دور الدولة

أزمة التعايش الداخلي

 

د. فؤاد ابراهيم

 برهنت الدولة الحديثة على سلطتها الراجحة في إفراغ شحن التوتر الداخلية وإخماد الصراعات الكامنة والمعلنة، عن طريق صناعتها المتقنة لرابطة عليا بين مواطنيها.. فالدولة، بجهازها البيروقراطي الضخم، تشكّل الوعاء الأوسع لاستيعاب أفراد يتحدرون من خطوط إثنية وايديولوجية واقليمية متعددة وأحياناً متضاربة، ومن الناحية النظرية أصبحت للدولة كلمة الفصل في تسوية النزاعات بين الجماعات واحتضان الاخيرة وأيضاً توظيفها في عمل الدولة.. وفي محصلة هذا المسعى فإن إضعاف الروابط التقليدية وتحللها قد تم لأن ثمة كياناً كبيراً بات مؤهلاً بإمتياز لاحتواء التباينات الثقافية والاجتماعية لغرض تشكيل أمة تتطابق حدودها الثقافية مع حدود الدولة السياسية، أي بكلمة إقامة دولة ـ الامة.

وأمكن القول تأسيساً على التطلع الطموّح من وراء قيامها، أن الدولة تظل ـ رغم كل عيوبها ـ الصيغة النموذجية لتنظيم المصالح العمومية، وتحقيق درجة عالية من الانسجام الداخلي بين الفئات السكانية المتباينة. ولكن شانها شان كثير من الصيغ الطموحة، تتعرض الدولة ـ أحياناً ـ لتشوّهات خلقية خطيرة حين تدخل حيز التنفيذ أو يساء إستعمالها نتيجة الحط من شأن المضامين المقررة لها، أو إفراغها أو تحريفها لجهة الانفراد بالسلطة واحتكارها.. لاشك ان هناك دولاً عديدة في العالم لم تستكمل شروط التكوين الدولتي التامة، بفعل عوامل محلية ودولية، وهناك دول مازالت حدودها لم تتطابق تماماً مع حدود الامة المنضوية داخل حدودها.  بكلام آخر، مازالت الدولة القومية، في أجزاء عديدة من العالم، في طور التشكّل كونها تفتقد الى شخصية متميزة، أو تمتلك قلة من المصادر الكافية وآليات التكامل والاندماج السياسي.

إن الهوية الوطنية وتكامل أو اتحاد الاقاليم، والتي على ضوئها تنمّي الجماعات الانسانية الاحساس بالانتماء، مازالت في أجزاء عديدة من العالم غير متبلورة أو غير متجذّرة، فالمحددات الخارجية للتطلع الانساني والرابطة والشروط الضرورية لتحقيق القيم الاساسية للحرية والعدالة غير متوفرة.

إن الأشكال التي تتموضع فيها الدول تعكس درجة النضج التي وصلت اليها، وفي الوقت نفسه تبدي المساوىء غير المباشرة لصنّاع السياسات العامة، والتي تجعل دولة ما تعيش أزمة تكوينية، أي في أصل وجودها بفعل التعارض الحاد بين متطلبات نشأة الدولة واستمرارها ومبتغيات السلطة. وهذا التعارض يظهر بجلاء في دول الشرق الاوسط حيث الارتباط العضوي المصيري بين الدولة والطبقة المعتلية لسنام السلطة فيها. وفي حال كهذه، يتم تصميم السياسات العامة على أساس شروط خاصة بالسلطة وليست وفق متطلبات الدولة، بما هي اطار واسع لجماعات متنوعة.

في التجربة السعودية ثمة ما يكشف عن إشكالية جوهرية متصلة بتكوين الدولة ذاتها وبشروط استمرارها، فما تحقق عام 1932 هو اكتمال شروط قيام السلطة المركزية، حيث أمكن للملك عبد العزيز أن يمارس دوره كحاكم مطلق في المناطق التي خضعت تحت سيادته، ولعل نجاح مهمة تشييد السلطة يدفع ـ من الناحية النظرية ـ بإتجاه الانخراط الفوري والواسع في تشييد أبنية الدولة، عن طريق البدء بعملية إدماج سياسي واجتماعي وثقافي عبر منظومة مؤسساتية وطنية، أي إحتضان الاطراف في المركز (الاندماج) وليس تمدد المركز في الاطراف (الهيمنة). وبالرغم من أن عملية دمج قهرية تمت في بعض أجزاء المجتمع والدولة بفعل التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية سيما بعد ظهور نفط بكميات تجارية ولاحقاً مع بدء برامج التحديث والخطط الخمسية منذ عام 1970، الا أن العقود اللاحقة لم تحقق تلك العملية الاندماجية الطوعية الشاملة المطلوبة لانجاز مهمة بناء الدولة القومية، إن على المستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية أو على المستويين الاداري والسياسي، ولعل السبب الرئيسي في ذلك يكمن في التأسيس الاولي للدولة والقائم على أساس انعدام التطابق شبه التام بين ما هو خاص وعام، بين ما هو للسلطة وبين ما هو للدولة.. فمكونات الايديولوجيا السياسية للدولة السعودية ظلت ذاتها قبل وبعد التأسيس، وهذا ما جعل السلطة تتفوق على الدولة بل تحبط فرص نموّها الطبيعي، وهذا ما جعل التباينات بين الفئات السكانية داخل السعودية شديدة في مستويات مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية الى جانب التباين الثقافي.  

لاريب ان الهوة بين الجماعات المنضوية داخل مسوّرة الدولة السعودية تفغر فاهها، ولم تكف برامج الدولة وسياساتها عن إرساء طائفة من مبررات القطيعة بين هذه الجماعات، ولذلك ظلت معركة الاخيرة طيلة تاريخ الدولة تدور على الدوام حول انعدام المساواة المولود مع نشأة الدولة ذاتها. إن ما يمكن أن نرقبه من سريان التجربة السياسية السعودية أن ثمة جهداً دؤوباً ينصبُّ في قناة النضال ضد التمييز والاحتكار بأشكاله المختلفة، ومن قبل جماعات سياسية ذات نوازع أيديولوجية متباينة. وتشي اشكال النضال وتنوعها بأن ثمة هوّة سحيقة بين مساري الاندماج كما تسعى قوى التغيير الى تحقيقه والانفصال كما تكرّسه سياسات الدولة.

ويمكن على وجه السرعة تحديد أهم عاملين مؤثِّرين في شكل وسيرورة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وهما:

1 ـ هيمنة الدولة المطلقة على المجال العام، أي طغيان مستوى الحكومة والمدى الذي تصل اليه سلطة الطبقة القائدة، والذي يساهم ـ أي هذا الطغيان ـ وفي أحيان عديدة في تعزيز الانقسامات الداخلية وليس تخفيفها أو إحتوائها، وبخاصة حين تكون الدولة مؤسسة على قاعدة أيديولوجية، ذات طبيعة افتراقية. في الواقع، إن درجة تغلغل الطبقة الحاكمة في الجهاز الدولتي يترجم غالباً ضراوة النزعة التسلطية لدى أفراد هذه الطبقة، وبما تفضي اليه من إزاحات لفئات اجتماعية عديدة وتهميشها، واحتكار لمصادر القوة بين فئة قليلة.. وبصورة عامة، فإ الدولة في الشرق الاوسط فقدت وظيفتها كجهاز لتنظيم وإدارة المصالح العمومية، بل تحوّلت الى جهاز قهري يتم توظيفه لتكريس الانقسامات الداخلية بوصفها الضمانة الوحيدة لاستمرار الهيمنة على مقدرات الدولة.. ولذلك، إن الاختراق الواسع النطاق للحكومة في المجال العام هو كاشف عن اختلال العلاقة بين الحاكم والمحكوم.. فكلما ازدادت درجة الاختراق ازدادت تبعاً لها درجة الأزمة في العلاقة بينهما، وبالتالي ازدادت الهوة بين السلطة والمجتمع اتساعاً وعمقاً.

2 ـ ضعف الاندماج الداخلي للدولة الوطنية في مواجهة الايديولوجيات الفرعية والهويات الخاصة.. ليست عملية الاندماج شيئاً آخر غير البناء الفعلي للدولة المكتملة التكوين، اذ لا يمكن لدولة أن تكتسب صفة دولة ـ الامة مالم يكن قد حققت درجة كافية من الاندماج بين فئات المجتمع الخاضع تحت سلطانها.. إن الاندماج ليست عملية ميكانيكية مجردة، وإنما نظام مؤسس على وعي عام، وروح مشتركة تدفع باتجاه صياغة دولة ـ أمة بموجب توليفة ثقافية جامعة. بكلمات أخرى، أن مهمة الدولة الاساسية تكمن في تخليق  (المشترك)، لجهة تنسيج الفئات الاجتماعية داخل نظام موحد. لقد نبّه إجماع منظّري القومية على أن الامة هي مفهوم الوحدة، والتي يمكن أن تتأسس على طائفة كبيرة من المعايير المختلفة، وأهم ما يذكر منها هما اللغة والثقافة المشتركتين، وهناك معايير أخرى لا تقل أهمية مثل: الالتزام المشترك بدستور وأيديولوجية وإنتماء مشترك، وتجربة تاريخية مشتركة. إن ثمة أربع مكوّنات جوهرية للأمة يلزم التشديد عليها دائماً وهي: الاقليم المحدد أو المنشود، وعي الانتماء لمجتمع ما، الرغبة في الاستقلال أو الاحساس بالذاتية، وأخيراً الوعي بنظام قيمي يتقاسمه أفراد الامة[1]. ويلخّص والكر كونور مفهوم الامة بأنها جماعة تتقاسم أيديولوجية مشتركة، ومؤسسات وعادات مشتركة، وإحساس مشترك بالتجانس[2].

وبحسب التجربة السعودية يمكن وبوضوح ملاحظة أن الدولة أخفقت في صناعة (المشترك) من هموم وقضايا وأهداف وتطلعات، ولذلك كانت الانقسامات دائماً على قاعدة هموم خاصة (المفترق).. وفق هذه الحالة كان الوطن منسياً، لأن الثقافة العامة الرائجة ينعدم فيها الوطن ويطغى فيها كل مكونات الانقسام والتباين.

بكلمات أخرى، إن ثمة توازناً معدوماً بين العاملين (أي مستوى السلطة ودرجة الاندماج) يفضي الى تكريس الانشقاق الداخلي وفي الواقع يمنحها شرعية بحيث تجد كافة الجماعات نفسها أمام خيار الانكفاء على الذات والاكتفاء بها عن خيار الانضواء في هوية منشطرة أو غير مأمونة العواقب، أو لا تملي الاحساس بالرغبة في الانتماء، باعتبارها منزعاً فطرياً لدى الانسان.

إن من بين أهم العوامل المعيقة لعملية الاندماج وبالتالي تبلّور مفهوم الامة، هو مأسسة الدولة على أساس غير وطني.. بمعنى غياب المصهر التوليفي القادر على جمع وصهر الهويات والثقافات الفرعية وصولاً الى إنتاج (الكلي) في الهوية والثقافة.. أي بمعنى آخر، تأسيس مركز يكون مصمّماً لاستيعاب الاطراف، وارساء أساس المشروعية عبر مشروع المشاركة الديمقراطية بما يدفع الاطراف كافة لتحمّل مسؤوليتها في تعبئة إمكانياتها لدعم المشروع الوطني وبناء الدولة الوطنية ومن ثم الهوية الكلية.

وبالرغم من أن الدولة السعودية نجحت في توظيف العامل الديني لتوفير وصفة المشروعية، الا أن العقود اللاحقة ضاعفت من الحاجة الى تخليق ايديولوجية وطنية لترميم الانهدامات الخطيرة في بنية المجتمع والدولة بفعل العامل الديني المؤسس على قسمة المجتمع وليس توحيده. فالعامل الديني يكون توحيدياً حين ينطوي على مشتركات ينتمي اليها القاطنون على تراب الدولة، أما حين يوحّد فئة محددة دون باقي الفئات فهو يتحول الى قوة تقسيمية بما يملي الحاجة الى البحث عن قوة توحيدية أعلى وأشمل.

بحسب كريستين موس هيلمز أن استخدام الملك عبد العزيز للحركة الوهابية سمح له بتجاوز الخصوصيات القبلية والحضرية من أجل صناعة دولة وطنية[3]، وهذا صحيح نسبياً وجزئياً، ولكن حقيقة الأمر أن هذا النجاح الفريد الذي حققه الملك عبد العزيز ينطبق حصرياّ على منطقة نجد، فيما باءت هذه الوسيلة بفشل ذريع في المناطق الأخرى، حيث أن توظيف العامل الديني (أي الوهابية) في نجد جاء على حساب العامل القبلي، أي أن سلطة الدين كانت قابلة للتوظيف في تجاوز سلطة القبيلة، ولكن حين أريد لهذا للعامل الديني أن يوظّف خارج نجد كانت هناك سلطات دينية موازية في الحجاز والمنطقة الشرقية ونجران، فلم يكن العامل الديني قادراً على صناعة هوية وطنية كونه جاء محمولاً على مذهب ولم يكن هذا الدين مستمداً من مكوّنات ثقافية ودينية مشتركة. ولذلك ارتبط الدين بالاقليم وأيضاً بجماعة وتحوّلت ـ هذه المكوّنات ـ في مجملها الى سلطة ذات شخصية وطبيعة مستقلة، لا ينتمي اليها الغالبية من سكان هذا البلد.

وبالرغم من أن أشكال الانتماء القومية والوطنية والدينية هي عفوية وطوعية، تماماً كما أن الوعي بها ينشأ وينمو بصورة طبيعية أي غير مفتعل أو بالقهر، فإن بمقدور الحكومات المساهمة في تنشئة الاحساس والوعي بالانتماء وطنياً كان أم قومياً ام دينياً عن طريق نظام التعليم من بين وسائل أخرى مثل وسائل الاتصال الجماهيري والخدمة العسكرية الاجبارية، او الاعلام رغم أن هذه الوسائل غير كافية. 

لقد ذهل المؤسسون الاوائل للدولة عن حقيقة أن الايديولوجية الوطنية كانت قابلة لتشكيل الاساس الرصين والشرعي للنظام السياسي، لأنها وحدها ـ المنجزة حينئذ ـ التي تعلو على الانتماءات الفرعية، بما فيها الانتماء الديني المتمظهر في أشكال مذهبية متعارضة أو على الاقل متباينة، فضلاً عن الروابط القبلية والاقليمية. صحيح تماماً القول بأن الانعتاق من الروابط التقليدية لم يكن ممكناً بسهولة في مجتمع تتجذر فيه تلك الروابط وتمثل التحصينات الاساسية والمشروعة للأفراد، ولكن الصحيح أيضاً إن غياب الرابطة العليا الكلية او انعدامها شدّ من وثاق تلك الروابط الفرعية، بل وأفقر أسس مشروعية الرابطة العليا.

إن العلاج المبدئي لمشكلة المشروعية يتطلب بالضرورة درجة عالية من المشاركة المؤسسية عبر البرلمانات والاحزاب والتشكيلات المؤسسية المماثلة، لأن غياب أطر جماعية تحتضن الجماعات المنضوية داخل الدولة وتكون أساساً لعمل وطني وصناعة روح وطنية مشتركة يجيز (بل ويشرعن ايضاً) للأطر الفرعية بالترعرع في فضاءات تقع خارج سيطرة الدولة بل وربما متعارضة معها.

 

الانتماء وأزمة المشروعية

تمثّل أزمة مشروعية الدولة الحديثة العقدة المركزية في الرابطة بين الحاكم والمحكوم، ومشكلة المشروعية في العالم العربي كما يرى مايكل هدسون هي في الاساس نفس المشكلة التي تواجه تقريباً أغلب الدولة الحديثة والمستقلة في أزمنة قريبة[4]. وفي الجوهر هي ناشئة عن إنعدام ثلاثة متطلبات أساسية للحداثة السياسية حسب دانكوارت روستو: السلطة، الهوية، المساواة[5]. بمعنى آخر أن النظام الشرعي بحاجة الى معنى متميز للذات المشتركة، أي أن الشعب داخل الحيز الجغرافي للدولة يجب أن يكون لديه احساس بالمجتمع السياسي والذي لا يتعارض مع الهويات الجماعية الفرعية أو المتجاوزة للحدود الوطنية. مثال ذلك الهويات القبلية أو المذهبية او المناطقية كتجسيدات للهويات الفرعية، أو الاممية الاسلامية والقومية العربية كتعبيرات عن الهويات المتجاوزة للحدود الوطنية.

في السعودية، ثمة أزمة إنتماء حقيقية رغم وجود مظاهر انتماء من نوع الانتماء المذهبي، القبلي، الاقليمي، الأممي، القومي، ولكن ليس بينها ما يمكن وصفه بالعام او الوطني.. إن الوطن والانتماء الوطني يُستدل  عليهما من الناحية المبدئية، وبحسب منظّري الوطنية، بالروح المشتركة الفاعلة والسارية في صدور وثقافة وتفكير شعب ما.

وفي مجتمع كالسعودية حيث الثقافات الفرعية والروابط التقليدية تشكل محفّزات نشطة على الانتماء لهويات خاصة، فإن المجهود شبه المعدوم من قبل الطبقة السياسية في صهر الروابط التقليدية في رابطة عليا أمات لأمد غير معلوم الاحساس بالحاجة للانتماء لوطن، حيث بلغت الانتماءات الفرعية مستوى عالياً من التشبّع والطغيان، وتالياً نضوب الاحساس بالانتماء لجماعة كبيرة متنوعة يوحدّها اطار مشترك هو الوطن.

إن معادلة الحداثة الفعلية وأيضاً تشكيل مشروعية سياسية للسلطة تقتضي استيعاب التضامن الجماعي المتميز باعتباره محوراً أفقياً ضرورياً للنظام السياسي الشرعي. فلا بد ان تكون هناك رابطة عمودية سلطوية قوية بين الحكام والمحكومين، إذ بدون الهياكل السياسية السلطوية الممنوحة الحق والفعالية فإن الحياة السياسية ستكون عرضة، بالتأكيد، للعنف وغير المتنبىء به.

أما بالنسبة للمساواة، كمتطلب ثالث للشرعية السياسية، فهي منتج بصورة خاصة من العصر الحديث. إن أفكاراً من قبيل الحرية والديمقراطية والمساوة هي اليوم معايير لا فكاك منها للنظام السياسي الشرعي في العالم العربي، وفي العالم الثالث بصورة عامة، مع أنها للأسف مازالت نائية عن حيز التنفيذ. إن هذا الفشل على أية حال لا يلغي أهمية المساواة، بوصفها متطلباً وظيفياً للمشروعية في السياسة العربية. وبحسب مايكل هدسون فإن المساوة تقف عقبة كبرى (وليست بطبيعة الحال الوحيدة) لتطور المشروعية في العالم العربي[6].

واتفق تماماً مع المناقشة المتقنة لمايكل هدسون في ردّه على القائلين بأن مستوى معين من الانجاز الاجتماعي والاقتصادي ضروري لليبرالية الديمقراطية حسب ليبست، الذي تبناه بصورة عامة فيما طبّقه عيساوي على الشرق الاوسط. وجهة نظر هدسون تقوم على إعتبار أن الحقائق السياسية بالنسبة لشعب متمدد ومتباين ومنظم ومعقد، ومعبىء سياسياً بدرجة كبيرة تتطلب مؤسسات تمثيلية أكثر اذا ما أريد لدرجة عالية من المشروعية السياسية أن تُنجز. مع أن هدسون لا يفترض وجود مثل هذه المؤسسات التمثيلية كضمانة نهائية لتحقيق درجة عالية من المشروعية السياسية، ولكن ما يقترحه يستهدف على وجه التحديد التحذير من البدائل الأخرى، وهما الاضطراب المزمن والفساد.

 

أيديولوجية الدولة وأزمة التعايش

إن الايديولوجية الرسمية للدولة هي التفسير الحنبلي للاسلام، والذي يقضي بتوحيد الدين والسلطة السياسية، وقد أدى ذلك الى تشكيل دولة بكافة حمولتها على أساس هذا التوحد الصارم بين العقيدة والسلطة. وفي المؤدى المباشر لهذا التوحّد أخذت الانظمة التعليمية والقضائية والثقافية الى جانب السياسية شكلاً موحداً يعبّر بصورة منفردة عن هوية الطبقة الحاكمة وأيديولوجيتها الدينية. وبطبيعة الحال، فإن النزوع نحو التوافق الديني داخل مجتمع شديد التباين والتنوع لم يكن مهمة سهلة، وبخاصة حين يكون السبيل الى تحقيق التوافق هو القوة الغاشمة ووسائل الاكراه وليس التعاقد أو على الاقل الاقناع، سيما وأن الارادة المبدئية لصياغة مجتمع متجانس دينياً قد خلقت مضاداتها في مرحلة مبكرة من خلال السيرة سيئة الصيت التي سارت عليها جيوش الفتح في إحتلال المناطق. ولاشك، إن النظرة الكونية لدى الجيش العقائدي إزاء سكان الجزيرة العربية قد ضربت طوقاً نفسياً إزاء السلطة في وقت لاحق، إذ لم يكن الرضوخ الفيزيائي عاملاً حاسماً في تحقيق الانسجام الداخلي، فقد ظلت ذرائع القسمة كامنة وساكنة، بانتظار محرضات داخلية أو خارجية تحثّ على تنشيطها.

لاشك أن فتوى سنة 1927 التي أصدرها علماء نجد بخصوص موضوعات عديدة منها وضع الشيعة في الاحساء والقطيف كانت مفصلاً هاماً في العلاقة بين الشيعة والدولة من جهة وبين الشيعة والسلفية من جهة أخرى. الفتوى جاءت على أثر خلاف بين قادة الاخوان وابن سعود بعد أن قبل الاخير بقوانين اللعبة السياسية وبالحدود الدولية التي رسمتها بريطانيا وفرنسا آنذاك.. ودرءا لتداعيات السخط المتعاظم وسط الاخوان وخشية إنفجار حركة عصيان مسلح ضد السلطة المركزية، دعا الملك عبد العزيز الى مؤتمر عاجل في يناير 1927 جمع فيه كبار علماء السلفية في محاولة لاسترضاء الاخوان، دون اشعارهم بالتنازل، فصدرت فتوى شاملة تتضمن أغلب ما ورد في قائمة مطالب الاخوان المرتبطة بالداخل.

وبحسب نص الفتوى:

(واما الرافضة ـ أي الشيعة في الاحساء والقطيف ـ فأفتينا الإمام أن يلزمهم البيعة على الإسلام، ويمنعهم من إظهار شعائر دينهم الباطل، وعليه أن يلزم نائبه على الاحساء أن يحضرهم عند الشيخ إبن بشر ويبايعونه على دين الله ورسوله، وترك الشرك من دعاء الصالحين من أهل البيت وغيرهم، وعلى ترك سائر البدع في اجتماعهم على مآتمهم وغيرها، مما يقيمون به شعائر مذهبهم الباطل، ويمنعون من زيارة المشاهد ـ في العراق ـ ويلزمون بالاجتماع على الصلوات الخمس، هم وغيرهم في المساجد، ويرتب الإمام فيهم أئمة ومؤذنين ونوابا من اهل السنة، ويلزمون بتعلم الثلاثة الاصول، وتهدم الاماكن المبنية لإقامة البدع فيها ويمنعون من إقامة البدع في المساجد وغيرها، ومن ابى قبول ذلك ينفى عن بلاد المسلمين.. وأما رافضة القطيف فيلزم الامام ـ أيده الله ـ الشيخ إبن بشر، أن يسافر اليهم ويلزمهم بما ذكرنا).

وكان العلماء وقادة الاخوان حمّلوا ابن سعود مسؤولية التقصير في إدخال الشيعة في دين الجماعة (السلفية) طوعاً أو كرهاً، وفي الواقع أن ابن سعود لم يكن مقصّراً في ذلك فقد ارسل دعاته الى الاحساء والقطيف وتم إحضار علماء الشيعة أمام القاضي السلفي لاعلان الشهادتين وتجديد الدخول في الاسلام وقد فعل قسم منهم ذلك، ولكن ابن سعود يدرك تماماً بأن أدواته لم تكن ناجحة، وليس بهكذا طريقة يعتنق الناس الدين.

لقد شكّلت هذه الفتوى مرجعية تاريخية وتشريعية للمؤسسة الدينية الرسمية وللاجيال اللاحقة من رجال الدين المتناسلين من الجهاز الديني السلفي، وجرى إستعمالها بصورة متكررة كمحك لجهة تقويم سلوك الدولة.. ومن المفارقات المثيرة للغرابة أن تكون حرية العبادة وتحسّن ظروف الشيعة الاقتصادية والمذهبية شهادة إدانة للنظام السعودي يشهرها رجال الدين في المؤسسة السلفية.. مع التذكير بأن هذا الرأي يغري الطبقة الحاكمة كونه يصلح للاستعمال كشهادة براءة أمام الشيعة ووجهائهم حين يفصحون بإستياء عن تذمرهم من سياسات التمييز والحرمان، مع أن الاحتجاج السلفي ليس منفكاً عن خطاب الدولة وسياساتها العامة.

ندرك تماماً بأن التأسيس الرسمي للخطاب الدولتي كان على قاعدة افتراقية، وتجسّده النظم المعمول بها في أجهزة الدولة.. ولعل النظام القضائي ظل المثال الأشد إثارة للجدل والخلاف، كونه يضع حداً فاصلاً بين الفئات الاجتماعية على اساس الانتماء المذهبي. خلال عامي 1926 و1927 تم ادخال نظام قضائي جديد الى البلاد بموجب أوامر عليا من الملك، وبناء عليه أصبحت المحاكم ملزمة بالتحقيق في القضايا المرفوعة اليها على ضوء أحكام القضاء الحنبلي. وبموجب الأوامر تلك، إقتضى الحال أن تكون قرارات المحاكم قائمة على أساس الرسائل الست للتيولوجيين الحنابلة، والتي كتبت في القرون الاسلامية الاولى وهي:  شرح منتهى الإرادات ـ المتن للفتوحي (ت 972هـ)، والشرح للبهوتي (ت 1051هـ)، شرح الإقناع لمنصور البهوتي الحنبلي (ت 948هـ) والشرح للبهوتي، شرح زاد المستقنع المسمى بـ (الروض المربع) ـ المتن للحجاوي والشرح للبهوتي، شرح دليل الطالب المسمى (منار السبيل) ـ المتن لمرعي الحنبلي (ت 1032هـ) والشرح لابن ضويّان (ت 1353هـ)، (المغني) للموفق إبن قدامة (ت 620هـ)، و(الشرح الكبير) لابن قدامة (ت 682هـ). وقد أضيف اليهم كتاب الدليل الى شرح زاد المستقنع للمقدسي الحنبلي، وهو عبارة عن كتاب تمهيدي الى مغني المغني من قبل نفس المؤلف.

إن هذه المصنّفات مثّلت المصادر الرئيسية والوحيدة للاحكام القضائية في السعودية، وفرضت مرجعية قضائية موحدة تلغى بموجبها كافة النظم القضائية الأخرى، وبات على مواطني الدولة من كافة المذاهب الامتثال لما يصدر عن المحاكم الرسمية الحنبلية.

لقد أثار هذا القرار خلافاً داخلياً وكانت الحجاز، المنطقة الحاضنة لأكثر النظم الادارية والقضائية تطوراً في شبه الجزيرة العربية على الاطلاق حينذاك والمختزنة لميراث قضائي ثري، أشد الساخطين على توحيد القضاء، بما ينطوي عليه من تفتيت للبنى القضائية القائمة وتعطيل لأحكام قضائية سارية المفعول كانت صادرة عن المحاكم الشافعية والمالكية، والمتعلقة منها بالاوقاف والمواريث والأملاك، إذ إن تعطيل الاحكام سيفضي بطبيعة الحال الى تهديد المصالح العامة.

قد تكون الخلافات حول النظام القضائي الرسمي قد تخففت الى حد ما في الحجاز، أو ربما لم تظهر الى السطح في العقود اللاحقة بالرغم من شدّتها وخصوصاً فيما يتعلق بالعقار والاملاك والاراضي والآثار، الا أن الحال بالنسبة للشيعة في المنطقة الشرقية كان أشد، بفعل التباين الحاد بين النظامين القضائيين الحنبلي والجعفري، ولكون سياسة التمييز ضد الشيعة قد أخذت شكلاً سياسياً اعتراضياً وفرض نفسه بشدة على المجال القضائي، وظل يغذي التجاذب بين الجانبين الشيعي والسلفي منذ الاعلان الرسمي عن قيام الدولة السعودية عام 1932 م.

في تتبّع الانعكاسات الخطيرة لسياسات التعليم والقضاء والاعلام في المملكة يظهر أن واضعي هذه السياسات أغفلوا متطلبات الانتماء لوطن وصناعة مجتمع متجانس أو بالأحرى متعايش.. بمعنى أن (المشترك) كان العنصر المفقود في معادلة بناء الوطن، فأقصى ما حققته تلك السياسات أنها عبّرت بصدق عن إرادة الاخضاع والاكراه، ولذلك أشاعت ثقافة الاغتراب ونمّت ميول الانقسام والقطيعة بين الجماعات وبينها وبين الدولة.

إن أزمة التعايش الداخلي في السعودية رغم كل محرّضاتها الثقافية والاجتماعية الخاصة تنبع بدرجة أساسية من اخفاق سياسات الدولة في إرساء نظام تعايشي (accommodative system) يسمح بإنضواء طوعي لأفراد ينخرطون بطمأنينة تامة في إطار عام يغنيهم أو على الأقل يلبّي حاجات نفسية ومادية ضرورية.

 

 


 

[1] - Michael Hughes, Nationalism and Society (London, 1988), p.9

[2] Walker Connor, A Nation is a Nation, is a State, is an Ethnic Group, is a…, in John Hutchinson and Anthony D. Smith(eds), Nationalism, (Oxford, 1994), p.36

[3] - Christine Moss Helms, The Cohesion of Saudi Arabia.. Evolution of Political Identity, (London, 1981), p.25

[4] - Michael Hudson, Arab Politics.. The Search for Legitimacy, (London, 1977), p.4

[5] - Ibid, p.4;  also see: Dankwart A. Rustow, A World of Nations: Problem of Political Modernization (Washington, 1967), Chaps: 2 and 3.

[6] - Michael Hudson, ibid, p.4