر الحاسم للمعادلة يتشكل من قبل توليفة جماعية. من الناحية العملية، فإن الجماعات وحدها التي تكون في موقع تشكل تحدي حقيقي. إن هؤلاء وحدهم أقوياء بدرجة كافية وأنهم يتحملون عناء حشد قوى المعارضة الكامنة حولهم. وعليه، فبالعكس، من أجل ان يكون الوضع آمناً، فإن نظاماً سياسياً ما يحتاج عملية الاندماج السياسي كي يكون عالياً.

وقد تم تعريف الاندماج السياسي (political integration) على أنه (جباية مشتركة لمعايير مقبولة ذات صلة بالسلوك السياسي والتزام بأنماط السلوك السياسي المشرعنة من قبل تلك المعايير) (Ake, 1967:3). إن أجزاء النظام السياسي يجب أن تكون على علاقة ببعضها بحيث تشكل وحدة منسجمة ككل. ويجب ألا يكون هناك هيئات تعارض بصورة مستمرة، وبقوة وعبر طائفة واسعة من القضايا، أعمال السلطات العامة (Rebushka and Shepsle, 1971:2-22; Young, 1976:23-65;Lijphart, 1977:1-24; Sartori, 1984:239-63)

 

المؤسسات والجماعات والاندماج السياسي

بطبيعة الحال، فإن الاندماج السياسي يتعلق من الناحية المبدئية بتلك الهياكل ـ المؤسسات والجماعات ـ التي تنشغل بصورة مباشرة في الحياة السياسية. إن الهيئات التي تستثنى بالكامل من الاعتبار هي الأندية الاجتماعية، والمنظمات الثقافية التي هي في الاصل غير مهمة من الناحية السياسية في دعم او معارضة نظام سياسي ما في البلاد.

على أية حال، فإن الهيئات التي هي من الناحية الخصائصية منشغلة بالحياة السياسية وكونها على درجة كبيرة من الحساسية في تقييم الاندماج السياسي،  هي المؤسسات الدستورية،  بما في ذلك السلطات المحلية، والاحزاب، وجماعات المصالح الكبيرة مثل الاتحادات العمالية والغرف التجارية والمنظمات المتخصصة بتطوير او الدفاع عن القضية البيئية والهيئات المحلية الاقليمية. وأكثر من ذلك، في العديد من الحكومات أن الجماعات ذات العلاقة هي تلك التي تشكل جزءا من النسيج التقليدي للمجتمع، مثل القبائل والجماعات الاثنية والهيئات الدينية.

 

مستويات الاندماج السياسي وخصائص الجماعات

إن الاندماج السياسي يتعلق بالمدى الذي يمكن لتلك الهياكل ـ المؤسسات والمجموعات ـ ان تكون مشدودة بالنظام السياسي. ومن أجل أن تكون تلك الروابط قوية، كما يذكر Ake (إن المعايير الخاصة بالسلوك السياسي) يجب أن تتقاسمها كافة الهياكل وهكذا السلطات المسؤولة عن النظام السياسي. وهناك للانصاف اختلافات واضحة في درجة تقاسم المعايير: فليس هناك في أي مكان مؤسسات او مجموعات منشغلة في نشاط سياسي على اتفاق تام على معايير تميّز النظام السياسي. وعليه، فيجب الاحالة الى الاندماج السياسي والذي يتفاوت من مستوى عالٍ جداً ولكن ليس كاملاً البته، الى مستوى منخفض جداً، وقد يكون من المحتمل فوق الحد الأدنى، حيث أن أدنى من الحد الادنى يعني ان الحكومة ستتفكك. وحيث ان مستويات الشرعية، ومستويات الاندماج السياسي يجب ان تقاس الى حد بعيد او يتم تقييمها بصورة دقيقة، ولكن لن يكون هناك شك في أن تلك المستويات مازالت باقية (Rogowski, 1974:143-97).

 

قوة المؤسسات والجماعات

إن مدى الاندماج السياسي يتأثر أيضاً بأهمية المؤسسات والجماعات. فالنزاع العرضي بين جماعة كبيرة جداً والنظام السياسي يمكن أن يكون أشد خطورة بالنسبة للنظام من المعارضة الدائمة لجماعة صغيرة جداً، حتى الجماعة التي انشغلت بصورة دائمة في النشاط السياسي. وعليه فإن الاندماج السياسي بحاجة الى تقييم بالنظر الى (ثقل او وزن) تلك المؤسسات والجماعات في النظام الحاكم، وفي حقيقة الأمر بالنظر الى التباينات في هذا الثقل بمرور الزمن. إن أهمية ذلك لم يتم حتى الآن قياسها، ولكن يمكن للمرء أن يعطي إنطباعاً حول مساراتها. وعند هذه النقطة، نكتفي بملاحظة أن أهمية المؤسسات والجماعات تعتمد على عنصرين: الاول حجم المشاكل التي يتم تغطيتها، وطبيعة الاتباع المساندين لها.

إن حجم المشاكل التي تغطيها المؤسسات والجماعات كما هو واضح كبير، وإن تلك المشاكل المتعلقة بكافة جوانب     

حياة الفرد، مثل القبائل في المجتمعات التقليدية، يمكن توقع أن تلعب دوراً كبيراً في تقرير أو تقدير المستوى الكلي للاندماج، فيما قد يكون لدى جماعات المصلحة الأكثر تخصصاً والتي يمكن العثور عليها في المجتمعات الصناعية دور أقل تأثيراً.

أما طبيعة الاتباع والمناصرين فهو أيضاً جوهري في تحديد التأثيرات الكامنة على الاندماج: إن لدى المؤسسات والجماعات تأثيراً فحسب إذا ما استطاعت الاعتماد على دعم مؤكد من أعضائها. وعليه، فبينما تتعلق الشرعية بالدعم الذي يحوزه النظام السياسي بصورة مباشرة في السكان، فإن الاندماج السياسي يتصل بالدعم الذي تمتلكه كل جماعة من قبل السكان. ولذلك، فإن الاندماج السياسي يمكن النظر اليه باعتباره شرعية غير مباشرة (indirect legitimacy ): إنها شرعية موجهة ومشفّعة من قبل الجماعات. ولذلك فإن السلطات العامة قلقة بصورة طبيعية من أجل تخفيض الدور الذي تلعبه المؤسسات والجماعات في المعادلة: من الواضح إنهم يفضلون الاعتماد بدرجة أساسية على الشرعية المباشرة (direct legitimacy).

ومن المحتمل عدم تحقيق هذه الرغبة، أو عدم تحقيقها مطلقاً في الغالب، والسبب أن المؤسسات والجماعات تظل باقية وأنها ليست داخل سلطة المؤسسات العامة لازالتها مجتمعة، بالرغم من أنهم قد يوصمونها بكونها غير شرعية وقد يتم قمعها. في الواقع، كلما ازدادت قوة الاتباع في المجتمع، كلما كانت قدرة الحكومة على قمع أو إزالة المؤسسات والجماعات أضعف: وحيث تحظى بعض المؤسسات والجماعات بدعم هائل، فإن الحكومة تصبح في واقع الأمر تحت رحمتها. وعليه، فطالما أن تلك المؤسسات والجماعات تقبل الواقع السياسي القائم، فإن النظام السياسي في مأمن، ولكن إذا ما تحدت واحدة أو أكثر من بين تلك المؤسسات والجماعات السلطات العامة، فإن الاخيرة تصبح في خطر جدي.

 

قادة المؤسسات والجماعات

بالنظر الى الدور الذي تلعبه بعض المؤسسات والجماعة المهمة، فإن قادة هذه الهيئات في موقع قوي: إن بإمكانهم تقويض وفي نهاية المطاف تدمير النظام السياسي. وعلى أية حال، فإنهم قادرون فحسب إذا ما حملوا أتباعهم معهم على فعل ذلك. إن قادة المؤسسات والجماعات بحاجة الى دعم الاتباع كيما يكونوا قادرين على فعل شيء ما، وبنفس الاسلوب تماماً كما أن قادة النظام السياسي الوطني بحاجة الى دعم السكان.

إن الدعم من قبل المؤسسات والجماعات له نفس خصائص الدعم في النظام السياسي، وقد يكون منبثاً بدرجة أكثر أو أقل، أو محدداً بدرجة أكبر او أصغر، وقد يتفاوت بمرور الوقت، وقد يكون أقوى بدرجة أكبر أو أصغر، فكثير من الاعضاء في تلك الهياكل قد يكونوا، على سبيل المثال، داعمين سلبيين. وهذا يعني، أن القادة ليسوا أحراراً للتحرك في أي إتجاه يرغبون فيه بينما يحافظون على دعمهم متماسكاً أكثر من السلطات السياسية الوطنية فيما يخص عموم السكان. إن حرية قادة المؤسسات والجماعات مقيدة بشكل خاص حين، كما يذكر Ake، يكون هناك (منظومة من المعايير المقبولة المشتركة) بين السكان. وحينئذ تتم المحافظة على الاندماج السياسي لأن القادة غير قادرين على التصرف خارج حدود معينة بدون تهديد وضعهم الشخصي في المؤسسة أو الجماعة، أو حتى تهديد وجود الهيئة التي يديرونها (أنظر: Blau, 1964: 168-223).

 

الاندماج السياسي والمجتمعات التعددية

إن الاندماج السياسي هو حول مدى الانسجام الواسع بين قادة المؤسسات والجماعات مع السلطات الوطنية، أو المدى الذي يود هؤلاء القادة منازعة السلطات. فليس بمقدور كل قادة المؤسسات او الجماعات الانخراط في الصراعات، ولكن بعضهم قادر على فعل ذلك بطريقة مؤثرة. ولكن في المجمل وبصورة عامة، فإن قادة هذه الهياكل، حيث يكون الدعم قائماً على التقاليد، هم من المحتمل بدرجة كبيرة قادرين على القيام بذلك الدور اكثر من

أولئك الذين يقودون مؤسسات او جماعات تعتمد في دعمها على الحسابات الجديرة بالفائدة. ولذلك هناك احتمالية كبيرة أن تكون المؤسسات والجماعات قوية ومستقلة إذا ما كانت قديمة وتنتمي الى نسيج المجتمع كالهيئات القبلية والاثنية والدينية. إن الهيئات الجديدة، في المقابل، لا تملك عادة دعماً كافياً لتحدي بدرجة كبيرة السلطات الوطنية، إنهم من المحتمل أيضاً أن يواجهوا معارضة المؤسسات أو الجماعات التقليدية الممتدة في الماضي، والتي يخافون من خسارة دعمها.

وكما هو شأن دعم الافراد، فإن الاندماج السياسي ـ أي بمعنى المدى الذي تكون فيه المؤسسات والجماعات لصيقة بالنظام السياسي ـ يتأثر بالاوضاع الاجتماعية والاقتصادية. فإذا كان المجتمع جامداً (والى حد ما معزولاً عن تأثير النظم الحكومية الأخرى)، فإن قوة الهياكل ذات العلاقة بالنظام السياسي ستنتهي دون تغيير. وعليه، فكلما كانت درجة الاندماج مرتفعةً، فإنها ستبقى كذلك اي مرتفعة، وحين تكون الهياكل والنظام السياسي في حالة غير منسجمة، فإن فرصة النزاع ستبقى كبيرة. إن هذا يحدث في المجتمعات التعددية، بمعنى تلك الحكومات حيث بعض الجماعات (وعادة الجماعات القبلية والاثنية او القبلية) تكون محصنة بقوة وانها في نزاع دائم مع النظام السياسي الوطني ومع الهياكل الاخرى. إنها المؤسسات التي تتفعل حين تقترب الثورة من لحظة الاندلاع: هناك أمثلة يمكن العثور عليها في أجزاء عديدة من العالم، من ايرلندا الشمالية الى أوغندا ومن قبرص الى سريلانكا (أنظر: Gurr, 1970:317-59; Rabushka and Shepsle, 1972:62-92; Lijphart, 1977:142-76; Horowitz, 1985:185-228).

من جهة أخرى، في حال تغيرت، على سبيل المثال، الظروف الاجتماعية، تحت تأثير عملية التصنيع أو الحراك الجغرافي، فإن العلاقات بين الهياكل والنظام السياسي ستتعدل. إن مدى الاندماج السياسي سيتغير أيضاً، وفي بعض الاحيان لصالح المؤسسات أو الجماعات، وفي بعض الاحيان لفائدة النظام السياسي. إن دعم المؤسسات والجماعات قد يصبح متآكلاً وقد يزيد في المشاعر الوطنية، ولكن الهيئات الجديدة قد تتشكل وقد تقع في نزاع مع سلطات النظام السياسي. إن هذا الوضع قد يكون متفاقماً كنتيجة لدور او تصرف البلدان المجاورة، أو جماعات خاضعة تحت تأثير تلك الدول.

وعليه، فإن المشاكل التي تطرحها عملية الاندماج السياسي للعديد من الانظمة هي كبيرة، وعند حد يمكن يؤدي الى تكسير السلطة. ما يوصف أحياناً على أنه (نهاية الامبراطوريات) هو في واقع الأمر مثال على المجتمعات التعددية التي لم تعد في وضع يسمح لها البقاء مع بعضها فترة أطول، سواء بالنسبة الى هنغاريا النمساوية بعد الحرب العالمية الاولى، او الممالك الاستعمارية للبلدان الاوروربية بعد الحرب العالمية الثانية، أو بالنسبة للاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا في أواخر الثمانينات. إن تأثير الجماعات وبصورة رئيسية الاثنية، وأيضاً الدينية وحتى القبلية كانت أقوى من الدعم الذي يمكن لنظام سياسي أن يحشده للحفاظ على الوحدة. وليس هناك ما يدعو للدهشة، حيث أنه في ظروف كهذه، فإن السلطات العامة غالباً ما تغري بمعارضة عمل المؤسسات أو الجماعات بوسيلة قهرية. هل يمكن أن يكون ذلك حلاً حقيقياً أم أن هناك حدوداً لمدى القمع الذي يمكن للنظام ان يفرضها بدون تهديد مستقبله؟.

 

 

الدولة والمجتمعات التعددية

تقليدياً، تعتبر المجتمعات التعددية غير قابلة للضبط والادارة. إنهم كما يبدو يؤولون الى الحروب الاهلية، كما ظهر ذلك في كل من الغرب والشرق، والشمال والجنوب. إن الفرضية التي يؤمن بها علماء الاجتماع بدرجة كبيرة في العقود الاولى من القرن الماضي أن المشاكل التي تفرضها المجتمعات التعددية كونها من الناحية الجوهرية ناشئة عن نزاعات إثنية ودينية، قد تلاشت تدريجياً، حيث أن العقائد الاثنية والدينية إنحسرت. وسواء كان من المقدَّر لتلك النظرة أن تصبح صحيحة خلال فترة طويلة جداً فإن من المستحيل القول: إنها من الواضح لا تبدو صحيحة خلال الفترة القصيرة او متوسطة المدى.

وهناك كما يبدو مقاربتان للمشاكل المفروضة من قبل المجتمعات التعددية، حيث أن الحل الوحشي للغاية للابادة الجماعية غير مقبول على الاطلاق. إن المقاربة الاولى تتشكل من محاولة ازالة المشكلة من خلال تقسيم الاقليم الخاص الى ولايات حيث تصادف حافاتها مع تلك الخاصة بالجماعات الدينية والاثنية. إن هذا الحل قد تم تجريبه، وبصورة خاصة بعد الحرب العالمية الاولى في أوروبا الشرقية، ولكن الصعوبات كانت تعود للبروز دائماً على السطح لأن الجماعات الاثنية والدينية نادراً ما تكون مجاورة لبعضها مناطقيا. إن الطريقة الوحيدة لجعل الحل حيوياً هو في نقل السكان، ولكن فقط بعد الحروب، ولكن هذا الحل غير عملي.

وعليه، فإن المقاربة الاخرى، والتي تستمد من قبول أن المجتمع تعددي ومن تركيبه تبعاً لذلك. على أية حال، إن مقاربة كهذه تسير ضد مبادىء تنظيم الدولة، على الاقل تلك المبادىء التي تم تطويرها في الغرب مثل: أن للدولة تكويناً اقليمياً، وأن هناك مناطق، ومقاطعات، ومدناً، وقرى، وجميعها تحتفظ بحدود جغرافية. ولذلك، فإن الشعب غير موزّع أو منقسم بناء على الفئات الاثنية أو الدينية او الاجتماعية. في واقع الأمر، أن الدولة الغربية، غالباً ما كانت مباركة كونها تنكر التمايزات الاجتماعية: من الناحية العملية، على أية حال، فإن الاقليات قد يتم نسيناها.

ولذلك، فإن من الصعب التوفيق بين الدولة والمجتمع التعددي. إن عدم المركزية تساعد الى حد ما، ولكن فقط إذا كانت الهيئات التي تمنح سلطات أكبر في هذا المجال هي إقليمية أيضاً. إن المشكلة تسير الى أعمق من ذلك: ماهو الرهان على قدرة الانظمة السياسية لتحمل المشاكل المفروضة من قبل المجتمعات التعددية.. إن هذا قد يعني مفهوماً مختلفاً للعلاقة بين الدولة والفئات الاجتماعية.

 

الانظمة السياسية القمعية والدكتاتوريات

إن الانظمة القمعية واسعة الانتشار: في العالم المعاصر، من المحتمل أن تستحق أغلبية الانظمة أن توصف بهذه الطريقة، وأن ثمة أقلية تستعمل وسائل وحشية للغاية. إن المثال المكرور حول الانقلابات ـ العسكرية وغيرها ـ هي دليل على عظم المشكلة، رغم أن الانقلابات (والثورات) تقع إما لتشكيل او إزالة أنظمة دكتاتورية.

إن الوسيلة التي تجعل الانظمة القمعية قادرة على المحافظة على نفسها في السلطة معروفة، وليس فقط الحريات الأكثر تعقيداً، مثل حرية الصحافة والتظاهر، التي تم تقليصها او ازالتها، فيما كانت الانتخابات قد زوّرت أو تم تأجيلها أو لم تتم الدعوة اليها من رأس، ولكن الحقوق الاساسية للأفراد توضع جانباً، وأن خصوم الحكومة يتم تطويقهم او عزلهم أو اعتقالهم أو قتلهم. في غضون ذلك، فإن الدعاية الحكومية تهيمن على الاعلام، وعليه تضمن بأن المعلومات ستكون مقيدة بالاخبار التي تود السلطات العامة بثها. في واقع الأمر، ليس هناك فيما يبدو حد للتدابير القمعية التي يمكن لدولة تسلطية أن تتنباها، إن الاكتشافات التقنية الحديثة قد أضافت بدرجة فاعلة الى أدوات السيطرة وأن التعليم كان تقليدياً في خدمة الحكومات (أنظر: Friedrich and Brezinski, 1965; Holmes, 1986: 58-75; 379-401).

 

الدكتاتوريات الهيكلية       

هناك بعض الظروف المجتمعية التي تجعل من المحتمل إن لم يكن من المؤكد نشوء الدكتاتوريات أو الانظمة الديكتاتورية. وبصورة اجمالية، فإن الحكومة الدكتاتورية قد تأتي للسلطة حين تكون النزاعات بين المؤسسات والجماعات بلغت درجة بحيث لا يمكن للتعايش ان يتم لأن الاندماج السياسي منخفض. في ظروف كهذه، يمكن وصف الدكتاتورية بأنها هيكلية، فيما تكون الدكتاتورية فنية إذا ما نشأت كنتيجة للتنافس بين عدد من القادة السياسيين. من الناحية العملية، فإن التمايز ليس دائماً جلياً، حيث أن العديد من الدكتاتوريات اشتملت على عناصر شخصية ومجتمعية (أنظر: Duverger, 1961: 21-109).

 إن الدكتاتوريات الهيكلية تحدث حين تكون الانقسامات المجتمعية عميقة، وفي مثل هذه الحالة، فإن قطاعات مختلفة من النظام السياسي لا تريد الاتفاق على المصالحة. إن هذه الاوضاع تحدث بصورة رئيسية خلال أوقات التغيير الاجتماعـ ـ اقتصادي المعقد: حيث تفقد الهياكل التقليدية الدعم، فيما تنشأ مجموعات جديدة حيث يريد أعضاؤها إسراع خطى التغيير. إن التوتر غالباً ما يزداد بفعل النفوذ المباشر أو غير المباشر للبلدان المجاورة، حيث أن التحقق من أن المجتمعات الأخرى تمارس أداء أفضل من الناحية الاقتصادية والاجتماعية بوصفها حافزاً بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في إدخال تغيير. في ظروف كهذه، تبدأ الانقسامات العميقة بالوقوع بين المؤيدين لنماذج مختلفة من المجتمع، حتى حين يكون النظام السياسي قد تمتع سابقاً بمستويات عالية من الدعم واندماج المجموع. إن المصالحة تصبح صعبة الانجاز وأن حكومة او نظاماً قوياً يمكن لذلك أن تصل غالباً الى السلطة وفرض وجهات نظرها، ولذلك فإن الدكتاتوريات الهيكلية تقع خلال مرحلة الاقلاع الاقتصادي.

وقد تكون الدكتاتورية متقدمة، إذا ما كانت القوى الراغبة في إسراع خطى التغيير قادرة على قمع المجاميع التقليدية، كما حصل في أثيوبيا في السبعينيات والثمانينيات. قد تكون الدكتاتورية محافظة اذا ما حصل العكس، كما كان الحال في تشيلي من عام 1973 الى نهاية الثمانينيات. في واقع الأمر، سيكون هناك غالباً تقلبات بين أحد أشكال الدكتاتورية وآخر، حيث أن تكاليف تنظيم دكتاتورية فاعلة باهضة في الغالب حيث أن المعارضة قد تجد وسيلة للاطاحة بالدكتاتورية خلال سنوات قليلة.

وهناك احتمالية ضئيلة لظهور دكتاتورية في مجتمعات تقليدية مستقرة حيث تهيمن بعض المجاميع الكبيرة. إنها أيضاً نادرة في المجتمعات المتقدمة للغاية، حيث أن مجموعات المصالح المتخصصة والهيئات ترغب في تطوير قضايا متعددة جداً كيما تكون قادرة على تصعيد هجوم مدبر، وقد تريد شن هجوم مدبر ضد النظام السياسي. وعلى أية حال، حتى خلال مرحلة الاقلاع، فإن البلدان قد تكون محكومة بنظام دكتاتوري اذا بقي التوتر في المجتمع  منخفضاً نسبياً. وهذا قد يقع إذا ما كانت الحكومة في الاصل مندمجة بصورة جيدة، إذا كان كانت خطوة التغيير بطيئة نسبية، واذا كان بعض الهياكل السياسية يجسِّر الفجوة بين العناصر التقليدية والحديثة في المجتمع. على سبيل المثال، إذا كانت الاحزاب السياسية قادرة على تمثيل عناصر كل منها. إن هذا التظافر الخاص لمجموعة عوامل يفضي الى تغيير تدريجي كما يلحظ ذلك بصورة رئيسية في المجتمعات المنسجمة والتي لديها تاريخ عريق نسبياً والتي بقيت حدودها الجغرافية ثابته لأجيال عديدة. إن حالات مثل بريطانيا العظمى والسويد قد تقابل حالات اخرى مثل فرنسا والمانيا وايطاليا واسبانيا. ومن غير المدهش، على أية حال، أن معظم المجتمعات وبالخصوص الحكومات المؤسسة حديثاً قد تواجه صعوبة في تحاشي فترات الحكم الدكتاتوري.

 

صعوبات أمام الأنظمة التسلطية

إن حقيقة كون الانظمة الدكتاتورية غالباً من تنجح فقط لفترة معينة تفيد بأن من المحتمل أنه ليس بالامكان بالنسبة لنظام سياسي تسلطي أن يكون حيوياً، أو على الأقل بأن الشروط التي على أساسها يمكن لتلك الدكتاتوريات البقاء مأزومة أو شديدة.

أولاً: إن ثمة تكاليف متطلبة لبناء وتعزيز جهاز قمعي، وإن إرساء مجموعة أشكال من السيطرة تدعو الى أن يكون حجم الشرطة والجيش كبيراً بدرجة كافية كي يكونوا قادرين على ممارسة الرقابة على كافة أرجاء البلاد، وهذا كما هو واضح مكلف حيث أن بإمكان السلطات العامة أن تحوز على وسيلة قمع شديدة التعقيد فقط في الدول الثرية نسبياً. ولذلك ففي دكتاتوريات العالم الثالث، إن المدى الذي يصل اليه القمع غالباً ما يكون محدوداً أكثر مما يبدو. وبصورة خاصة، في المناطق القروية فإن مقدار الطاعة المستمدة من السكان تتفاوت بدرجة كبيرة. ولهذا السبب فإن مدى اختراق الدولة يعتبر متغيراً حاسماً: فلن تكون هناك حكومة تسلطية ما لم يكن هناك مستوى عال  من اختراق الدولة.

ثانياً: في حال وجود مشكلة جدية تواجه الدكتاتوريات فإن ثمة حاجة الى تجنيد قوات مأمونة لممارسة القمع. واذا كان السكان خصاميين فإن السلطات العامة يجب عليها ان تختار بصورة حذرة أولئك الذين يجب ان يضطلعوا بعملية القمع. في بعض الاحوال، قد تتحقق تلك العملية باللجوء الى الرخاء النسبي، على سبيل المثال حين تكون المعارضة متركّزة في قبيلة معينة، او عنصر إثني إو كيان ديني. إن أعضاء جماعات أخرى قد يتم استعمالهم لفرض الالتزام، وعليه فإن المدراء وضباط الشرطة وحتى الجيش قد يتم ارسالهم غالباً الى أجزاء مختلفة من البلاد في سبيل تأمين مستويات أكبر من الالتزام بالنظام. ولكن حقيقة كون النظام قادراً على الاعتماد على عنصر واحد من السكان لاضطهاد الآخرين يعني أيضاً أن النظام يتمتع ببعض الدعم بين السكان. واذا لم يكن هناك أي دعم على الاطلاق، أو كان هناك قدر ضئيل جداً من الدعم، فإن هناك إحتمالية عالية بأن النظام لن يجد ـ أو يجد لفترة طويلة جداً ـ عددا كبيرا من الاشخاص الذين يمكنه الاعتماد عليهم لفرض القمع.

 

تأسيس الاحزاب والحركات للسيطرة على السكان     

إن بإمكان السلطات العامة محاولة خلق الدعم من خلال توليفة من الانعامات الشخصية والتثقيف السياسي (political education). وهذا هو التفسير وراء خلق الحركات الشعبية او الجماهيرية، وفي المثال الأول الاحزاب السياسية في العديد من الانظمة القمعية. إن هذا التطور قد  إنتشر بصورة خاصة في الدكتاتوريات المعاصرة، والسبب في ذلك جزئياً أن من السهل تأسيس تلك الحركات كنتيجة لتطور تقنيات الاتصال الحديث. ولكن من المكلف بناء مثل هذه التنظيمات، وأنها تستغرق وقتاً ـ وفي الغالب وقتاً طويلاً ـ للاطمئنان بأن الاعضاء الفاعلين يحظون بالفعل بدرجة عالية من الثقة والموثوقية. ولهذا السبب فإن العديد من هذه التنظيمات تبقى مجرد حبر على ورق أكثر من كونها واقعاً، كما كان الحال غالباً بالنسبة لأنظمة الحزب الواحد في أفريقيا السوداء. ولهذا السبب أيضاً لماذا الاحزاب، التي تبقى على قيد الحياة لفترة طويلة من الوقت، هي تلك التي تأسست تحت ظروف خاصة، على سبيل المثال خلال حرب الاستقلال، أو بمساعدة دولة أجنبية التي أضافت مصادر خارجية للمجهود القمعي. كان ذلك هو الحال حين رسّخ الاتحاد السوفييتي الانظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية.

إن من الصعب بناء آليات القمع بل من الصعب أيضاً الابقاء عليها لأنها بحاجة كي تكون ممتدة وبالتحديد في البلدان التي يكون فيها عموم السكان في خصام مع السلطة. إن الجهود المبذولة لتثقيف السكان بعيداً عن الجماعات التقليدية ومن المعايير التي تدعمها تلك الجماعات هي في الغالب غير ناجحة. إن المعايير التقليدية المجسّدة في جماعات مثل الكيانات القبلية والاثنية والدينية، والتي تهيمن بقبضتها على الاعضاء، فإنها تثبت من الناحية التقليدية بأنها أقوى. ولهذا السبب فإن التكتيك الآخر للسلطات العامة يستمد من محاولة حشد هذه الهياكل مع بعضها بدلاً من التعارض بينها. إن الفكرة تكمن في تأليف الجماعات في محاولة لبناء الامة. على أية حال، إن هذا التكتيك هو الآخر ليس ناجحاً لأن الكيانات التقليدية ببساطة قد لا تريد العمل من أجل وطن موحد. في العديد من الحالات، في أفريقيا السوداء بعد الاستقلال على سبيل المثال، سعت الحكومة الى تنشئة سياسة التوافق، ولكن هذه السياسة لم تفلح في إخماد النزاعات القبلية والاثنية،  حيث أن بعضها تطور الى حرب اهلية.

وفي المجمل، إن القمع يبدو غير قادر على التغلب على  المعارضة المصصمة للجماعات القوية. وحتى في الدول الشيوعية، فإنه بالرغم من الجهود الحازمة التي بذلت خلال فترات طويلة من الوقت لازالة الجماعات التقليدية أو حتى تخفيض قوتها بدرجة كبيرة، فإن النتيجة كانت فاشلة. إن انهيار الانظمة الشيوعية أبرزت الجماعات التقليدية مرة أخرى الى الواجهة. وليس مما يدعو للدهشة أن محاولة تخفيض قوة الجماعات التقليدية كان هو الآخر أكثر فشلاً في بلدان العالم الثالث، حيث بقيت الدكتاتوريات لفترات قصيرة، فيما كانت لديها مصادر أقل تحت تصرفها للسيطرة على نظام الحكم.

 

تلخيص اجمالي

إن المتطلب الاساسي الحاسم لاستقرار الانظمة السياسية يستمد من الدعم الذي تتمتع به هذه الانظمة. وحين يكون الدعم غير كافٍ، فإن الانظمة السياسية يجب أن تعتمد على القمع او الانهيار.

إن الدعم الذي يطال الانظمة السياسية يأخذ شكلين، فهناك دعم مباشر من السكان، وفي الغالب سلبي ومنبث، ولكن جزئياً بصورة محددة مرتبط بالسياسات التي تتبناها السلطات العامة. إن نوع الدعم يحال اليه على أنه الشرعية.

إن الشكل الآخر من الدعم هو غير المباشر والذي يتم عبر الهياكل ـ المؤسسات والجماعات ـ والتي توجد في النظام السياسي. إن أولئك الذين ينتمون الى المؤسسات والجماعات يدعمون تلك الكيانات (بقوة أكثر او أقل، وبتسليمية أكثر او أقل).

إن الجماعات (ومن الناحية العملية القيادات فيها) في المقابل يدعمون أو لا يدعمون النظام السياسي. ولذلك فإن القيادات لديها سلطة معتبرة، حيث أنها تكون قادرة على الحصول على دعم من النظام السياسي واستخراج مزايا للمؤسسة او المجموعة او لأنفسهم.

إن النظام السياسي الذي تكون فيه الهياكل متآلفة ومتشابكة مع النظام السياسي يرجع اليها على أنها تملك درجة عالية من الاندماج، إن المجتمعات التي يكون فيها الاندماج منخفضاً هي المجتمعات التعددية.

إن كلاً من الشرعية والاندماج قد يختلفان بصورة كبيرة بمرور الزمن، كنتيجة للتغييرات في نظرات السكان ومسالكهم، وهكذا في التأثيرات الخارجية، وفي السياسات التي تطبقها السلطات العامة.

الدكتاتوريات هي أنظمة تتمتع بقليل من الدعم وتحاول الحفاظ على وجودها عن طريق القمع. إن المستوى المتدني من الدعم غالباً ما يكون نتيجة للتغييرات في التركيبة الاجتماعـ ـ اقتصادية، وعليه فإن في العالم المعاصر العديد من الدكتاتوريات التي بقيت في بلدان خلال عملية التنمية، سواء كانت شيوعية، شعوبية، او تسلطية غير عادلة.

وحيث أن العديد من الانظمة نجحت في الحفاظ على وجودها لمدة من الزمن عن طريق استعمال القمع، فإن تكاليف الجهاز القمعي كانت كبيرة حيث أن الدكتاتوريات لم تتمكن من البقاء أكثر من المدة المحددة.

إن الدعم والقمع هما مكوّنان للحياة السياسية التي بالرغم وفي حقيقة الأمر كونهما متعارضين جذرياً فبالامكان النظر اليهما باعتبارهما تشكيلة واحدة. ووفق هذا النوع من التحليل والربط فقط يمكن للمرء أن يدرك خصائص وديناميات الانظمة السياسية بصرف النظر عن  النفور الذي يحمله للدكتاتوريات.