الموقف السعودي من مقتل الحريري

  

لم تكن السعودية في مأتم، فخسارتها برحيل رفيق الحريري كانت محدودة.

جاء رحيل الحريري والسياسة الخارجية السعودية تلوذ بنفسها، والأمراء السعوديون منكفئون على أنفسهم لا يريدون إلا أن يتركوا لحالهم، وهم لا يبحثون عن دور زاهٍ يؤدونه، بل الى شر مستطير يدفعونه عن أنفسهم.

كان المرحوم رفيق الحريري مفيداً في مرحلة التمدد السعودي، أو حسب تعبير محمد حسنين هيكل (الحقبة السعودية) التي عكست نفوذاً سعوديا كبيراً في محيطها الإقليمي والدولي، وقد انتهت تلك الحقبة بالضربة القاضية عام 1990، ولم تعد لها قائمة حتى الآن.

رفيق الحريري كان من رجال تلك المرحلة، وكان نشاطه مجرد إضافة للمجهود السعودي الإقليمي، بل كان علامة العزّ البارزة في ذلك التاريخ.

لكن الراحل الحريري اكتشف مبكراً، ان غاية النفوذ السعودي قد تحققت بوصوله هو الى رئاسة الوزراء، وأصبح وضعه مرتبطاً بالمعادلة السورية أكثر من ارتباطه بالمعادلة السعودية، فضلاً عن أن بعض الأمراء السعوديين الكبار أرادوا أن يثمّروا نفوذهم السياسي اقتصادياً في فورة ما سمي بمرحلة الإعمار والفرص التي أتاحها الهدوء السياسي.

وفي الحقيقة فإن السعوديين كانوا مستعدين للدفع الى لبنان أكثر من تفكيرهم في جني أرباح منه. من الناحية المالية استطاع الحريري أن يجلب الكثير من الدعم السعودي الى لبنان، وهذا واضح معروف ومنشور كان آخرها ما ناله قبل نحو عامين حين تبرعت السعودية بخمسمائة مليون دولار، أثارت غضب العديد من السعوديين أنفسهم. والحكومة السعودية نفسها وهي أحد المساهمين في ترتيب اتفاق الطائف، إن لم تكن المساهم الأكبر عبر المرحوم رفيق الحريري، حققت انجازاً سياسياً غير مسبوق، سيحسب لها طالما بقي السلم الأهلي اللبناني، وطالما استطاع ذلك الإتفاق الصمود أمام التحديات الإقليمية والدولية خاصة بعد التفجير البغيض الذي أودى بحياة رفيق الحريري.

لقد نجح الحريري في تقديم شيء غير قليل للبنان وشعبه، ولم يكن نجاحه وليد عصامية ووطنية فحسب، بل كان وليد دعم وتغطية من الحكومة السعودية، فهي شريك في ذلك الإنجاز، ورغم أن ما كسبته هذه الأخيرة سياسياً ومعنوياً، فإنه لم يكن بحجم ما قدّمته من دعم، ولم تنل الحكومة السعودية تقديراً كبيراً خارج حدود لبنان، أو لنقل لدى غير المعنيين بالأزمة اللبنانية.

الآن وقد رحل الحريري، وكأن الإنجاز الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية ـ بالتعاون مع سوريا بالطبع ـ قد ارتدّ على أحد صانعيه فينهيه، بل قد يدمّر كل صانعي السلام في لبنان.

فالسوريون ـ المتهم الأول ـ يجمعون حقائبهم للرحيل من لبنان؛ فقد أدّى تمسّكهم بالورقة اللبنانية كإحدى أوراق مساوماتهم في الصراع مع إسرائيل، دون وضع ضوابط لتدخلهم ونفوذهم.. أدى الى نفور شعبي، يتصاعد يوماً بعد آخر، يؤججه الأميركيون والفرنسيون وقوى لبنانية متضررة من الوجود السوري. ولا يبدو أن مقتل الحريري سيخرج سوريا من مأزقها ـ سواء كانت هي بالفعل من قام بعملية الإغتيال أو لا. فهناك إلحاح شديد على تحميل الحكومة السورية كامل المسؤولية بغض النظر عن طبيعة وقائع عملية الإغتيال نفسها. لا يريد المعارضون للنفوذ السوري في لبنان ولا الأميركيون ولا الفرنسيون والإسرائيليون أن يفكروا في أي احتمال يبرئ سوريا.

والسعوديون كضلع ثان في مثلث صانعي اتفاق الطائف، هم المتهم الثاني باغتيال الحريري، بمعنى أن اغتيال الحريري قد يكون جاء على خلفية علاقاته الوثيقة مع السعودية، بالرغم من ان تلك العلاقات خدمت لبنان شبعاً ودولة وحكومة، ولم يكسب منها السعوديون شيئاً كثيراً. بالطبع هذا مبني على قضية شريط الفيديو الذي ظهر فيه شاب يزعم الإنتماء الى جماعة سلفية (وهابية متطرفة بحسب البيانات الرسمية اللبنانية) وإذا ما ثبت هذا الإدّعاء، شأنه شأن الإدعاءات الأخرى الموجهة الى سوريا وحلفائها، فإنه يعني عدة أمور من بينها: أن الفكر السلفي ـ بنسخته الوهابية ـ ورط ويورط الحكومة السعودية والمواطنين السعوديين جميعاً في عداوات مع كل دول الجوار تقريباً، فضلاً عن دول بعيدة أخرى؛ ويعني أيضاً أن العنف الداخلي والمصادمات مع قواه المحلية في السعودية لها انعكاسات خارجية أيضاً، فالمعركة كما يوحي شريط الفيديو السلفي ليس محصورة في السعودية بل في كل مكان يوجد به نفوذ للحكومة السعودية حيث يصبح مشروعاً مستهدفاً خاصة إذا لم يتمكن دعاة العنف من تحقيق ما يريدونه داخل السعودية نفسها، أي أذا كانت الأهداف مستعصية على الوصول اليها من قبل دعاة العنف.

وفي الوقت الذي لا تتمنّى فيه الحكومة السعودية أن يحشر موضوع اغتيال الحريري بمواضيع سعودية (كامتداد للعنف الداخلي، أو كامتداد للسلفية الوهابية المتطرفة محلياً) فإنها في نفس الوقت لا تتمنّى أن تكون سوريا وراء الحدث، ولا تريد أن تمارس ضغوط على سوريا تستهدف نظام الحكم فيها.

لقد دعا السعوديون ـ على لسان وزير الخارجية السعودية وغيره ـ الى سرعة  التحقيق في اغتيال الحريري كمخرج سريع للأزمة، وطالبوا مراراً بعدم تصعيد المعارضة ضد الدولة وسوريا خشية على اتفاق الطائف واحتمالية انزلاق البلاد مرة اخرى في الحرب الأهلية.

لكن الأهم من كل هذا، هو أن السعوديين يدركون بأن الحجر السوري إذا ما أُطيح به، فإن الأحجار التالية ستتساقط تباعاً، أي أن الدور سيقترب الى السعودية نفسها، وهي شأنها شأن عدد من الدول الأخرى مستهدفة اميركياً وتنتظر دورها بعد ايران وسوريا. إن الحفاظ على النظام السوري وعلى قوة سورياً وعلى مخارج سلمية تحفظ للسوريين ماء الوجه، هي سياسة سعودية تمثل درعاً حمائياً من عاديات الزمن الأميركي.

لهذا قيل بأن السياسة السعودية كانت تحتم عليها استدعاء عائلة الحريري (السعودية) الى الرياض، تهدئة للموقف، خلافاً لرغبة العائلة نفسها؛ في حين قال آخرون بأن الهدف هو إجراء ترتيبات ما مع عدد من الأمراء الذي شاركوا الحريري الراحل أعماله التجارية، وتقرير مصير تلك الأعمال والشراكات.