قضية الوطن

حرية الاصلاحيين أولاً

 

إذا كان ثمة ما يفصح عن جوهر المدعّى الاصلاحي للحكومة فهو سير المحاكمات الغاشمة لرموز الاصلاح الوطني الثلاثة الدكتور عبد الله الحامد والدكتور متروك الفالح والشاعر الاستاذ علي الدميني. إن قرار الاعتقال السافر في السادس عشر من مارس الماضي لثلة من الاصلاحيين قد وضع الدولة على محك المصداقية، وبات مصير الاصلاح مرهوناً بما يدور في صالونات القضاء.

إن خلف الضجيج الاعلامي حول الانتخابات البلدية الوشيكة تقبع قضية الحرية، بكافة تعبيراتها، في الكلمة والاجتماع والاعتقاد والعمل السلمي والحقوقي. لسنا معنيين كثيراً بالاجواء المفتعلة المحيطة بالعملية الانتخابية، ولا الاهداف الخفية والمعلنة من هذه العملية، بل ما يعنينا على وجه التحديد ما يتحقق في مجال الحريات والحقوق، فمن السذاجة بمكان التعويل على اصلاح يكون فيه أهله خلف القضبان.

إن المحاكمات المتهافتة للرموز الاصلاحية الثلاثة طيلة الشهور الماضية أثبتت وبإلحاح شديد الحاجة الى اصلاح قضائي جوهري، وجاءت المحاكمة الاخيرة التي جرت في الأول من ديسمبر لتزيح الستار المسدل على الفوضى العارمة في القضاء واستلابه. كانت المحاكمة الاخيرة أشبه ما تكون بورطة مكشوفة، حين تم الاعلان عن حركة بهلوانية في النظام القضائي بتحويل القضية الى محكمة جزئية بقاض واحد، ايذاناً بتحويلها الى مجرد جلسة اتهام واصدار حكم فحسب، أي بحرمان الاصلاحيين من حق الدفاع عن أنفسهم.

المثير للسخرية أنه وبعد ثمانية شهور من الاعتقال التعسفي، لم تتضح حتى الآن طبيعة التهمة، فضلاً عن الآليات القضائية الهزيلة التي أدارت المحاكمة، فبين علنية المحاكمة وسريتها، وبين تأجيل المحاكمة وتعجيلها، وبين إثبات الاتهامات ورفض نقضها من قبل الدفاع عن الاصلاحيين، بدا واضحاً وفاضحاً أن النظام القضائي في السعودية ليس مستقلاً، بل أن الاحكام القضائية باتت تقرر خلف كواليس المحكمة من جهات غير قضائية، وتحديداً من قبل بعض الامراء.

لقد تحوّل الاعتقال وسير المحاكمات الى قضية شخصية بين وزير الداخلية والاصلاحيين، فما دار في جلسته الساخنة مع بعض الموقّعين على وثيقة (الملكية الدستورية) في مطلع هذا العام، ألقى بثقله على القضية برمتها، فقد لجأ وزير الداخلية الى القوة الغاشمة لكسر ارادة الاصلاحيين والانتقام من تصرفات بعضهم، الذين تمسكوا بحقهم وبإصرار شديد في التعبير عن أفكارهم ومطالبهم في الاصلاح، وحين فشلت لغة التهديد في ثني الاصلاحيين عن المضي في إبلاغ رسالتهم في الاصلاح، توسّل الوزير بالقمع لاكراه خصومه على الاذعان، فأجبر البعض على التوقيع على تعهدات خطيّة بوقف كامل لنشاطهم الاصلاحي، وفي كتابة العرائض، وفي التعبير العلني عن رؤاهم الاصلاحية، وحتى في المشاركة في نشاطات باتت الآن في  الغالب حكراً على رجال الحكومة.

ثمة إتجاهان متعاكسان يدّل أحدهما على الآخر، ويخضعه للامتحان، فالانتخابات البلدية اذا كانت تعكس وجهاً إيجابياً للدولة على المستوى الدولي، ويرمم الانهدامات الكبيرة في السمعة السعودية في الخارج، رغم الانباء الواردة من مصادر عديدة تشير الى استدعاءات لعدد من الناشطين في المنطقة الشرقية بغية محاصرة العملية الانتخابية في حدود ضيقة، وفي الواقع إحالتها الى مجرد عملية تقنية جامدة، فإن اعتقال الاصلاحيين يعتبر الوجه الآخر السلبي للحكومة. فمازال السؤال الكبير مطروحاً لدى كثير من المراقبين: كيف يتم اعتقال ومحاكمة أناس ليس لهم جرم سوى التعبير عن آرائهم بطريقة سلمية؟ وكيف يُمنح المتطرّفون وحملة السلاح عفواً فيما يتم تهديد الاصلاحيين بعقوبات صارمة؟ إنه بالفعل سؤال جوهري يمسّ صميم الخطاب الاصلاحي الرسمي.

ومهما يكن، فإن قضية الاصلاحيين ستبقى حاضرة دائماً في الذاكرة الشعبية والاعلامية حتى وان غمرت الدعاية الرسمية الاجواء العامة بما تحاول الترويج له بخصوص الانتخابات البلدية، وهي بلاشك عملية في غاية التواضع، ليس لكونها لم تحقق المأمول الاصلاحي المنتظر، بل لكونها منبّهاً لافتاً الى العقلية الرسمية التي تدير التحوّل الاصلاحي في البلاد. بقاء الاصلاحيين في المعتقل يعد عاراً لا تمحوه الانتخابات البلدية ولا غيرها من الاشكال الاصلاحية القادمة، فقد باتوا معياراً لصدقية المدعى الاصلاحي.

 ندرك تماماً أن النشاط الشعبي في بعض المناطق الموجّه للتوعية بالعملية الانتخابية يفوق المقرر الرسمي، فالحكومة تريدها انتخابات للاستهلاك الاعلامي الخارجي، فيما يريدها الناس انتخابات لتحقيق جزء من مطالبهم العامة المشروعة. إن مجرد مسمى (الانتخابات) لا يمنحها وساماً ديمقراطياً، في غياب الدالات عليها، بل وفي ظل ما يؤكد نقيضها، مثل غياب المرأة، وتعيين النصف الآخر، وتقييد حرية العمل السياسي في فترة الاعداد الانتخابات.. ولا أدلّ على ذلك ايضاً التراجع الحاد في مستوى حرية التعبير.

 ما تكشف عنه استطلاعات الرأي حول الانتخابات البلدية يعكس الاحباط الكبير في الشارع المحلي، حيث لا ينظر أغلبية المواطنين الى هذه الانتخابات باعتبارها مقدّمة لتحوّلات تشريعية جوهرية، وهذا يعكس ايضاً تدني حاد في مستوى الثقة في الحكومة.. لقد أفضى إخفاق سياسات الحكومة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الى انحسار كبير في جدارتها للحكم، ولم يعد ما تقدمه يحظى بالتقدير من قبل الفرد العادي، الذي بات يحمّل حكومته مشاكله وهمومه اليومية.

لا ينظر الشارع الى الدولة باعتبارها وسيلة حل، بل مستودعاً ومصدراً لكل المشاكل، ولذلك فإن ما يحصل عليه المواطن لا يعتبره منّة ولا إحسان بل هو جزء من الدين المترتب على حكومته، الامر الذي يحرمها حتى من مجرد التقدير.. ليس لأن المواطن ناكر لجميل، أو جاحد لنعمة بل لأن ما اقترفته الدولة من أخطاء كبيرة في حقه جعلته يفكّر بطريقة مختلفة، أي في تقديم أولوياته التي أغفلتها الدولة على أولوياتها التي أصبحت مورد إهتمام الطبقة الحاكمة فحسب. في واقع الأمر، إن طريقة إدارة الطبقة الحاكمة للعملية السياسية شجّعت الاغلبية عن الانسحاب عنها والنظر اليها بوصفها طبقة مستنفعة لا يهمها سوى الاثراء من مصادر الدولة، وحتى اعتقال الاصلاحيين يأتي في سياق حماية المنافع الفئوية، والخوف من اتساع قاعدة المشاركة، وقد قالها الامير نايف لهم قبل تنفيذ قرار الاعتقال التعسفي، إننا لن نسمح بأن يكون الامير عبد الله حاكماً على الرف، في مقام رده على مبدأ الملكية الدستورية. إذن، فمازالت النظرة التقليدية للدولة باعتبارها حيازة وملكاً خاصاً هي التي تحكم الطريقة التي تدار بها السياسة في هذا البلد.

إن طبيعة السياسات الفئوية بطابعها الاحتكاري تؤدي الى انفراز المجتمع عن الدولة، فضلاً عن إماتتها للمشاعر الوطنية والروح المشتركة الضرورية في مثل الظروف الصعبة التي تشهدها الدولة في مرحلة ما. ولا نعتقد بأن الطبقة الحاكمة غافلة عن مثل هذه النتائج الوخيمة، فهي تدرك الآن بأن مشاعر الولاء قد تضاءلت الى حد كبير، وأن الرابطة بين المجتمع والدولة قد تعرضت لتمزقات خطيرة، ولعل اجراءات الترقيع الاخيرة ليست سوى محاولات يائسة كانت الطبقة الحكومة مضطّرة اليها عن غير رضى منها، ولكن تداركاً لما هو أخطر.

في ظل تصدّعات متسلسلة في الثقة والولاء والمشاعر لا يبدو أمام الحكومة سوى السير في الطريق التي رفضتها، وتبني الخيارات التي نبذتها في الاصلاح الشامل والجوهري. لعلها تدرك الآن بأن أي عمل اصلاحي وإن كان شكلياً يصبح لدى البعض قضية كبيرة، ولعل رد الفعل اليائس يدفع بالكثيرين لأن يدسوا الجمل في سم الخياط، فما هو ضئيل الحجم في الاجندة الاصلاحية الرسمية يصبح في المنظور الشعبي فرصة للتعبير عن الطموحات الكبيرة، ولن تغني مكابح الدولة لعجلة الاصلاح عن اندفاع التيار الشعبي نحو مراحل متقدمة تتجاوز رغبة صاحب القرار وأجندته. ربما يتهامس الامراء فيما بينهم بأن الناس لا ينفع معهم الا أن إعطاء القليل المهمل حتى لا يطمعوا في المزيد، ولكن المقادير لا تقررها العائلة المالكة وحدها، لأن الظروف المتسارعة محلياً واقلميمياً ودولياً تفرض شروطها وأيضاً مقاديرها.

ليست التغييرات الحاصلة في السعودية هي ترجمة لإرادة عليا، وليست مصممة للتعبير عن أجندة معدّة سلفاً، وإنما تأتي إستجابة لضغوطات محلية واقليمية ودولية بدرجة أولى، الى جانب الخوف من انفلات الوضع الداخلي الى حد تكون فيه الحكومة عاجزة عن الضبط والسيطرة. واذا كان هناك من يحاول الترويج لـ (مكرمة ملكية) او (أوامر سامية) أو (إرادة عليا) في موضوع الانتخابات البلدية أو حتى في موضوعات اخرى مثل الحوار الوطني فإنه بهذا يخفي حقيقة التغيير الجوهري الحاصل في الشارع المحلي، وهو شارع بات مؤهّلاً بدرجة كبيرة لخوض غمار السياسة بجرأة عالية، وأنه لم يعد يكترث الى خطاب الدولة الوطني او الديني الا بما يترجمه هذا الخطاب من مشاريع وأفعال تنموية حقيقية على الارض.

لقد سأم الناس من أي خطاب مهما يكن منزعه الايديولوجي ما لم يكن يلبي بعض طموحاتهم، ولا يضع حاجات الناس وهمومهم في قائمة أولوياته. إنها لحظات حاسمة بالنسبة لشعب يكتوي بإقترافات الحكم الكارثية ويبحث عن منقذ. فالدولة لم تعد تملك المراهنة على جدارتها السياسية، فقد خضعت للفحص العام وباتت موضع شك من قبل الشارع، الذي أصبح متململاً محبطاً. لقد بدا واضحاً في الاقبال الهزيل على مراكز التسجيل في الانتخابات البلدية، وهذا مؤشر كافٍ على الفاصلة النفسية الكبيرة بين الحكومة والمجتمع، رغم الدعوات المتواصلة من القيادة السياسية وما دونها.

لا ريب أن الحكومة أمام تحديات كبيرة تتصل بمصداقيتها وبأدائها العام، ولكن ما هو شديد الالحاح في الفترة الراهنة هو قضية محاكمة الاصلاحيين الثلاثة. ويمكن القول بأن إطلاق سراح الرموز الاصلاحية وحده الخيار المتاح للحكومة، لأن بقاءهم داخل المعتقل لا يخدم الحكومة، بل يمثّل وصمة عار ودليل إدانة ضد القيادة السياسية. فمازال المراقبون للشأن السعودي يعبّرون عن دهشتهم من السلوك السعودي المتناقض، الذي يعبّر عنه اعتقال الاصلاحيين فيما تزعم الحكومة أنها ماضية في طريق الاصلاح.

وهنا كلمة يجب ان تقال لكافة أفراد التيار الاصلاحي الوطني الذي يتحمل جزءا جوهرياً من المسؤولية الوطنية في قضية الاصلاحيين الثلاثة، رغم تقديرنا للجهود الكبيرة التي بذلها بعضهم في الضغط غير المباشر على الحكومة من أجل الافراج الفوري وغير المشروط عنهم. وندرك في الوقت نفسه أن ثمة أدواراً منتظرة من أفراد التيار الاصلاحي الوطني الذين كان لهم نشاط فعّال في اعداد العرائض وتعميمها، من أجل الاضطلاع بمهمة الدفاع عن قضية الاصلاحيين الثلاثة، التي باتت قضية وطن بأكمله.

التحرير