لكي لا تتحول الأحزاب إلى مؤسسات دكتاتورية!

  

د. سليمان الخضاري

 

قد يبدو من نافلة القول التأكيد على أن تفعيل العمل السياسي الجماعي في صورته العصرية المتمثلة في الأحزاب، لا يشكل إلا آلية واحدة من ضمن آليات متعددة تتطلبها الساحة السياسية من أجل الدفع بعجلة الاصلاح ضمن منظومة العمل السياسي في بلداننا، إلا أنها آلية لا غنى عنها من أجل تجميع الجهود المبعثرة في كيان أكثر فاعلية، يتميز بتكثيف الجهود وتجميع الطاقات، مما يؤدي إلى تراكم الخبرات وإضفاء زخم أكبر على الممارسة السياسية بأبعادها المتنوعة.

إلا أننا وعلى الرغم من تثبيت ما سبق كأولوية منهجية، تستدعيها شروط الواقعية السياسية وتطور فكر الاجتماع السياسي، لا نستطيع تجاهل جملة من الحقائق ومستلزمات العمل الحزبي في أنساق تطوره العليا، هذه الحقائق التي جرت العادة على تجاوزها، شأنها شأن كل تفاصيل العناوين الكبرى التي يتم تسويقها في منطقتنا باستعارة أنماطها العمومية، وأشكالها الهيكلية، دون الخوض في مبانيها الأساسية، التي لا تتماشى أحيانا مع نزعات شمولية أثبتت التجربة تعارضها بنيويا مع الغايات الأساسية التي من أجلها صيغت هذه الأنماط.

النقطة التي نحب التطرق إليها الآن هي في فلسفة العمل الحزبي من حيث الأهداف العليا التي من أجلها صيغت البنى التطبيقية لهذا العمل، فالراسخ تاريخيا أن العمل السياسي لا تتأتى له قدرة التحول إلى قوة فاعلة إلا ضمن أسباب لا بد من توفرها، وشروط لا بد من تحصيلها، ضمن الواقع الزمني والمكاني المنسوبة إليه.

ولكن العنصر المشترك في معظم التجارب السياسية الناجحة، والمتجاوز لظرفية الزمان والمكان، هو تلك الطاقة الجمعية المنبثقة من توحد تلك الجهود المبذولة لتحقيق غايات هذا العمل، ولعل هذه الحقيقة تجدها قد تكررت في تمظهرات سياسية مختلفة، تنطوي تحت طيف واسع يتدرج من التجارب السلمية راسخة القدم، إلى الحركات الثورية في لحظة انبعاثها.

إذا، فالأحزاب في فلسفة وجودها تشكل ضرورة عملية لترجمة طموح الأفراد في خلق قوة ضاغطة، تمتلك آليات تأثير أكثر فاعلية، مما يؤدي إلى تراكم الجهود الفردية في محصلة نهائية تتحرك في اتجاه تحقيق آمال الجموع المتعاضدة.

ومع رسوخ التجربة الحزبية في أماكن نشأتها الأولى، ومع نضج الوعي النقدي لدى أصحاب تلك التجارب، بدأت مشكلة جديدة تطفو على السطح، ألا وهي التركيز على أولوية الكم العددي في صياغة قرار المؤسسة الحزبية، وفرض هذا القرار على جميع الكوادر العاملة في مختلف المؤسسات التابعة للتشكيل الحزبي، مما وفر الأرضية الملائمة لنمو ظواهر سلبية مثل الانشقاق وتشكيل تنظيمات جديدة، ومن ثم العودة إلى الوضع التي أوجدت فكرة التحزب نتيجة له، ألا وهي تبعثر الجهود وضعف الأداء السياسي.

 هذه النتيجة السلبية في نظر الحركيين السياسيين، والواقعية من حيث تواتر حدوثها في حالات كثيرة، تثير الاهتمام، وتوجه الأنظار لمسألة مفصلية في سياق العمل الحزبي، ألا وهي ماهية الهامش المتاح للمنتمين للتنظيم بالاختلاف مع قرارات المؤسسات الحزبية العليا، والموجهة رأسيا وعرضياً، أي تلك الموجهة في إطار عمودي من القيادة الحزبية للعاملين أصحاب الصلاحيات الأقل في ما يخص الشأن الداخلي للحزب، في مقابل تلك القرارات المتحركة في فضاء الشأن السياسي العام، من مثل قضايا البرامج الانتخابية، وطبيعة علاقة التنظيم بغيره من التنظيمات، والتصويت على مشاريع القوانين في المؤسسات التشريعية والتنفيذية المختلفة.

هنا يحتك مفهومان أساسين في علم الاجتماع السياسي، فمن جهة هناك الانضباط الحزبي وما يستتبعه من قضايا الوحد التنظيمية وضرورة التوافق الجماعي على مختلف المستويات الحركية، مما يسد الباب أمام النقد الخارجي المبني على ذريعة الاختلاف في وجهات النظر داخليا، الأمر الذي يستدعي آليا في المخيال الشعبي صورة نمطية لمؤسسة اجتماعية مفككة، تتبعها بالضرورة آثار نفسية مركبة تؤدي إلى ابتعاد الجماهير عن التنظيم.

هذا هو المفهوم الأول، الذي يستدعي اعتماد الأغلبية العددية كآلية تصاغ بها قرارات التنظيمات الحركية صياغةً ديمقراطية التوصيف، ومن جهة أخرى يأتي المفهوم الثاني، وهي قيمة الأفراد كوحدات أولية صيغ من أجلها التنظيم الهيكلي للمؤسسة الحزبية، ولذا كان لابد من التوفيق بين هذين الجانبين المتقابلين نظريا، وأحيانا عمليا، لضمان استمرار التشكيل الجمعي قائما لتحقيق الغاية الأساس من ابتداعه كوسيلة لانتظام الآراء الفردية ضمن الإطار الأعم، مما ينتج زخما ماديا ومعنويا يدفع بقوة أكبر في سبيل الوصول للأهداف العليا.

هنا نتساءل، وكيف السبيل للتوفيق بين هذين المفهومين المتقابلين؟

لعل الحل الأنجع لفك طلاسم هذه المعادلة الصعبة هو في التوافق على عقد اجتماعي داخلي، يكون بمثابة دستور للحزب، يقوم بوضع الخطوط العامة الكفيلة بشرح المباني والأهداف الرئيسية للتنظيم، كما يحدد المقاصد المبتغى تحقيقها من أي فعل سياسي يكون الحزب بصدد الخوض فيه، الأمر الذي يشكل مرجعية تتحرك في فلكها الكوادر على مختلف المستويات، من دون النص على نتائج محددة تلزم هذه الكوادر على التشكل في قوالب جامدة تتصف بالضرورة بالتكرار النمطي، وتحرم المنتسبين للتنظيم من فضيلة الاختلاف في المواضيع المتنوعة، مع ضرورة التأكيد على قبول مبدأ تشكيل مجاميع الضغط داخل التنظيم الواحد، ومبدأ تداول الإدارة وفقا للعملية الانتخابية داخليا، من أجل إتاحة الفرصة المتساوية للمجاميع المختلفة لتولي القيادة الحركية، وقتما توفرت القوة العددية لتحقيق ذلك.

هذه العملية يجب أن تسير جنبا إلى جنب، مع نشر ثقافة تقبل بالاختلاف مع المحافظة على الكيان الاجتماعي أو السياسي موحدا، وهذه المسألة تبدأ على مستوى الأسرة في تشكيلاتها الأدنى، مع احترام خصوصية الأنماط الاجتماعية المختلفة، فالآباء مسؤولون عن تنمية حس اندماجي داخل أسرهم لا يتأثر باختلاف توجهات أفراد الأسرة مع بعضهم البعض، وإذا أردنا الصعود في المرتبة الفكرية والأخلاقية، فنحن نطالب بخلق ثقافة لا ترى في الاختلاف تمردا، بل فضيلة، يجب المحافظة عليها، واستخدامها للوصول إلى أهداف تخدم المجموع ككل.

هنا باستطاعتنا استدعاء نماذج ناضجة للممارسة الحزبية لمثال تطبيقي على محاولات ناجحة للتوفيق بين المفهومين السابقين، فالحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة الأمريكية يتكونان في تنظيمهما الداخلي من أطياف متباينة بشكل لاذع، كما أن عملية التصويت داخل المؤسسات التشريعية تشهد تقليديا تباينا في آراء المنتسبين للحزب الواحد، وهذا لم يستتبع البتة انقسامات في أي الحزبين إلى كيانات حزبية متفرقة.

هنالك معضل أساسي مهم لا ينفك عن نقاشنا هذا، ولعله يختص بواقع الممارسة السياسية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ألا وهو الربط المفتعل بين اجتهاد ديني بعينه، وبين الأصول الدينية غير القابلة للاجتزاء أو الرد، وهذه مشكلة المشاكل في سياق الفعل السياسي للحركات الدينية، مما يستتبع بالضرورة انشقاقات تنظيمية حادة تنتج من اختلاف المرجعية الفقهية التي يتم تبنيها في تلك اللحظة الزمانية أو المكانية، وما لم يتم فك التشابك بين الاجتهاد الفقهي –المتأثر بخواص ثقافية واقتصادية وسياسية متحركة- من جهة، والدين بأصوله الأخلاقية ومقاصده العليا من جهة أخرى، فسيظل الجدل محتدما داخل التنظيمات الدينية، مما يجعلها عرضة وبشكل مزمن للانقسامات الحركية.

وعودة للمسألة الرئيسية في هذا المقال نقول، إن الأحزاب تنظيمات يقصد من تشكيلها انتظام الأفراد في هياكل مؤسسية تنظم نضالهم الاجتماعي والسياسي، لذا يجب أن نركز على هؤلاء الأفراد، وبتعبير أبلغ، يجب أن نتفق على أصالة الانسان، وأن نحارب كل ما من شأنه القضاء على تلك الطاقة الابداعية الهائلة التي فطر الله بني جنسنا عليها، مما يدفعنا لبذل كل جهد لتحويل المؤسسات الاجتماعية إلى كيانات خلاقة تحارب كل أشكال القهر الاجتماعي، حتى ولو كان من يقوم بها هو تلك المؤسسات نفسها!