عمليتا وزارة الداخلية وقوات الطوارىء الخاصة

 الرسالة المدوّية للالتحام المباشر

 ماجد عبد الرزاق

 

بعد صمت طويل نسبياً فاجأت الجماعات الجهادية المسلّحة الحكومة بضربة نوعية موجّهة للعصب الامني، والتي جاءت عقب أن أشاعت التصريحات الرسمية ومن كبار الامراء أجواء من الطمأنينة الحذرة حيال خطر العمليات الانتحارية والتفجيرات. قبل عدة أشهر اعلن الامير سلطان وبدرجة عالية من الثقة بأن 80 بالمئة من شبكة الجماعات المسلّحة قد تم تدميرها، فيما صرح الأمير تركي الفيصل من لندن بأنه لم يتبق من خلايا الجماعة الارهابية سوى خلية واحد، ثم جاءت سلسلة تطورات داخلية دعمت هذه التصريحات، وبدا حينها وكأن كابوس العنف قارب على نهايته الحاسمة، وأن عودة الهدوء والاستقرار باتت وشيكة، بل واعادة تشييد الشرعية والهيبة لنظام ظل محاصراً بانتقادات واسعة في الداخل والخارج. كل ذلك كان قارّاً في الادراك العام. ولكن، جاء انفجارا مساء التاسع والعشرين من ديسمبر بالقرب من مبنى وزارة الداخلية والآخر بالقرب من مبنى قوات الطوارىء الخاصة، ليبعث برسالة مدوّية للحكومة بأن مازال لهذه الجماعة قدرة على الوصول الى المراكز الحيوية في الدولة أو على الإقل إحداث خلخلة في البنية الامنية، وإبقاء حبل الامن مضطرباً لفترات أخرى غير قابلة للتنبوء. فقد بدد الانفجاران مدعيات الحكومة وفي المقدمة وزارة الداخلية، فما خيّل لكثير من الناس بأن هذه الجماعات تلفظ انفاسها الأخيرة وان صفحة الأمس قد طويت، واذا بهذه الجماعة تعود وبدرجة عالية من الشراسة والانتقام لتصطدم برمز الأمن.

لقد حاول البيان الرسمي الصادر عن وزارة الداخلية ان يستوعب الضربة العنيفة التي وجهها أفراد تنظيم القاعدة، كونها تنقل المعركة الى داخل منطقة الخصم، وهو ما يحاول الجهاز الأمني جاهداً وقف تمدده إن لم يكن بالامكان دفع المعركة الى حيث تدور رحى المعارك في الشوارع وبين الاحياء السكنية أي خارج أسوار المؤسسة الأمنية. بيان وزارة الداخلية الذي صدر عقب حادثي التفجير حاول أن يخلق انطباعاً موارباً حيال التفجيرين، وكان يستهدف بدرجة أساسية نفي عنصر المباغتة والتخطيط المسبق لهاتين العمليتين. وبحسب البيان فإن العمليتين جاءتا في الاساس كرد فعل على المطاردة المتصلة التي قامت بها قوات الأمن والتي كادت ان توقع بأفراد الجماعة المسلّحة في الأسر، الامر الذي اضطرهم لاتخاذ خطوة انتحارية او الهروب للامام من أجل التخلص من الشحنات الانفجارية.

قد يكون الرد العاجل من قبل قوات الامن ضد إحدى خلايا الجماعات المسلّحة خفف من وطأة الضربة النوعية التي أصابت الجهاز الأمني، ولكنها بالتأكيد لا تبعد شبح الخطر الذي بات قريباً جداً من مفاصل الدولة نفسها، ولعل هذا ما ينمّي القلق حيال قدرة الجماعات المسلّحة على القيام بأعمال تخريبية ضد المنشآت النفطية أو على الاقل ضرب أو تخريب خطوط الانابيب الممتدة والمتشعبة في طول البلاد وعرضها.

إن عمليتي وزارة الداخلية وقوات الطوارىء الخاصة وإن لم تحقق أثراً تدميرياً هائلاً، رغم أن المعلومات في هذا الموضوع غير مكتملة ومتضاربة، الا أن مجرد الوصول الى القلاع الأمنية الحصينة قد أحدث إهتزازاً عنيفاً في النظام الأمني الوطني برمته، وتترك هاتان العمليتان دون شك انطباعاً بأن ذراع الجماعات المسلّحة باتت قادرة على الوصول الى حيث تشاء. هذا لا يقلل من شأن الرأي القائل بأن مثل هذه العمليات قد تتم على أيدي قلة غير متمرسة في العمل العسكري، إذ أن هذه المباني المستهدفة غير محصّنة تماماً كونها تقع على شوارع عامة وان كانت محاطة بسواتر إسمنتية صلبة تحول دون تعرّضها لاضرار تدميرية كبيرة حال التفجيرات، ولكن في الوقت نفسه هناك ما جرى التعتيم عليه في هاتين العمليتين، وهو أن ثمة تخطيطاً متقناً كان لدى الجماعات المسلّحة عقب عملية التفجير حيث كانت هناك مجموعة أخرى كانت تحاول اقتحام المبنى بهدف السيطرة عليه، وهذا يتعارض مع الرواية الرسمية التي تحاول التشديد على أن العمليتين هما عفويتان وانهما تما في سياق مطاردة وملاحقة بين قوات الامن والجماعة المسلّحة واستدرجت على اثرها عناصر الجماعة للقيام بهذا العمل النوعي والمتقن. إن بيان تنظيم القاعدة الصادر في الحادي والثلاثين من ديسمبر يتحدث عن أن الجماعات المسلّحة استهدفت الامير نايف والامير محمد بن نايف الذي قيل بأنهما غادرا مبنى الوزارة قبل وقوع الانفجار بفترة قصيرة، ومن المعلوم لاحقاً أن التفجير وقع في جهة مكتب وزير الداخلية.

على اية حال، لقد عزّزت العمليتان من تهديد زعيم تنظيم القاعدة بضرب المنشآت الحيوية والنفطية في السعودية حيث حظي خطابه بإهتمام خاص من قبل وسائل الاعلام الغربية والتي حملت خطاب ابن لادن على محمل الجد هذه المرة ثم جاءت عمليتا وزارة الداخلية ومبنى قوات الطوارىء الخاصة لتزيد في جدّية التهديد ضد المصالح الغربية والنفطية في المملكة.

إن ما يعتقد كونه رداً سريعاً على الجماعات المسلّحة لم يكن في واقع الامر سوى حدثاً منفصلاً يندرج في سياق المواجهات المتواصلة بين الاجهزة الامنية وافراد الجماعات، وان التزامن بين حادثي التفجير والمواجهات لم يكن سوى تطابقاً في الوقت وليس في الفعل. وقد جاءت المواجهات المسلّحة التي تمت في إحدى الشقق في حي التعاون بالرياض بالتزامن مع وقوع الانفجارين لتضفي غمامة من الغموض على مجريات المواجهات وخلفية العمليتين. وان الربط بين الحدثين ضرورة نفسية يراد منها تخفيف من صدمة الضربة. وقد يكون مقتل عشرة من افراد الجماعات المسلحة تعويضاً استثنائياً وفورياً لخسارة فادحة لرمز النظام الامني في السعودية، مع أن الرواية الرسمية حول مقتلهم ظلت حتى اللحظة غامضة كون الصور المعروضة لجثث القتلى تثير تساؤلات عديدة حول طبيعة المواجهات والقتل، إذ تكشف أجسادهم عن أنهم تعرضوا لاطلاق نار كثيف ومباشر ومن جهة قريبة جداً وليس من وراء جدر، فضلاً عن كون اجتماع هؤلاء الافراد في مكان واحد يعتبر خللاً أمنياً لا يمكن أن يفوت أفراد هذه الجماعات التي تدرَّبت على وسائل المواجهة وطرق الوقاية من الهجمات المباغته، وخصوصاً بعد عمليتي تفجير ضخمتين يدرك أفراد هذه الجماعات ما يعقبها من تدابير أمنية مشددة، وكون الأجهزة الامنية ستقوم بعملية تمشيط واسعة لكافة المواقع المشبوهة أو التي يعتقد بانها ستخضع للرصد والمراقبة.

إن ما يظهر من سيرة القتلى العشرة، وكما ألمح البيان الرسمي الى بعض جوانبها، أنهم تلقوا (تدريبات متنوّعة) بحسب البيان، وأن بعضهم على الاقل هاجر الى أفغانستان ومارس العمل الجهادي المسلّح، ولديه خبرة في إعداد المتفجّرات وتجهيز السيارات المفخّخة، بل وأن بعضهم قام بتدريب مجموعات في داخل المملكة عقب عودته من أفغانستان، منها على سبيل ما ورد في سيرة أحد العشرة بأنه كان (يتولى تنسيق عمليات الاتصال).

ما يلفت الانتباه أن هذه المجموعة بدأت في حصر نشاطهم العسكري ضد الجهاز الامني على وجه التحديد، بعد أن كان الاجانب الغربيين هم المستهدف رقم واحد في مجمل أنشطة الجماعات المسلّحة. إن التركيز على ضرب الجهاز الأمني ينطوي دون شك على مخاطر كبيرة على الدولة بدرجة أولى، كونها تتم بين جهتين الاولى (أي الحكومة) معلومة ومكشوفة والاخرى (أي الجماعات المسلّحة) مجهولة ومستترة، وهذا يعني أن أثر الضربات التي تصيب الحكومة تكون لها إنعاكاسات سياسية ونفسية واقتصادية كبيرة، وبالنظر أيضاً الى أن هذه الجماعات توجّه ضرباتها الى مصدر قوة الدولة ومركز هيبتها في ظل تصدّع المشروعية الدينية والسياسية.

مالذي يمكن ان تفعله الحكومة اكثر من ملاحقة أو قتل أو إعتقال بعض الافراد الذين أثبتت الايام أن عددهم يزداد عقب كل عملية، وأن قائمة الـ 26 قد فقدت مصداقيتها بفعل تزاحم الاسماء الجديدة التي ظهرت في وقت لاحق وخلال عمليات المطاردة او المواجهات، وهي أسماء لا تقل كفاءة من الناحية التنظيمية والعسكرية من الاسماء الواردة في قوائم وزارة الداخلية.

من أي جاء هؤلاء؟ وماهي طبيعة تدريباتهم؟ ومن يمدّهم بكل التجهيزات اللوجستية من مواد تفجير واسلحة واجهزة الكترونية اضافة الى المخازن والمسكن والمأوى؟ كلها أسئلة مثارة على الدوام. إن التسريبات التي تخرج للعلن بين فترة واخرى تتجه الى عقد رابطة وثيقة بين هوية أفراد الجماعات المسلّحة والجهاز الامني، حيث أن بعضهم كان يعمل في إحدى الاقسام الامنية أو بعض الاقسام التابعة للمؤسسة الدينية الرسمية بما فيها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إن فترة الهدوء المشوب بالحذر والترقب بعد اعتقال أو قتل عدد من أفراد الجماعات المسلّحة قد بددتها عملية الاقتحام التي قامت بها إحدى خلايا التنظيم الجهادي ضد القنصلية الاميركية في جدة، والتي كانت حدثاً محرجاً للجهاز الأمني حيث على إثره قررت السفارة الاميركية استبدال طاقم الحراسة المحلي بأفراد من قوات المارينز. وكان الاعتقاد السائد بأن عملية الاقتحام كانت إحدى الاعمال اليائسة وربما الاخيرة التي تقوم بها الجماعات المسلّحة لتسجيل حضورها الاعلامي وإثبات وجودها على مسرح الاحداث، ولكن عمليتي وزارة الداخلية ومبنى قوات الطوارىء الخاصة أحبطا مثل هذا الاعتقاد.. إذ أثبتت الجماعة قدرتها عملياً على أنها مازالت فاعلة وأن بإمكانها إنجاز أعمال تخريبية ضخمة.

ويظهر أيضاً من سيرة القتلى العشرة، أن بعضهم جاء من أفغانستان بمهمة خاصة، وبحسب البيان الرسمي أن عدداً منهم قام بعد عودته منها بتدريب بعض الافراد على العمل العسكري وتأمين المأوى السري لهؤلاء المرشّحين للقيام بعمليات عسكرية انتحارية. يربط البيان الرسمي بين هذه الجماعة وبين شبكة تنظيم القاعدة، وفي مثال خالد أحمد محمد بن سنان يذكر البيان أنه (كان قريباً من رؤوس الفتنة والفساد في الداخل والخارج) إشارة الى كونه على صلة وثيقة بشبكة تنظيم القاعدة وبزعيمها أسامة بن لادن. وهناك ما يلفت ايضاً في البيان والذي يلتقي مع خطاب بن لادن الاخير وهو استهداف المواقع الحيوية، والتي حدّدها الاخير في المنشآت النفطية.

وفيما يبدو فإن هذا الربط له ما يبرره، خصوصاً وأن زعيم القاعدة بدأ يكثّف هجومه على العائلة المالكة ويحمّلها ويلات المسلمين ويوصمها بالفساد، بالرغم من أن دعوته لم تصل حتى الآن الى المطالبة العلنية والمباشرة بإسقاطها، وهو رأي يلتقي فيه مع علماء الدين السلفيين المعارضين للحكومة في الداخل، إذ الاتفاق قائم بين الطيف السلفي الاعتراضي على أن الانحرافات السياسية مهما بلغت يجب ان لا تؤدي الى المطالبة بإزالة النظام، كون الاخير يشكّل صمام أمان للعقيدة السلفية التي تجد ملاذاً آمنا وربما وحيداً في ظل وجود الدولة السعودية.

بيد أن ثمة فارقاً ربما طرأ في وقت متأخر وهو أن الجماعات المسلّحة التابعة لتنظيم القاعدة وهو أن استهدافاتها باتت تتجه نحو إقامة البديل الديني الصارم من داخل الدولة نفسها، بمعنى انقلاب سلمي على نظام الحكم القائم. إن الادبيات السلفية المبثوثة منذ التسعينيات تعبّر بصورة علنية عن مطلب رئيسي شامل لإحداث تغييرات جوهرية في نظام الحكم، فما ينفّذه أفراد المجموعة هو ممليات الاجندة الاصلاحية التي صاغها منظّرون من داخل التيار السلفي.

لقد ساهم كثير من أفراد الجماعات المسلّحة في أنشطة دعوية تطوعية في الخارج وتحت اشراف الحكومة والمؤسسة الدينية، وعادوا مدججين بسلاح الاصلاح الديني الشامل عن طريق اللجوء الى وسائل القوة المجرّدة. إن ما يضطلع به هؤلاء الافراد من أدوار ليست مفصولة عن الثقافة الدينية الرائجة في الاوساط الاجتماعية التي تغذّت عليها لسنوات طويلة، وليس المنطلق التكفيري الذي يحرّك هؤلاء الافراد منطلقاً منزوعاً من بيئته المحلية والخصبة لمثل تلك الافكار الاقصائية والشمولية. فمن تصفهم بيانات وزارة الداخلية بزعماء فكر التكفير يشدد على الحاجة الى فحص وكشف المصادر الاصلية والمرجعيات الفكرية التي تزوّد مثل هذه الجماعات بفكر التكفير.