بعد مرور عام على اعتقال الاصلاحيين الثلاثة

لا بشارة خير في أجندة الحكومة

 

في السادس عشر من مارس شهدت المسيرة الاصلاحية في المملكة إنتكاسة أخرى، تندرج ضمن قائمة طويلة من الانتكاسات، حيث كان القمع وسيلة ولغة تخاطب لجأت اليها السلطات السعودية للتعامل مع النشاط الاصلاحي السلمي والهادىء.. صحيح أن مسيرة الاصلاح توقفت بصورة مؤقته، وصحيح أيضاً أن عدداً من رموز المسيرة الاصلاحية قيد الاعتقال التعسفي، وصحيح أن الحريات العامة وبخاصة حرية التعبير قد أثخنت بفعل تدابير القمع، الا أن الصحيح أيضاً أن مشروع الاصلاح نجح بإمتياز في فرض جدارته ومصداقيته على الداخل والخارج. وعلى العكس، واجه الفعل الاصلاحي الرسمي عزوفاً ونقداً من القوى الاصلاحية في الداخل والخارج ومن المجتمع الدولي، ولم يكن مستغرباً أن يكرر الرئيس الاميركي في مناسبتين متلاحقتين دعوته للحكومة السعودية بإدخال المزيد من الاصلاحات معتبراً الانتخابات البلدية خطوة غير كافية.. وقد أعقب تلك الدعوة تصريحات مماثلة لوزيرة الخارجية كونالديزا رايس خلال زيارتها لأوروبا. ومما يلفت الانتباه أيضاً دعوة المستشار الالماني القيادة السياسية خلال زيارته للرياض الى المزيد من الاصلاحات.. إن هذه التصريحات تلفت الى حقيقة أن الرسالة التي كانت تطمح الحكومة السعودية الى إيصالها للخارج عن طريق الانتخابات البلدية لم تنل القدر المأمول من الاهتمام والجاذبية، فقد جرى التعامل معها بنكران وأحياناً بإزدراء وفي أحيان أخرى وضعت تلك الخطوة في حجمها الطبيعي.

خلال عام كامل، تبدّل المشهد المحلي بفعل إصرار السلطات الرسمية على تجاوز الارادة الشعبية العارمة التي التقت بصورة فريدة في تاريخ هذا البلد المنقسم على نفسه، على الاصلاح السياسي والشامل، ومازالت القيادة السياسية في المملكة تصرّ على إغفال التحولات المحلية والدولية، والنظر الى الدولة بوصفها إرثاً عائلياً لا يجب التفريط فيها او مقاسمته. ففي لقاء جمع قيادة خليجية بولي العهد الامير عبد الله، ودار الحديث عن أهمية التعاطي مع متغيرات الوضع الداخلي والاقليمي والدولي بعقلية جديدة، وشرحت القيادة الخليجية المكاسب التي حصلت عليها بلاده من وراء إجراء تغييرات ديمقراطية أدت في نهاية المطاف الى احتواء التوترات الداخلية وأعمال العنف التي شهدتها بلاده على مدار سنوات، وكيف أن التغييرات الديمقراطية نجحت في تحقيق اقوى اصطفاف حول السلطة في تاريخ هذا البلد الخليجي.. حسب بعض المصادر المقربة من القيادة الخليجية أن الامير عبد الله لم يكن في وارد مايجري ولم يكن يولي إهتماماً من أي نوع لدور التغييرات الديمقراطية في بلاده او اعتبارها خياراً يجب ان تسلكه الحكومة في سبيل معالجة مشكلاتها الداخلية.. وحسب المصدر نفسه، فقد داهمت الامير عبد الله سورة غضب وكان يتحدث بإنفعال وكأن القيادة الخليجية قد جاءت تبلغه نبأ حزيناً أو تنازعه في ملكه.

يذكّرنا هذا الموقف، باللقاء الذي جمع الامير نايف وزير الداخلية وعدد من الرموز الاصلاحية الموقعين على عريضة (الملكية الدستورية)، حيث قال الامير بأن أصحاب العريضة (يريدون أن يضعوا الامير عبد الله على الرف).. وهذا الكلام يتجاوز حد التشويه لمفهوم الملكية الدستورية ويندرج في سياق الانقطاع عن واقع لم يعد بالامكان التعاطي معه بعقلية الماضي، أي بعقلية شيخ القبيلة الذي يقرر مصير ومسار من يلي من أمر رعيته، والذي يضع نفسه في مقام المنّان والمحسن على من يعول.

مكمن مأزق الحكم في بلادنا أن ثمة ذهولاً مقصوداً او ربما عفوياً عن أن الوضع الراهن لا يحتمل خطوات عرجاء وخطوط عوجاء في مسيرة الاصلاح، فكل ما حولنا يتغير بوتيرة سريعة، ولا يمكن لقطار التغيير أن يغير مساره نحو الديمقراطية، فهناك وجهة واحدة يسير اليها الجميع..

قالوا بأننا لا نخضع لضغوطات الخارج وأصرّوا على الاصلاح من الداخل، وفق شروط ومتطلبات محلية وتحت لافتة وهمية أسمها (الخصوصية)، فجاءهم النداء من داخل الدار: وهل هناك من يمنعكم من الاصلاح من الداخل، فهلا بدأتم؟.. ولكن ما إن تم الاعلان عن رفض الاصلاح من الخارج حتى بدأت العائلة المالكة في تنفيذ تدابير قطع دابر الاصلاح في الداخل، إدراكاً منها بأن لا اصلاح في الداخل بدون ضغوطات من الخارج، ولذلك ما إن اطمئنت للخارج حتى شنّت حملة قمعية ضد رموز التيار الاصلاحي، فاعتقلت بعضاً وأكرهت بعضاً آخر على التوقيع على تعهدات خطية بوقف تام للنشاط السياسي والاعلامي، وحرمتهم جميعاً من حقوقهم المدنية كحرية الحركة أو السفر والحصول على مصدر رزق أو الوظيفة.. ثم ألحقت ذلك بسلسلة تدابير قمعية ضد حرية الصحافة وفي اقتلاع الفكرة الاصلاحية من الخطاب الرسمي والشعبي. لقد أحبطت العائلة المالكة مشروع الاصلاح من الداخل، على أمل أن تغري بأجندة إصلاحية متهالكة تحمل رائحة الديمقراطية مثل إنتخابات المجالس البلدية  ولكنها بالتأكيد تقصر عن تلبية الحد الادنى من شروط الدمقرطة الحقيقية.

وسنواجه مع بدء عمل المجالس البلدية أزمة الدولة نفسها، من خلال جهازها البيروقراطي المنخور من داخله، وسيتم اكتشاف العطب الخطير في سيرورة الدولة، فالمجالس التي لم يتقرر حتى الآن مقارها ولا نظام عملها الداخلي فضلاً عن كون وظائفها المقررة بحسب نظام المجالس البلدية الصادر قبل ثلاثين عاماً يجعل من الاحتفالية الانتخابية غير متساوية من حيث التطلع المأمول مع المقرر لها في مرسوم المجالس البلدية.

إن إختفاء المظاهر الاحتفالية البدائية بعد نهاية المرحلة الاخيرة من انتخابات المجالس البلدية في المنطقة الغربية سيكشف عن مأزق حقيقي سيواجهه الذين شاركوا بحماسة عالية في العملية الانتخابية، فقد تتحول الانتخابات في بعض أجزاء الدولة الى ما يشبه القناع الذي يخفي وراءه حقيقة مرّة وربما صادمة. وما يجب فهمه هو واقع هذه السلطة نفسها، إذ لا يمكن لانتخابات بلدية أن تعدّل في ميزان القوى بين الحكومة والشعب، كما لا يمكن أن تؤسس لعملية صناعة قرار متوازن يشارك فيه أطراف عدة.. إن مجالس بلدية كهذه وبالصيغة الغامضة التي تحفها لا يمكن لها أن تضبط تصرفات الدولة حتى في المجال الحيوي لعمل المجالس، فضلاً عن الانتقال الى مجالات أخرى قريبة أو ذات صلة بشؤون المجتمع والخدمات العمومية.

لا يمكن لمجالس بلدية أن تعمل بصورة منفردة في ظل وجود جهاز بيروقراطي متغوّل، فهذه المجالس تخضع لمرجعية الدولة عبر وزارتي البلديات والمالية، اللتين تمسكان بمصدري القوة الحقيقية: المال والقرار. ومن المتوقع أن تخلق المجالس البلدية مناخاً لتجاذبات من نوع ما بين المجتمع والدولة، وستكون المجالس فناءً يلتقي فيه المتضررون والمستفيدون، وبالتالي فإن الاحتمالات مفتوحة ومن المرجح ان تتفاوت بين أن تتحول المجاس الى (قناة) للتعبير عن هموم المجتمع ومشكلاته، أو أن تصاب المجالس بالشلل والانهيار تحت ضغط الطبقة البيروقراطية التي تقبض على أزمة الأمور في البلاد.

وبموجب طبيعة الدولة، العقل العلوي للمجتمع، فإنها لا تروم إعطاء المجالس البلدية حجماً يسلبها رونقها وتفوقها، فستظل آية السلطة بارزة وأن مرجعيتها لا تضاهيها مرجعية أخرى مهما علت، ولن تقصّر عن عرض ذاتها على المجتمع كقوة سامية ونهائية.

تدرك الطبقة السياسية، وبخاصة العائلة المالكة أن الاحتفاظ بقدر كبير من الهيمنة يتطلب الاحتفاظ بعدد كبير من الاوراق، وبمصادر مختلفة من القوة في عملية صناعة القرار، وستنظر الطبقة الحاكمة الى كل من وما ينافسها في الهيمنة على المجتمع باعتباره عدواناً عليها، فليس هناك مشترك في الهيمنة والسلطة بين العائلة المالكة والمجتمع عبر ممثليه، فهذه المشاركة في حدودها الدنيا مازالت مرفوضة او لنضعها في عبارتها الصحيحة غير مدركة في وعي الطبقة الحاكمة.

إن عاهات السلطة ستترك أثرها الفادح في أداء المجالس البلدية، ومن الضروري وقبل استعمال المجالس كشماعة تُعلق عليها مشكلات الدولة، أن يتجاوز الفائزون في انتخابات المجالس البلدية أغراض الحملة الدعائية ومواجهة الحقائق كما هي في الدولة، فهذه المجالس تأتي في أجواء شديدة التأزم تدفعها مشكلات مزمنة الى الواجهة، ولا يتوقف حلها على مجرد فتح كوّة صغيرة ينفذ منها الهواء لازالة اختناقات شديدة في قنوات الجهاز الدولتي.

فيما يبدو من سيرة الانتخابات البلدية وبخاصة في المنطقة الشرقية، والتي بدا وكأنها معركة إثبات وجود وتحقيق للذات، بفعل الاستقطابات الحادة وثانياً كرد فعل تلقائي للشيعة الذين يحاولون التعويض عن حرمان قديم عبر الدخول الى مرحلة الاستحقاق وإن من مستويات دنيا، إن إفراغ الشحن العاطفية في كرنفالية مفتعلة كالتي أسبغت بصورة عفوية على التحضيرات السابقة للتصويت لها ما يبررها، ولكنها قد تأخذ مسارين متضادين: الاول سلبي ويظهر في حال لم تفلح الاصطفافات الشعبية وراء المرشحين في الحصول على مكاسب بحجم الجنوح العاطفي الذي بدا بنشاطية مفرطة في الاستبسال خلال فترة التنافس الانتخابي، بمعنى قصور أعضاء المجالس البلدية عن تلبية الحدود المعقولة لتطلعات الناخبين، بفعل تفسخ العقلية الرسمية والجهاز البيروقراطي للدولة، المسار الثاني، إيجابي، ويظهر في تطوير الاداء السياسي الشعبي بما يجعله مؤهلاً بدرجة كافية لخوض منازلات سياسية أكبر وأشد تعقيداً. وهذا يعتمد بدرجة أساسية على قدرة القنوات التنظيمية التي تشكلت خلال الحملات الانتخابية على الافادة من هذه التجربة لجهة تطوير آليات جديدة تصلح لتعبئة الشارع نحو قضايا مطلبية أخرى.. فقد بات الشارع مسيّساً الى حد ما، وأن درجة الانخراط الشعبي في العملية السياسية قد ازدادت بدون شك خلال الحملات الانتخابية، بالرغم من أن ذلك لم يكن بموجب قرار رسمي، وإنما من خلال عملية تدافع شعبي عفوي مستجيب للارتخاء السياسي الاضطراري الداخلي.

إن تجرية الانتخابات البلدية تنطوي على أرباح وحاجات، وقد لا تتجاوز الأرباح حتى الآن حدها المعنوي، فيما تعبّر حماسة الناخبين عن حاجات مادية جرت ترجمتها بطريقة التعويل على القادم والمأمول من المرشحين، رغم أن الحماسة والمشاركة العالية قد تبطن أيضاً سحباً للثقة عن الحكومة في بعض أوجهها، وبخاصة حين تقارن بالأزمة الشديدة والتراجع الحاد في العلاقة بين المجتمع والسلطة خلال العقد الأخير، والذي عكسته بوضوح عرائض التيار الوطني الاصلاحي، والمنتديات الحوارية المستفيضة على شبكة الانترنت والأخطر منها تفجّر ظاهرة العنف في صورة دموية سادية.

شأنها في ذلك شأن المشكلات، فإن مسألة حاجات المجتمع تطرح اليوم على مستوى واسع، ولاشك أن المجالس البلدية نصف المنتخبة قد تشهد إنهاكاً لمجهودات المجتمع والمنتخبين من الاعضاء دع عنك نصف الاعضاء المعينين.. ولعل من أخطر أشكال الانهاك أن يحشر الجميع في زاوية حادة بما يزوّد الحكومة، بوصفها المسؤول المباشر عن كل أزمات البلاد، فرصة الافلات من المحاسبة.

لقد أكّدنا سابقاً بأن الانتخابات البلدية تمثل خطوة اصلاحية ناقصة، ولن يعني ذلك إنتقاصها والانتقاص من حجمها، فهي تبقى جزءا من المنجز الاصلاحي الشعبي الذي عملت القوى الاجتماعية والسياسية في الداخل على تجسيده، ولكن في الوقت نفسه، يجب أن توضع الانتخابات البلدية في حجمها الطبيعي، وهناك ما هو كثير منتظر من الحكومة للقيام به في مسيرة الاصلاح، فالعطب السياسي والاداري يغطي كافة الجهاز البيروقراطي للدولة ولن يكفي فيه إصلاح جزء هامشي منه.. إن إطالة أمد العملية الاصلاحية قد يجعل عواقب الابطاء وخيمة فايقاع الاصلاح في كل مكان يتسارع متزامناً مع تسارع الحاجات والمشكلات. إن انتهاء الانتخابات البلدية سيفتح بلا شك الباب على حيز آخر في الدولة كيما تبدأ عملية التجاذب عليه من أجل اصلاحه.. إن احتواء أو بالاحرى إلهاء الشارع بتغييرات شكلية كزيادة عدد اعضاء مجلس الشورى او اضافة عناوين جديدة لن يغير من حقيقة أن جعبة الشارع مليئة بالمطالب الاصلاحية الملحّة، وقد بات من الصعب إرضاء الجميع بحلول تلفيقية.

التحرير