آفاق الحلول لمعضلة التعدد والتنوّع في السعودية

تناظر بين الحالتين العراقية والسعودية

محمد علي الفائز

  

هل المملكة مهيّأة للتقسيم، حاضرة للحرب الأهلية، منتظرة الأجنبي تدخّلاً واحتلالاً؟

هل الخطر حقيقي قريب الوقوع ينتظر الفرصة الزمنية المناسبة لانفجاره، أم هي تهويمات وإشاعات مرضى يستعجلون الإطاحة بالدولة السعودية لغايات في أنفسهم؟

 

اعتادت (شؤون سعودية) نشر مقالات ودراسات تحاول توضيح عمق أزمة الهوية الوطنية، وأسبابها، وانعكاساتها على النسيج الإجتماعي والإحتراب الداخلي الذي يأخذ ألواناً طائفية ومناطقية، وألمحت في كثير من المقالات الى بعض الحلول التي يمكن استدعاؤها بغية التخفيف من الأزمة، حفاظاً على وحدة الدولة، ووضع الكوابح المانعة الى تحوّل الإختلافات الثقافية والدينية والمناطقية وتضارب المصالح السياسية والإقتصادية، تحوّلها الى حرب حقيقية على الساحة السعودية نفسها.

وتدق أزمة العراق الحالية، في أبعادها السياسية والإجتماعية، نواقيس الخطر في الدول المجاورة، فالعراق يشهد انجرافاً بل انفلاتاً طائفياً ينذر بحرب أهلية، لا يمنع انطلاقها بشكل واسع سوى موقف المرجعية الدينية الشيعية التي قطعت ردّ الفعل، وإلا لتحوّل العراق الى مسرح للحرب في أيام، ولتقسّم العراق الى ثلاث دويلات بأسرع مما يخطر على بال المراقبين. هذا، والعراق في بنيته أكثر شعوراً بالحسّ الوطني، ومجتمعه كان على الدوام أكثر تجانساً رغم الإنشقاقات السياسية ورغم التعدد العرقي والمذهبي.. ومع هذا لم يمنع ذلك الطائفية من الفلتان من هذا الطرف أو ذاك، تغذّيه مشاعر الخسران السياسي، وتحريض دول الجوار.

والذي يعنينا في المملكة من التجربة العراقية، أنها تنضوي على ثلاث دعامات قابلة للنسخ والتكرار:

أولها، التدخل الأجنبي بحجة أو بأخرى، بالسياسة أو الإقتصاد أو الحرب أو بكلها معاً، وما ترتب عليه من إسقاط النظام القائم. هذا التدخل المباشر يخشاه المسؤولون السعوديون، ومن بيده صناعة القرار، وكذا من ينتفع أكثر من الدولة اليوم، وهؤلاء هم أكثر من يتغنّى بالوحدة قولاً ويمارس عكسها على أرض الواقع، وهم أيضاً أكثر الخاسرين من التدخل الأجنبي في حال وقوعه، وبالتالي يمكن التوقع بأنهم أكثر الحادبين النادبين (قولا) على الوحدة الوطنية! وأكثر من يفتي مانحاً ومانعاً ومتهماً هذا الطرف أو ذاك بالخيانة الوطنية العظمى. ولعله من نافلة القول هنا التأكيد على أن عدداً من أصحاب القرار الديني والسياسي في المملكة ينظرون الى مساهمة سعوديين في الحرب في العراق على انها ردّ فعل مشروع لا من زاويته الدينية، أي الإنتصار لعرب ومسلمين احتلت ديارهم.. ليس هذا فحسب، بل هو رد فعل سياسي استباقي يورّط الأميركيين في المستنقع العراقي حتى لا يلتفتوا الى تغيير الأنظمة المجاورة سواء في السعودية أو إيران أو سوريا والتي ترى ذات المسألة وتنتابها ذات الهواجس وكل منها يعتقد أن الدور الآتي سيكون عليه.

توفر السلفية في المملكة اليوم مادّة تحريضية تستدعي التدخل الأجنبي، كما يوفر التدخل السلفي في دول الجوار وغيرها أدلّة إثبات لدى الجناح المتصهين في الإدارة الأميركية والذي ينادي بالقضاء على (مفرخة) الإرهاب السعودي. وإذا كان صدام حسين قد أُسقط تحت مدّعى انتاج أسلحة الدمار الشامل، فإن الأميركيين انفسهم لا يحتاجون الى مبررات كثيرة (والقوة أصلاً لا تحتاج الى شرعنة أو تبرير) للتدخل وإسقاط النظام القائم الذي يحابي المذهب السلفي المتطرّف، أو الذي فشل في احتواء تطرفه ونزع مخالبه.

وثاني هذه الدعامات، أن النزعة الطائفية المناطقية التقسيمية في المملكة هي أعظم وفوراً في المملكة منها في العراق.. وقد أدّت في العراق حسب بعض الباحثين الى قيام حرب أهلية تصفوية بدون يافطات تظهرها كذلك؛ فما فعله صدام حسين لم يكن سوى حرب أهلية اتسمت بالمذابح على قاعدة طائفية (ضد الشيعة) وقاعدة عرقية (ضد الأكراد السنّة) ولكنها وضعت في إطار مواجهة حكم وطني لعملاء مدعومين من الخارج؛ لكن عدد الضحايا الذي جاوز المليونين في أقل التقادير وتنوّعهم صغاراً وكباراً ونساءً وأطفالاً لا يستقيم مع تحليل أن ما قام نظام الطاغية بمثابة دفاع عن النفس، فالقتل بالمجان وتدمير آلاف القرى الكردية، والمقابر الجماعية، لا يوجد لها مبرر من خوف بقدر ما هي نزعة دموية تقوم بالتصفية الجسدية للمختلف مذهباً أو عرقاً في حرب أهلية غير معلنة، باركها البعض في الداخل والخارج بالصمت حينا وبالتبرير حيناً آخر. أما اليوم، فما يجري ـ حسب رأي البعض ـ ما هو إلا استمرار لتلك الحرب الأهلية، ولكن بغطاء (محاربة الإحتلال) وإلا فإن كل مواصفات الحرب الأهلية تكاد تنطبق على الوضع العراقي، حيث القتل على الهوية، وحيث التصفيات الإنتقائية، وحيث النزعة الطائفية تفوح من وسائل الإعلام العربية، وحيث التعبيرات الطائفية والتهديد بالحرب الأهلية (القائمة) ديدن بعض قوى العنف، وحيث التفجيرات التي تتقصد الآمنين جماعات أو أفراد بالهاونات والسيارات المفخخة. نعم لم تنجرف كل الأطراف المعنية بالحرب الطائفية الى الرد بالمثل، رغم وضوح مؤشرات الحرب ومقاصدها واستهدافاتها، وهذا ما يجعل عنوانها متوارياً تحت غطاء (مكافحة الإحتلال) وإن كان المحتوى لا يغير كثيراً من الحقيقة.

ما يعنينا في المملكة من هذا السيناريو العراقي المظلم ـ والذي قد يتحول الى أكثر ظلمة وقساوة وعنفاً في حال فشل مشروع بناء الدولة ـ يمكن أن يتكرر في المملكة حتى بدون التدخّل الأجنبي المباشر؛ فنحن نعلم أن فائض المشاعر العقدية ـ السلفية قد تمّ تصديره الى عدد من دول الخارج وبينها العراق، ورأينا مفعوله الإنشطاري الدموي، رغم أن السلفية شأن طارئ وجديد في العراق ولا تحوز إلا على أقلية من الأتباع، فكيف سيكون مفعوله في بيئته المحليّة، حيث نما وترعرع ودُعم، وحيث تتداخل النزعة الدينية بالمناطقية بالقبلية والعنصرية، وحيث السلفية شريك في الحكم وسند للنظام ولها قابلية للإستخدام ضد الاخر في المعارك السياسية على قاعدة دينية منذ نشأ كيان المملكة الحديث، بل حتى قبل نشوئه؟

إن ما يستهوي السلفي السعودي للجهاد في العراق وتصدير أيديولوجيته إليه، ليس الإحتلال، فهذا حدثٌ عارض، بقدر ما يستهويه مناكفة ومحاربة (المشركين الكفار المتحالفين مع الصهاينة والمسيحيين!) وهم الشيعة. فالعراق لم يكن ـ تاريخياً ـ مغرياً لا سياسياً ولا عقدياً للسعوديين كنظام حكم أو كأيديولوجيا، ولم تكن علاقة العراقيين السنّة العرب وغير العرب جماهير وسياسيين ورجال دين وأصحاب رأي، لم تكن علاقتهم بالسعودية إلا علاقة احتقار وتنافس وعداء. الطارئ الجديد الذي استفزّ مشاعر السلفية ليس بالضرورة احتلال الأميركيين للعراق، بل (بروز الصوت الشيعي فيه) بحكم الحجم السكاني النسبي. لا تستطيع معدة السلفيين في المملكة، وربما في غيرها، تحمّل أن يتغيّر وجه العراق (السنّي) منذ قيام الدولة العراقية الحديثة، ليأخذ شكلاً يتناسب مع ثقافة (مكونات المجتمع) ومع مصالح تلك المكوّنات؛ ولذا يفضل السلفيون والطائفيون عموماً، أن لو بقى صدّام حسين في السلطة مع جرائمه المعهودة من أن تتغير هذه المعادلة.

حماسة السلفيين السعوديين (للجهاد) في العراق أدنى من أن تقارن بنظيرتها في (أفغانستان) رغم أن البلدين محتلين أميركياً، ولكن في أفغانستان يحتفظ الحكم بشكله السنّي كون الشيعة لا يمثلون نسبة تزيد عن الـ 15% من عدد السكان وبالتالي لا خطر على (الرمزيّة السنيّة) من وجهة نظر السلفيين، بل لا تشكّل الإنتخابات التي جرت في أفغانستان خطراً من هذه الناحية. أما في العراق فالمسألة مختلفة، ورفض الإنتخابات لا يعني رفض إجرائها ما دامت البلاد تئن تحت الإحتلال او لأسباب أمنية، وإن اتخذ هذا كعذر (لاحظ ان الإنتخابات الفلسطينية ستجري تحت الإحتلال أيضاً) مهما كانت الضمانات. الحقيقة هي أن هناك رفضاً للإحصاء، ورفضاً للإنتخابات، ورفضاً لتهدئة الوضع الأمني والقتل على الهوية. والسبب هو أن أي شكل من هذا الإحصاء والإنتخابات سيكشف عن (حكم أقليّة) سنّي عربي لأكثرية عربية/ شيعية وكردية/ سنيّة منذ قيام الدولة العراقية الحديثة عام 1921م، وهذا يستتبعه (محاصصة) حسب النسب هي مرفوضة أصلاً عند من خسر مواقعه في الحكم، وعند الطائفيين في العالم العربي والإسلامي عموماً، وعند السلفيين بشكل أخص، وبالذات في المملكة.

الحماسة السلفية للحرب في العراق تأخذ منحى طائفياً شديد اللحن لا يحتاج الى أدلّة (لاحظ التركيز السلفي اليوم على العراق، وتجاهل أفغانستان، ولاحظ أيضاً كيف أن السلفيين عموماً قد تركوا مواقعهم في أفغانستان ليحاربوا في العراق، بالرغم من وجود الإحتلال الأميركي في كلا البلدين، ولاحظ أن الهجرة الى العراق متسارعة ومتوقفة الى أفغانستان، فالأولى أقرب وأكثر استقطاباً والأكثر إثارة للحفيظة السلفية المتطيّفة). الحماسة السلفية للجهاد في العراق مثقلة بالمشاعر العقدية والإرث الخصامي التاريخي، حيث يستدعى التاريخ، وتتكرّس النمطية في النظرة الى الآخر المذهبي، الذي جرّد من الوطنية فضلاً عن الدين، فصار السلفي السعودي يحاكم وطنية العراقي ودينه، بل ويجري عليه الحكم على أرض العراق بالقتل والخطف وقطع الأعناق. ولا تخلو هذه الأعمال من زهو يطرب النفوس المريضة، ومن احتقار بشع لآدميّة الإنسان، ومن استعلاء عنصري وقبلي؛ فقد تكرّس الشعور لدى مقاتلي السلفية بأن شيعة العراق ليسوا رجال الحرب، وإنما (فلاحين جهلة) لا يمكن أن يصمدوا في معركة مقابل (السنّة). مثل هذا التنظير للحرب والمشاركة فيها والنفخ في روحها واستدعاء التاريخ ليدعمها، يمثّل خطراً على الوضع السعودي نفسه.

فهذه الروح المنفلتة من كل عقال، لا يمكن أن تفعل فعلها في العراق عبر (التصدير)، بينما يسلم (بلد المنشأ) منها ومن وهجها ومن احتمالات وقوعها في أقرب الفرص.

وثالث هذه الدعامات التي يمكن استنساخها من العراق، هي رفض (حكم الأقليّة) المطلق لإعادة تأسيس الدولة على قاعدة وطنيّة مكينة. هنا، في المملكة، وهناك في العراق، شطط واندفاع أهوج الى تبنّي (المعادلة الصفرية) فإما أن يكون الحكم كلّه للأقليّة أو فليهدم الوطن على رؤوس الجميع. هذه المعادلة، الواضحة اليوم في العراق والتي عبّر عنها صدام حسين قبل أكثر من عقد من سقوطه في كلام واضح بأنه لن يترك العراق إلا خراباً يباباً، تُتبنّى بصورة من الصور في المملكة، وقد ألمح اليها الدكتور خالد الرشيد في إحدى دراساته المنشورة هنا في المجلة حين أشار الى مؤديات الرفض السعودي للإصلاح، وكيف أن خيار النخبة الحاكمة قائم على قول الشاعر: (لنا الصدر دون العالمين أو القبر).. إي إما أن يكون هناك بلدٌ نحن أسياده المطلقون، أو هي الحرب ولا شيء بعد ذلك.

هذه الروح المغامرة المستأثرة، المغالية في النظر الى الذات، وبالتالي الحاطّة من قيمة (الشريك) في المواطنة والمصلحة، كانت واضحة في عهد صدام وهي التي سببت الكوارث على العراق وأدّت الى نهايته؛ وهي ذات الروح (الصدّامية) الميّالة الى العنف وسفك دماء الأبرياء التي تقول (نحن العراق ولا غير) والتي لا تقبل بأنصاف الحلول ولا بالمساومات ولا تعرض مشروعاً سياسياً سوى إلغاء الآخر مادياً ومعنوياً، وفي حال رفض هذا لن ينعم العراق بالهدوء كما يهددون.

في المملكة يوجد حكم أقليّة، له نزعة مناطقية ومذهبية وقبليّة، وهو بهذا يتشابه الى حدّ كبير مع نظام الحكم في البائد في العراق في الفلسفة والتوجه، مع اختلاف كبير من جهة حجم العنف المستخدم لإبادة الآخر. في العراق، لا يمتلك المرء أيديولوجيا تنظير للمذابح والإبادة، ولا دعوات أيديولوجية دينية، ولكن النظام كان يمارس كل أنواع الطائفية والعنصرية وحرب الإبادة. أما في المملكة، فإن التنظير للعنف وأيديولوجيا الدم متوافرة في التراث والكتابات بشكل غير مسبوق في تاريخ الأمم، فكل التنظير للعنف تجد له كتابات وتأصيلات دينية تفصيلية مع شرح للمبررات يطول. ولكن هذا التنظير الضخم والكتابات المتنوعة والشاملة لتفاصيل العلاقات مع الآخر المختلف وما يجب القيام به تجاهه، لا تجد لها إلا تطبيقات قليلة بالقياس الى حجم المطلوب (دينياً ـ سلفياً). فحكم الأقلية في المملكة ـ والحق يقال ـ اكتفى بتسويد طائفة ومنطقة وجماعة، ولكنه لم يعمد إلى إلغائها مادياً من الوجود عبر المذابح والمقابر الجماعية على النحو الذي شهدناه في العراق. والرأي السائد هو أنه يكفي حكم الأقليّة (النجدي) السيطرة التامة على تفاصيل الحياة السياسية والإجتماعية والإقتصادية، مع توفير هامش للتظلم ـ الذي لا يُسمع ولا يُستجاب له ـ ومع بعض الحقوق المادية المنتقصة.

حالتان يمكن لهما أن تؤديا الى تفعيل التراث السلفي الوهابي باتجاه العنف الدموي والمذابح على نحو واسع، أي أوسع من العنف الذي بدأ قبل عامين والموجّه الى الدولة أو ضد الجنسيات الغربية.

الحالة الأولى: ان تتبنّى الدولة الإصلاح الشامل حسب ما حدده الإصلاحيون في عرائضهم وخصوصاً (عريضة الرؤية) والتي قدمت لولي العهد. فالإصلاح الشامل، سيعيد تأسيس الدولة السعودية على قاعدة جديدة يجعلها أكثر ثباتاً وتماسكاً وقوة؛ ولكن تبنّي الإصلاح الشامل قد يستفزّ المتطرفين الدينيين ـ السلفيين والنجديين عموماً، لأنه يلغي الإحتكار السياسي والديني والإقتصادي والعسكري على حساب (الأقلية الحاكمة). هذه الأقلية المتضررة، تشمل رجال آل سعود، ولكن هؤلاء قادرين ـ نظرياً ـ على تحمّل تبعات الإصلاح الشامل، فهو وإن خفّف من تسلّطهم، فإنه يمنحهم عمراً طويلاً في الدولة، ويقنّن قيادتهم لها، وهذا يعدّ تعويضاً مناسباً لهم. اما الفئوية الحاكمة خارج إطار العائلة المالكة، وخاصة التيار السلفي، فإن خسارته لا تعوّض، وهو يرى أن الإصلاح الشامل يتناقض مع ثوابت المذهب، ولا يقبل بالمحاصصة أو المساومة على التراث الوهابي، ولا ببقاء التعدد المذهبي، فضلاً عن مساهمة هذا التعدد في بناء مؤسسة دينية متنوعة، أو قيام مؤسسات دينية أخرى مقابلة تمثل التنوع نفسه.

في هكذا الوضع، قد يرفع السلفيون غطاء الشرعية عن النظام القائم (الذي بإمكانه التعويض عن ذلك بشرعية وطنية أكثر صلابة) وقد يحرّض على العنف ضد النظام وضد الفئات الأخرى المهتضمة التي حرمت من المشاركة في السلطة أو الإنتفاع النسبي المعقول منها. إن حصحصة السلطة في المملكة كما كانت في العراق أمرٌ غير وارد، خاصة للتيار السلفي، وهو مستعد للقتال من أجل ذلك حتى النهاية. والعائلة المالكة من جانبها، لا ترغب في الأصل في الإصلاح، وقد وجدت في معارضة التيار السلفي ذريعة إضافية للتخلي عنه. لذا أصبح جميع المشاركين الفئويين ضمن (الأقلية الحاكمة) رافضين للإصلاحات لأسباب مختلفة تلتقي على ضرورة عدم تفتيت السلطة أو إدخال لاعبين جدد فيها، حتى وإن احتفظت تلك الأقلية بسلطات غير مبررة تفوق حجمها.

الحالة الثانية: إذا ما فشلت مطالب الإصلاح الشامل، أو حتى النسبي، وهو متوقع جداً ـ كما في الحالة العراقية إبان عهد صدام حسين ـ فإن خيار التدخّل الخارجي يصبح ملحّاً، يعضده دعوات للتقسيم. وحينها قد تنشب الحرب الأهلية، حتى في غياب العامل الخارجي. فالدعوات الإنفصالية عن الدولة النجدية، انشقاق ضد الهيمنة النجدية في واقعها، وهي بهذه الحالة قد تستدعي تصنيفاً بين (الوحدويين الوطنيين) وهم سكان المركز المحكوم برموز الأقلية المسيطرة اليوم، وبين (الإنفصاليين العملاء) وهم سكان الشرق والغرب.. وهنا يسقط عامل ديني أساس في التراث الوهابي، وهو أن المواطن المشرك (الشيعي او الصوفي أو الإسماعيلي، وبالأحرى غير الوهابي) لا يعد مستأمناً حين يطلب الإنفصال. فعدم الإعتداء جسدياً على (المشرك المستوطن) حسب التعبير الفقهي، يكون مقبولاً دينياً طالما هو (خاضع) لحكم المواطن الموحد (النجدي ـ السلفي) وينتفي التعهد بعدم المساس به في حالة خروجه على (ولي الأمر) أو في حال (انشقاقه) عن ولاية المسلمين الموحدين المتطهرين.

وهكذا فإن البعثية الصدامية كما الفئوية الوهابية ـ السعودية لا تقدمان حلولاً للخروج من مأزق التعدد، سوى القسر والإكراه والإلغاء والمذابح؛ وإن عدم البحث عن حلول سلمية مقبولة وإن كانت غير منصفة سيوصل الدولة السعودية ـ حتماً ـ الى مأزق الحرب الأهلية والتقسيم والتدخل الأجنبي.