سعياً للتعايش بين الشيعة والسلفية في السعودية

مدخل الى فهم الذات والآخر

  د.فؤاد ابراهيم

 إن المقاربة الجادة لفهم الذات والآخر تستدعي ضرورة التفكير بصورة متعددة الابعاد للاحاطة بإتجاهين متناقضين أو متنازعين ظاهراً، فقد ألفنا أن ضروب التمييز أو الفصل بين التشيع الامامي والسلفية في السعودية يتم عن طريق حشد أدلة التفارق والتمايز وهي مهمة تبدو سهلة للمشتغلين في حقل (الفرق والاهواء والملل والنحل). ولكن ما يجعل الأمر على درجة عالية من التعقيد والتشابك، هو محاولة إعادة الربط أو حتى الارتياب في كل ضروب التمييز المزعومة من أجل فهم مكوّنات الوعي لدى كليهما. فالتمايز لا يصبح دليلاً  حاسماً بمجرد التواطىء الجماعي على فرضه، فقد يختفي وراء هذا التمايز ما هو مشترك، وإن جاءت الطبيعة الخارجية لمنشأ كليهما مختلفة في الظاهر.    

إن ما يجعل مهمة التعايش بالغة الصعوبة هو أن التشيع والسلفية يتوفران على متشابهات مشتركة ولكنها موجهة لتعزيز الضدية والتمايز وليس التقارب. والتشيع المقصود هنا هو المذهب الامامي الاثني عشري الذي يعتنقه ما يقرب من نصف سكان المنطقة الشرقية الغنية بالنفط. وسأستعيض عن استخدام الوهابية ذات الدلالة غير المحايدة بالسلفية درءا لأية انطباعات محتملة يمكن أن يخلقها المصطلح، سيما في ظل الاستقطاب الحاد والمناخ المشحون بالضدية.

إننا نستطيع البدء في رؤية التشيع والسلفية من منظور سيسيولوجي، سعياً لاقتفاء جذور الاشتراك والتفارق، ويمكن الاحتجاج بدرجة عالية من الثقة بأن نشأة كل من التشيع والوهابية جاءت على قاعدة مناهضة، فهما من حيث التكوين مشروعا مقاومة ضد انحراف خارجي. وباختصار يمكن القول أن التشيع هو حركة ضد انحراف الدولة بينما السلفية هي حركة ضد انحراف المجتمع، مع أن الحركتين تفضيان بل وتصلحان أيضاً لاقامة دولة في حال استخدام عنصري المقاومة فيهما، فكلاهما يحتفظان بقدرة تعبوية هائلة تعين على إنجاح مشروع الدولة. وأكثر من ذلك، فإن التشيع والسلفية يملكان إجابات حاسمة وقاطعة على اسئلة تتعلق بإنحراف الدولة والمجتمع وفي سبل مقاومته، ولكن كلاهما أيضاً يفتقران الى إجابات حاسمة ونهائية على اسئلة تتعلق بسير عمل الدولة والمجتمع وادارتهما، فهما لا يزوّدان الدولة والمجتمع بإجابات ـ خارج السياق التيولوجي والميتافيزيقي ـ حول ادارة اقتصاد الدولة وسياساتها في التعليم والتنمية فليس لديهما علاجات قاطعة لمشكلات المجتمع والدولة.

وفق هذا الزعم، فإن بقاءهما على قيد الحياة مرهون بابقاء نشاطية عنصر المقاومة في كليهما. إذ ما إن يصل مشروع الدولة الى لحظة الولادة بإسم التشيع او السلفية حتى يبدأن بلفظ انفاسهما، لأن قيام الدولة يفضي الى إنهاء مبرر وجودهما، إذ المقاومة أصل الوجود والاستمرار فيهما.

ولذلك نرى بأن السلفية في السعودية عاشت صراعاً مريراً ومصيرياً مع الدولة منذ نشاتها سعياً وراء إستعادة الزخم النضالي وعنصر المقاومة الذي أعطبته الدولة لحظة ولادتها، ولأن من شروط استقرار الدولة امتصاص عنصر التفجّر في الايديولوجية التي أوصلتها الى الوجود. فحين قرر مؤسس الدولة سحب فتيل المقاومة من جيشه العقائدي كان كمن كان يتلو بياناً ينعى فيه موت هذا الجيش الذي تأسس لغرض فتح البلدان. وينطبق الحال على التشيع في ايران في العهد الصفوي، ولعل في كتاب شريعتي (التشيع الصفوي والتشيع العلوي) ما يلمح الى محنة مماثلة على يد الحكام الصفويين، الذين أماتوا في التشيع التاريخي عنصر المقاومة والاعتراض وأحيوا فيه عنصر المساومة والانتظار.

وأمكن القول، تبعاً لما سبق، بأن التشيع والسلفية هما غير قابلين للتدجين سياسياً، ما لم يتم تفكيكهما عن طريق إعادة تفسير محتوياتهما مع ابقاء القشرة الخارجية، فهما سيظلان مشروعي دعوة ومقاومة ضد الدولة والمجتمع، وإن نهايتهما تكمن في لحظة انتصار وقيام الدولة بإسم أحدهما. وكمحصّلة لما سبق، فإن الوهابية والتشيع يوفّران آلية فاعلة لاقامة الدولة، ولكن بالتأكيد لا يصلحان بذاتهما للتحول لأيديولوجية دولة، لأنهما في الاصل مشروعا مقاومة حيوية متصلة في هيئة حركة تبشير دعوي وجهادي. بكلام آخر، إن مهمة التشيع والسلفية تنتهي في ايصال المشروع السياسي الى لحظة الانجاز، ما لم يخوضا مشروعاً نضالياً آخر في أماكن أخرى، يعيد توظيف وتنشيط عنصر المقاومة فيهما كما فعلت السلفية حين استعاضت عن مواجهة الدولة في الداخل بأن صنعت لها جبهات بديلة في الخارج من أجل إفراغ المخزون النضالي في شكله الاممي، ولعل هناك من تنبّه في الدولة السعودية الى خطورة الحصار ضد السلفية في الداخل فوجّه زخم المقاومة في السلفية بإتجاه الخارج.

ويمكن القول بعد ذلك، بأن الدولة قد تستعير معناها الديني من التشيع والسلفية، في سياق توفير ذريعة الوجود والاستمرار، ولكن ما إن تنتفي حاجة الدولة من استدانة المعنى، تبدأ محنة المعنى نفسه الذي يظل عصيّاً على الاخضاع الدائم، لأنه قد يتعرض لعملية انضاب على يد الدولة نفسها. وسنكتشف لاحقاً بأن التشيع والسلفية هما مصدرين غير قابلين للتجديد، بمعنى فقدان القدرة على التجديد الذاتي من الداخل، كون هذه العملية تتطلب في حالتي التشيع والسلفية بعثرة شبه كاملة لمحتوياتهما. لقد اعترضت السلفية على كثير من سياسات الدولة في التعليم والتكنولوجيا والاقتصاد والقوانين والعلاقات الدولية، تماماًَ كما اعترض الاتجاه التقليدي الشيعي على قيادات الجمهورية الاسلامية الايرانية في عهد السيد الخميني ومابعده على بعض الاحكام المتعلّقة بالدولة، لأن في ذلك تقهقراً للمعتقد، ورموزه المطلقة، وقد يفسّره الجناح الطهراني في كليهما على أنه عدم وفاء للخدمة الجليلة التي أسداها المعتقد للدولة كيما تجعل من حلم انوجادها حقيقة ساطعة.

واذا كان مبرر الاصلاح والتجديد واعادة تفسير النص ناشيء عن رد فعل على تحدي الآخر أو الرغبة في التعايش معه وأحياناً تلبية لحاجات الدولة كما في السعودية وايران، فإن ذلك يحضرنا على الفور الى جدلية العلاقة بين الدين والدولة، وهي علاقة الثابت بالمتحوّل، فالدين بما هو منظومة مبادىء وقيم ثابتة وأن الدولة بما هي منظومة متغيرات خاضعة للخطأ والصواب حينئذ تصبح عقم العلاقة بينهما إمكانية واردة دائما. إن الدين مبدأ اختياري والدولة ظاهرة قهرية ولا علاقة لذلك بضرورتها الانسانية، وطبيعة الدولة تفضي حتماً الى الغاء الاختيارية لدى الخاضعين تحت سلطانها، وهي تؤدي في نهاية المطاف الى قمع المبدأ الديني. وهذا يتطلب فصل المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية من أجل تجنيب كليهما ويلات الآخر وكي لا يفتئت أحدهما على الآخر.

ومن اجل احباط أية انطباعات أولية حول ما سبق ذكره، لابد من التشديد هنا على فاصل حاسم بين الاتجاهين الشيعي والسلفي، والذي قد يفسّر ما قد يفهم من الانغلاقية المقصودة فيهما، لأننا حينئذ مدعوون بإخضاعهما الى المؤثرات المدرسية والتاريخية وحتى ظروف مكان النشأة، وهذا من شأنه إعانتنا على ادراك السيولة والصرامة في كل من التشيع والسلفية، وبين المساحة الفاصلة بين الفكر والعمل، أي بين المتبنى النظري والموقف العملي.

إن الفاصلة بين الفكر والممارسة لدى السلفي تكاد تكون معدومة بينما لدى الشيعي فإنها تكاد تكون كبيرة فليس كل ما هو مكتوب يترجم في هيئة أفعال ومواقف، رغم أن هذا لا يندرج في إطار التبرير بل يفرض على الشيعي تضييق الشقة بين الفكر والممارسة وإن كان يتطلب ايضاً ممارسة نقد ذاتي من أجل ازالة المتناقض مع الممارسة العملية. إن ما يلزم فهمه أن المدوّنات المذهبية لا تعكس بالضرورة السلوك اليومي للمعتنقين، فقد يعثر المتساجلون على ما يصفونه شهادات إدانة استناداً على مدوّنات قديمة او حتى حديثة ولكنها قد لا تترجم الموقف العملي لدى المحسوبين عليها.  

لتوضيح هذه النقطة نزعم، على سبيل المثال، بأن ثمة جرعات ثقافية خارجية قد جرى امتصاصها من قبل التشيع، وتفسير ذلك أن ثقوب التسرب الثقافي الى التشيع كانت واسعة وهذا ما سهّل دخول بعض الافكار الى التشيع وتحوّلها الى جزء من بنيته التاريخية والعقدية. والسبب في ديناميكية التشيع واستيعابه لكثير من الافكار هو امتداده وبنيته المنفتحة على تلاوين اجتماعية وثقافية متنوعة، بعكس السلفية التي بقيت مصونة عند رعاتها الاوائل في نجد، وأن من دخلها لاحقاً  جاء اليها وقد أحكمت السلفية أبوابها بإحكام، رغم أن بعضهم مثل الشيخ الالباني حاول زحزحة النص السلفي، ولكن هي محاولة تبدو ضئيلة الأثر قليلة الثمر. فمن الناحية التاريخية والعملية، عاشت السلفية في القرى المنعزلة ثقافيا واجتماعياً، وأن الذي غادروا القرى المحصّنة الى المدن الحديثة لاشك أنهم امتصوا بعض منجزات الحداثة. ولهذا السبب أيضاً يمكن تفسير لماذا أن السلفية كانت قادرة على اختراق المجتمعات المغلقة اجتماعياً والتي يكاد ينعدم فيها الحراك الفكري والثقافي فضلاً عن السياسي. ولذلك عجزت الحركة السلفية عن تأسيس وجودات حركية فاعلة من أي نوع أو حتى تحقيق اختراق عقدي في الدول التي شهدت حراكاً فكرياً نشطاً ومنفتحاً على تيارات فكرية متنوعة مثل مصر وسوريا ولبنان وغيرها، وهذا لا يعني أن السلفية محصّنة أمام محاولات التوريط، أو أنها غير قابلة للاستغلال سياسياً حتى في الدول الاشد تقدماً وانفتاحاً فكرياً، فكما نرى أن السلفية بنسختها السعودية توظّف الآن في حرب طائفية في العراق رغم أن الاخير كان من الناحية التاريخية مناهضاً للمدرسة السلفية ليس من الشيعة فحسب بل من المدارس السنيّة أيضاً.

في الواقع، إن السلفية تجد لها حواضن نشطة في المناطق ذات الصبغة القروية المعزولة ثقافياً كما الحال في افغانستان والجزائر واليمن وجنوب الاردن، فهناك تحقق السلفية أقصى أحلامها الكونية، وتتخذ منها قواعد لانطلاق طلائعها الفدائية التي تنبث في المناطق البكر لتحقيق النبوءات التاريخية النادرة.

على العكس، فإن نشأة التشيع كانت ذات طبيعة حضرية بمعنى أن روّاد التشيع نشأوا أو عاشوا في المدن وتفاعلوا معها وتأثروا بالنشاط الفكري فيها، هذا نلحظه بعد الغيبة الكبرى عام 329هـ حيث كان روّاد التشيع الاوائل الشيخ المفيد والشريف المرتضى والشيخ الطوسي مقيمين في بغداد التي كانت حاضنة حينذاك لأكبر تنوع فكري ومذهبي في تاريخ المسلمين على الاطلاق. وهذه الحالة تكررت في وقت لاحق في الحلة وطهران والنجف وقم، فقد كانت هذه المدن مفتوحة الحدود ثقافياً، فحركة الاجتهاد (ذات المنشأ السني) بدأت من الناحية العملية في الحلة على يد المحقق الحلي، وكانت النجف حسب اسحاق النقاش في كتابه عن شيعة العراق بأنها كانت تستقبل عشرات المجلات الثقافية والادبية القادمة من مصر ولبنان. بل حتى في العصر الحديث لاحظ ارفند ابراهيميان ان الخطاب الثوري للسيد الخميني اشتمل على مفردات اشتراكية اقتبسها من العناصر النضالية التي كانت تحيط به في النجف، فضلاً عن تأثير المفكر الايراني علي شريعتي في صياغة ايديولوجية الثورة الايرانية.

ولعل المصاهرة التاريخية الفريدة بين التشيع والوطنية في ايران كانت إحدى التجسيدات البارزة لقدرة التشيع الفائقة على امتصاص الافكار الاخرى والتعايش معها، رغم أن ذلك لا يعني بأي حال المساس بالنص الاصلي للتشيع الذي ظل متماسكاً طيلة القرون السالفة، فتلك التغييرات تقع خارج فضاء النص وإن كانت في مؤداه النهائي خروجاً عليه. وبينما كان الداعية السلفي مشغولاً في حياكة وطن من نوع خاص، يتم الفصل فيه بين المواطن المؤمن والمواطن المشرك والمعاهد المستأمن كمتواليات حقوقية غير متجانسة، تمكّن التشيّع من عقد أقوى مصاهرة تاريخية مع الوطنية في ايران. إن أسئلة من نوع: لماذا قبل التشيع الوطنية في ايران ولم تقبل السلفية هذا المبدأ؟ هل لأن السلالة الصفوية أقل تديناً من السلالة السعودية، أم لأن المؤسسة الدينية الشيعية الايرانية أضعف أثراً من المؤسسة السلفية السعودية؟ هي أسئلة غير جديرة بالاهتمام لأنها تزوّدنا بإجابات مضللة. تماماً كما أن القول بأن السبب الظاهري لنجاح المصاهرة بين التشيع والوطنية في ايران يرتد الى عدم سيطرة منطقة على المناطق الاخرى،  أي أن الوطنية في ايران لم تنشأ عن طريق قهر جزء للاجزاء الاخرى، بمعنى سيطرة عناصر خاصة: منطقة، فئة، مذهب، وهي مكوّنات هوية خاصة وليست هوية وطنية. فهذا الرأي يبدو ناقصاً وهو يمثل وجه العملة الأول، لأن هناك بالتأكيد أسباباً أخرى أشد تعقيداً، وترتبط أحياناً بقدرة السياسي على تكييف المخزون الايديولوجي لجهة صياغة مشروع دولة مكتملة الشروط الوطنية. فمن الواضح، أن التشيع لم يعزز الانتماء الوطني لدى العراقيين كما لم يعززه في دول اخرى بما فيها السعودية، لا لكون التشيع أنجب مضاداته على دولة غير وطنية فحسب، بل لأن في التشيع أيضاً ما يصلح لتأجيج المناوئة الشديدة للدولة، باعتبارها شكلاً من اشكال الغصب على المستوى المذهبي والقهر والفساد على المستوى الاسلامي والثقافي. وهذا ينبّه برنين مدوٍ الى أن التشيع قد استقر في اشكال وصياغات متعددة، ولذلك يبدو مقبولاً الحديث عن نماذج للتشيع بحسب المجتمعات التي احتضنته وجرى تكييفه مع أوضاعها الاجتماعية والثقافية.

لئنا كان ما سلف مقدمّة ارشادية حول التشيع والسلفية نكون قد اقتربنا من صلب القضية المراد معالجتها في هذه المقالة، للشروع بحفر اولي في إتجاهين يبدوان متناقضين ظاهرياً، من أجل الانتقال الى رصد المشترك بينهما.

 

مشتركات ضدّية

 1ـ شراسة الممانعةعند الطرفين، فثمة مضادات نشطة ثاوية في بنية الوعي المذهبي لدى الشيعة والسلفية تحول دون كسر النسق الفكري الموروث، إذ يتحصّن كل فريق داخل ترسانة من الاسلحة الرادعة عن  التسويات الفكرية التي تتطلب تنازلاً عن جزء من الرأسمال العقدي، في تعبير عن اندكاك الفريقين في الذات الفارطة في نرجسيتها.. ينبئك أحياناً المتساجلون من الفريقين بأن ما يصفونه نقاشاً منطقياً ينتهي الى طريق مسدود، ويصاب كلاهما بالاحباط لأن قائمة شهادات الادانة التي أسرف أحد أو بعض المتساجلين في رصدها وتجميعها من مصادر الخصم تواجه بقائمة مقابلة موازية لها في الاثبات وقوة الافحام. وحاصل السجال يصبح صفراً، فما تخيله كلاهما بأن القائمتين ستؤديان الى إتيان البناء العقدي لكليهما من قواعده ليس سوى وهماً، فما تفعله المحاججات الكلامية ليس سوى تفريغاً لمنسوب الانفعال الذهني بقضية تستسكن هؤلاء المولعين بدحض الحجج تعويضاً عن انكسارات في الداخل والخارج. في حقيقة الأمر، أن الفريقين ينزعان الى تحقيق الذات وليس إحقاق الحق، فكلاهما ينبذان الحقيقة التي تنطوي على إقرار بالخطأ أو التسليم للآخر.

ولأن رحى التجابه المذهبي تدور في مناخات غير محايدة، أي كونها مأسورة لشروط معركة اثبات الذات أولاً واخيراً، فإن ثمة نزوعاً ضارياً لدى الفريقين نحو تدجيج الاتباع بكافة المقاومات الدفاعية التي تحول دون اختراق فكري من الخصم،  فالتجابه في نهاية المطاف لا يؤول سوى الى ابقاء ما كان على ما كان.

 2 ـ نزعة التوسع والاختراق، بمعنى حركية المذهبين.. إذ لا يكف الفريقان ـ بعد تحصين الذات ـ عن الانغماس التام في البحث عن مواقع جديدة ومعتنقين جدد، فشبكات العمل لدى الفريقين تعمل بلا هوادة من أجل تحقيق فتوحات مذهبية في مواقع الآخر، أو حتى في بقع جغرافية نائية تنضاف الى السواد وتدخل ضمن الرصيد الشعبي للمعتقد، وهذه النزعة قارّة في التكوين العقدي لدى التشيع والسلفية.

لا شك أن الدولة السعودية أضافت بعداً سياسياً للدعوة السلفية، وأمدّتها بأدوات تبشيرية فاعلة، تماماًَ كما أضافت الثورة الايرانية بعداً سياسياً للتشيع الدعوي رغم أن كليهما ـ اي التشيع والسلفية ـ كمشروع ديني كان قائماً ويستهدف إشباع الشعور العام بالتفوق الديني. في حقيقة الأمر، أن كلا من التشيع والسلفية حققا في العقدين الاخيرين أضخم عملية انتشار كوني لهما، وسجّلا حضوراً كثيفاً في النشاطات الدينية في قارات العالم.

في المقابل، هناك شعور بالامتعاض الشديد وبفداحة الخسارة لدى الطرف السلفي كون مشروعه الدعوي لم يستوعب الجماعات المذهبية الاخرى في المملكة. فبينما نجح المشروع الدعوي السلفي في استيعاب جماعات جديدة داخل المعتقد السلفي في أرجاء عديدة من العالم وحقق انتشاراً واسعاً الا أنه عجز عن تحويل الجماعات الداخلية وبخاصة الشيعة، رغم المحاولات المضنية من قبل الدولة والمؤسسة الدينية من أجل تحقيق الانسجام الديني الداخلي. مع التذكير بأن التحويل يقصد به الجانب المذهبي المرتبط بالهيمنة فحسب، وليس الجانب السياسي الذي يتطلب المساواة على أساس التوحد المذهبي. إن هذا الاخفاق يفسّر جزئياً على الاقل تضخيم الانجازات في تحوّل عدة أفراد من الشيعة الى الوهابية كتعويض نفسي عن الخسارة في المعركة الكبرى، تماماً كما أن تضخيم تحويل بعض السنة في الخارج الى الشيعة وتداول قصصهم في الداخل يهدف الى تصليب المعتقد الشيعي وتعزيزه في نفوس أتباعه، الى جانب الشعور بالانتصار قبالة إندحار الآخر ايديولوجياً.

3 ـ الانتقال من الاحساس بالخطر الى المبالغة فيه لدى أتباع الفريقين، فكلاهما يبرع في حياكة قصة وهمية عن الآخر، ثرية بكل أدوات الاثارة والفوبيا المتخيّلة التي تضخّم خطر الآخر، وتبرر رفع درجة الخطر الى أقصاها، وتالياً اتخاذ كافة الاحتياطات الاولية عبر شن حملات التعبئة المضادة.. وبحسب هذا المخيال الخصب في تصوير خطر الآخر، فإن مسوّغات القطيعة والتحصين والمدافعة تبدو مقبولة، طالما أن ثمة داهماً يوشك أن ينقضّ لتقويض البناء.

حزمة كتابات صدرت في السنوات الماضية تتحدث عن (مؤامرة شيعية) و(خطر شيعي)، وهناك في التعبير الشعبي الشيعي توصيفات مماثلة مثل (مخطط وهابي) و(تنظيم وهابي) كلها تعبر عن الاحساس بالخطر. فصورة الآخر لدى الطرفين الشيعي والسلفي محكومة بدسيسة متخيّلة ومخططات مبيّتة تحاك من الطرفين في الخفاء، وهي الصورة الكفيلة بصناعة ذاكرة وهوية وجماعة تضمن وجودها وتماسكها عن طريق الاحساس المسرف بالخطر الداهم، وعلاوة على ذلك كله، أن حشد الافراد داخل اطارات جماعية يتم عبر الافراط في تصوير الخطر المصوّب اليهم. ولنسوق مثالين من تجربة الانتخابات البلدية الوشيكة، فالشيعي العادي يصوّر الانتخابات على أنها فرصة شبه كاملة لتحقيق الذات أمام الآخر السلفي الذي يحمّله مسؤولية حرمانه المزمن من حقوقه السياسية والاقتصادية والفكرية، وبالنسبة للسلفي فسأكتفي بنقل فقرة مقتطفة بحرفية تامة من موقع (الساحة) على شبكة الانترنت كإحدى تعبيرات الاحساس بالخطر:

(و الله من موتت القلب يا سعودي يا سني.. نايمين نايمين نايمين.. السنه نايمين والرافضة يرصون الصفوف

الى متى السذاجة؟ ..الرافضة أقلية في السعودية والأقلية أكثر تنظيم وأكبر مكر ودهاء.. يوم الثلثاء القادم يفتح التسجيل في انتخابات المجلس البلدي.. اكيد لا يعنيكم.. اكيد نايمين في العسل.. إنتبه اذا ما سجلت نفسك ناخب يوم الثلاثاء 10 شوال فلن يحق لك التصويت.. أتعرف ماذا يعني هذا؟ اذا ترشح سني ورافضي وقمت تغلي تريد ترشيح السني قيل لك ضف وجهك اي لا يحق لك التصويت لأنك أهدرت حقك في التصويت أنت لم تسجل كناخب.. فهمت..  وتأتي طوابير الرافضة لإنتخاب مرشحينهم.

المفروض ننظر للإنتخابات بجدية ووعي أكبر و أكثر ولو كانت إنتخابات على وضيفة فراش أو مراسل في البلدية.. فللنجاح فيها أو عدمه إشارة يفهمها الجميع الا اللي نايم في العسل.. صح النوم يا سعودي يا سني

الإنتخابات البلدية في الرياض سوف تبرز على الأقل سبعة أشخاص يقررون وبإسم الشعب الكثير والكثير من ما يرضيكم او يزعجكم.. اقرأ يا أيه المسلم السني قبل أن ترى الرافضة تتحكم في شوارعك ومحلاتك التجارية وملاعب اطفالك.. أنتم مستهترين بدور البلدية.. اقرأ يا سني قبل أن يفوت الفوت ولا ينفع الصوت..).

إن هذه التصويرات الجانحة في هذيانها وعنفوانها ليست معزولة التأثير أو مقطوعة الصلة بالوعي الذاتي المتراكم، ولابد حيئنذ من موضعتها في سياقها التاريخي والاجتماعي. فهنا لا تبدو الانتخابات ـ كما تخبرنا التصورات الشعبية المتقابلة لدى الفريقين ـ على أنها آلية لايصال الاجدر او طريقة لتحسين أداء الدولة وتطوير مستوى الخدمات، بل منافسة محتدمة على حصد المراكز، ومعركة لاحتلال مساحة التمثيل الأوسع القائم ليس على الكفاءة بل على الكثرة والقوة.   

4 ـ التمأسس، وجود جسد وأطر مؤسسية، لا يكتفي أي منهما بمجرد العمل وفق آليات تنظيمية عفوية أو حتى وارتجالية تفرضها شروط وظروف الفضاء الذي يسكنان فيه، بل لكل منهما شبكة متمددة من المؤسسات التي تزاول مهام تأكيد الذات ومجابهة التأثيرات الخارجية، فعمليات التحصين لا تتم سوى عبر ترصين مؤسسي فاعل، فالمؤسسات الدعوية والتعبوية هي خطوط دفاعية متقدمة تمثل خطوط التماس غير المباشرة ضد نظائرها لدى الآخر. فالنظام المراتبي الديني لدى الشيعة والسلفية هو الأقوى بين الانظمة المراتبية الدينية لدى عموم الشيعة والسنة من المذاهب الاخرى، فهذا التسلسل المنظّم في مراتب وطبقات رجال الدين، يجعل من تماسك الجماعتين شديداً، كما يجعل سلطة التوجيه وهكذا الاهداف متمركزة، بحيث يجعل عمل المؤسسات منتظماً في حلقات تنتهي الى من هم بالأعلى، القادرين وحدهم على منح جرعة الشرعية. ولذلك، نرى بأن فتوى من أحد مراجع الشيعة في قضية عامة تكون حاسمة لأية خلافات داخلية، كما يخبر عن ذلك فتاوى التنباك والدستور وثورة العشرين وخروج الناس للشوارع في الثورة الايرانية واخيراً في المشاركة في الانتخابات في العراق، كما تخبر في الجانب السلفي فتاوى ذات صلة بحوادث كبرى من قبيل كسر شوكة الاخوان، وحسم هيئة كبار العلماء الخلاف على العرش في عهد الملك سعود وفي دعوة القوات الاجنبية (الكافرة) الى السعودية، وفي مواجهة حركة جهيمان العتيبي، وتطويق النشاط الاحتجاجي للتيار السلفي الشبابي في التسعينيات، واخيراً في رد المفتي العام على بيان الـ 26. إن توحيد مصدر الافتاء والشرعية الدينية يتم في احيان كثيرة بدعم وارادة الدولة، ولكن في الوقت نفسه يعكس حقيقة أن في النظامين الدينيين الشيعي والسلفي ما يسمح بذلك.

إن الكفاءة العالية التي يتمتع بها هذان النظامان الدينيان تتمظهر في سرعتهما الفائقة والخيالية في التعبئة والحشد، فخطابات التوجيه التي تسري عن طريق قنوات الاتصال التقليدية والحديثة من مساجد و(حسينيات لدى الشيعة والمدارس الدينية لدى السلفية) و حلقات الدروس والمحاضرات وبرامج الدعوة والارشاد وزيد عليها حالياً مواقع الانترنت والفضائيات كفيلة وفي وقت قياسي بتلبيد الاجواء العامة وصناعة كل مبررات الخصومة والعداوة. من الملاحظ، أن التقانة الخطابية العالية لدى الفريقين تتولى مهمة صناعة قضية بل قائمة قضايا وهموم، بحيث ينذر الفرد ماله ونفسه وولده لها، فأولئك الضحايا المتساقطين في ساحات الوغى في أفغانستان والشيشان والعراق وغيرها قد تعرضوا لاشعاعات عالية من الخطاب الجهادي في مواطنهم قبل أن ينتظموا في قوافل الفداء بطبعها السادي وبنهاياتها الدامية.

5 ـ السكون حد التماهي في التاريخ والماضي، لقد وطّد المؤمنون بالتشيع والسلفية أنفسهم على الخضوع تحت سلطة الموروث والاستقالة إزاء ما يضخه من تعاليم ونصوص ومواقف وايضاً خصومات، رغم أن دور الاتباع من الفريقين يقتصر على تحديد وتجديد أزمنة المجابهة المذهبية ومقدار المخزون المطلوب استعماله من هذا التراث في التجابه. إن الانتقائية في قراءة الماضي والاسترشاد بالنص الديني تمثل منزعاً متغوّلا لدى الشيعة والسلفية، كونها ـ أي الانتقائية ـ مصمّمة لترسيم الحدود الفاصلة بين الجماعات وفي تعميق الوعي بالذات وتالياً في المنازلات المذهبية الفارغة. لا يحتاج الأمر الى مزيد من الجهد لحشد التاريخ برموزه ونصوصه المنتقاة بعناية في معارك الحاضر، لأن الجميع منغمس فيه بل ومنهزم أمامه، فهذا التاريخ بات جهازاً فائق السيادة وهو منذور لتوفير مواد الاحتراق الضرورية لاشعال الخصومات.

لقد هيأ لنا التاريخ بما يحمله في جوفه أشكالا متنوعة في الرؤية وأنظمة المعنى وايضاً في العلاقة الباعثة إما على الاضطراب او التضامن، ولكن شيئاً واحداً قصرت سلطة التاريخ عن الوصول اليه وهو قرار الرضوخ له، فاستعباده هو قرار مستقل من أولئك الذين حطّّوا رحالهم عند أمل مستحيل التحقق هرباً من يأس الخداع.

لا يتقارع الشيعة والسلفية بأسلحة من صناعة الحاضر تماماً كما هو منشأ معركتهم وأسباب اندلاعها، وإنما يستعيرون من الماضي أسلحته، ولذلك ما إن يشعل أحدهم عود الثقاب في مفاتنات الجدل المذهبي العقيم حتى تفتح مخازن التاريخ أبوابها في عملية لوجستية واسعة النطاق، ولعل أول ما يستحضره الشيعي سلاح السقيفة الذي به يفلق الساحة الى نصفين: من هم مع علي ومن هم عليه، ليسقط هذا الانفلاق من الحساب الديني اخلاقيات علي ونظامه القيمي، الذي يقدّم التوحد العام على الحق الخاص. في المقابل، أول ما يستحضر السلفي مقولات الشيخ ابن تيمية في الشيعة (الذي يحلو له تخفيضهم تشنيعاً بهم الى الرافضة). يعدّ الشيخ ابن تيمية المهندس الأول لنظرية المؤامرة الشيعية في التاريخ منذ فرضية دسيسة العلقمي التي قوّضت أركان الخلافة العباسية، لتتلوها قائمة مكتظة من الحياكات الخيالية، عن العالم الخفي الذي لا يفتر فيه الشيعة عن رسم الخطط للكيد لهذه الامة المتوحدة والنيل من مقدساتها. فلكل من الشيعي والسلفي فضاءه المقدّس، وروايته التاريخية الرسمية، في تعبير عن التأدلج الماحق للحقيقة الكاملة.

6ـ التجريم الابتدائي والجماعي حد التجريد من حق الحياة، فالانطلاق في تقييم الآخر لا يبدأ من قاعدة اخلاقية بل وليس من قيمة دينية، وهذا يعني أن حسماً مطلقاً قد تم في ذهن أتباع الفريقين، على أن كل ما يصدر عن الآخر هو مجرد خطأ مطلق، ولا يستحق الفحص والتوثق، وأن من يعتنقه ليس سوى مجرد معتوه، جاهل، أحمق لا يستحق أكثر من الازدراء به والحط من شأنه بل أن النيل منه لا يتطلب المرور عبر حدود الاخلاق والقيم، فكل تشنيعة على الآخر تصبح معفية من الحساب الاخلاقي، لأن كلاً منهما قد قرر إفناء صاحبه في داخله قبل أن يعدمه في الواقع. ولذلك، فإن التفنن في تلطيخ الآخر واكالة آخر تقليعات الشتم والقذف مسموحة، لأن صورة الآخر لديهما قد بلغت حداً فارطاً في التشويه بما يسمح الهجوم عليها دون ضوابط دينية او اخلاقية. ينكر عليك استدعاء الآيات القرآنية الناهرة عن قذف الغير بدون دليل، أو العدل في الحال كله، لأن انعدام جدارة الآخر يلغي الحاجة الى العودة للضابط الديني، كما يسمح بسحق الآخر.

إن الاحكام الاجمالية التي يطلقها المتساجلون الشيعة والسلفية تعطل آلية الفحص الدقيق عن تباينات وخطوط داخلهم تحول دون تحميل بعض جريرة بعض آخر. فهناك صوّرة نمطية مسوّدة تفرضها نزعة قدرية أو حتمية تاريخية تجعل الاحكام الاجمالية حازمة وقاطعة وغير قابلة للمراجعة. فلدى السلفي رؤية تاريخية استاتيكية تقوم على اعتبار أن ما جرى في معركة بغداد العباسية بصرف النظر عن أوجه التحليل الاخرى قد تكررت في معركة بغداد الاخيرة، وأن الرؤية التاريخية لدى الشيعي تقوم على اعتبار أن النواصب الذين ظهروا في التاريخ هم أنفسهم يتحدرون من نفس الخط الاغتصابي، الذين يكيدون لأهل بيت النبوة ويغصبون حقهم. لا يترك أي منهما لقيم الدين أو حتى للمبادىء الاخلاقية العامة كيما تتوسط معادلة الصراع قبل اطلاق العنان للقلم واللسان في النيل من الآخر جماعياً، فليس هناك ورع عن وصم الآخر بكل تهمة، تبدأ من الاقصى اي بالنيل من الاعراض والتسافل الى حد استعمال كلمات ينأى روّاد المواخير عن استعمالها. لا يمكن تفسير ذلك سوى بطريقة واحدة، إن وجود الآخر بات تهديداً للذات ولابد من إنهاء وجوده البيولوجي، وحين يفشل أحدهما او كلاهما في تحقيق تلك المهمة يلوذ باستعمال كل شيء يعبّر عن تلك الرغبة ولكن بدون سلاح فعلي.

7 ـ الانشغال في الآخر وتنزيه الذات، حيث يكتفي الشيعي والسلفي بما ضمّه سجّله المذهبي، غير القابل للتفسخ والتعليق والتأويل، وبالتالي فهو يصدر عن قناعة بأن الآخر بات عليه ان يغادر قواعده، وأن يخرج من ثغوره رافعاً الراية البيضاء. وفق هذا النزوع النرجسي الاصطفائي، يمتنع كل منهما عن مزاولة أي نقد ذاتي او مراجعة تؤول الى استبدال القناعات الصلبة تجاه الآخر، بل هناك خشية جامحة من عملية كهذه تؤدي الى تسليم الآخر سلاحاً يشهره في وجهه ويستعمله في معركته الفاصلة، فكل منهما مشغول بتحصين الذات عبر دورات تعبوية واسعة ومتواصلة. وكونهما ينوءان بهاجس القاعدة المعروفة (من فمك أدينك)، فإن النقد الذاتي يتحوّل الى جريمة يعاقب عليها حرّاس العقيدة ومن ورائهم جحفل الاصفياء والاوفياء للمعتقد.

ومن المفارقات المثيرة للسخرية، أن الانشغال بالآخر لا يؤسس لطريقة ما في الانفتاح عليه بل في إرساء وتعزيز كل مبررات القطيعة معه، وهناك بلا شك شواهد عديدة لدى الجانبين الشيعي والسلفي. في فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين، كمثال بارز، ما يكشف بوضوح بالغ عن هذا المنزع، فقد أجاب عن سؤال وجّهه اليه أحد السائلين من عمال شركة أرامكو عن حكم الجلوس على طاولة تضم شيعياً (رافضياً!) أو التحادث معه بصورة وديّة، فجاء الجواب بلغة ناهرة تدعو الى مقاطعة الشيعي والانعزال عنه، وفي فتاوي الشيخ بن جبرين الأخرى حول الشيعة ما يندرج في نفس التوجيه الانعزالي. لقد أجرى الشيخ سلمان العودة نوعاً من القسمة المغرضة بلحاظ أن الدعوة للمقاطعة لا تستقيم مع فتوى أخرى تحث على دعوة الشيعة وأهل الضلال لتغيير معتقداتهم واعتناق الدعوة الحق ـ السلفية. فالشيخ العودة يؤسس لانفتاح من نوع آخر والى الحوار مع الشيعي بنيّة دعوته الى المذهب الحق بحسب عقيدته، وليس من أجل فهمه والتعايش معه. وهذه النزعة تلتقي مع نظيرتها لدى بعض علماء الشيعة في السعودية الذين يتبنون مبدأ الانفتاح على السلفي درءا لخطره المتخيّل وطمعاً في انتزاع اعتراف بحقوق منكرة أو مهضومة، وليس انطلاقاً من الرغبة المبدئية في التعايش معه، وإقراراً بحقه في الاختلاف والاعتناق الحر.

ثمة عكوف فارط في نشر ما يعتقد بأنها مخازٍ مستخرجة من كتب السلف، أو حتى منطوقة أو مدوّنة في سجّلات الخلف وتلطيخ المجموع الكلي من المنتمين له. رغم أن الفريقين قد لا يعلمان أحياناً ببعض ما توصف بالمخازي.. فالخصم يمارس عملية تثقيف سالبة في سياق عملية التشهير بالآخر.. وقد يحيط المحارب معرفة بمصادر ونقاط قوة وضعف خصمه بينما يجهل هذا المحارب نصف ذاته الآخر، الضعيف منه. لقد ذهل كل طرف عن ذاته وانشغل حد الانزراع والسكون في الآخر، طمعاً في اشغاله عنه واخضاعه تحت الرقابة العقدية الدائمة التي تبيح وتسهّل مهمة تفتيش معامل ذخيرته العقدية.

إن التداول الواسع النطاق للكتب الطائفية لدى الفريقين يندرج في سياق تبديد فرص التواصل وتعميق القطيعة، ولعل انتشار الكتب الطائفية في المنطقة الشرقية، بما فيها الكتب التي تروي قصص من تحوّلوا الى التشيع والتي تجد لها سوقاً رائجاً بين الشيعة في المنطقة الشرقية، ما يحول دون تمهيد أرضية اللقاء المفتوح مع الآخر ـ السلفي، الذي ظل هو الآخر مشغولاً بتلقّف ما تلفظه المطابع الموقوفة لطباعة كتب المنافرة مع الشيعة.

نشير هنا الى أن حركة الاصلاح الديني هي حركة غير معادية ضد الآخر السني او الشيعي، أي ان ضعف النزعة التقليدية عند الطرفين الشيعي والسلفي يؤدي الى امتصاص التوتر ضد الآخر بل يؤدي الى فهم أفضل للآخر ونقد الذات. لأن عملية الاصلاح تشرع بادىء أمرها من الانفتاح على الآخر سعياً لفهمه، ولاشك أن وجود الجدران العازلة والمتطاولة يجعل كلا من الشيعي والسلفي عاجزاًعن فهم أحدهما الآخر.

في التوغل قليلاً داخل هذه النقطة الشائكة يظهر لنا بوضوح أن المنظومة الحكمية تبدو شديدة الصرامة والانغلاق لدى الفريقين الشيعي والسلفي، أي انها منظومة مدججة بأحكام قطعية ونهائية ضد الآخر، إذ أن تكفير الآخر ينطوي على نبذ نهائي لا رجعة عنه، بمعنى  أي ان النص الحكمي الصارم قد دمّر طريق العودة عنه أو الخروج عليه، مع أننا قد نعثر على استثناءات نادرة للغاية لدى الفريقين مرتبطة بشؤون الدولة، بعكس الاحكام ذات الطابع المذهبي المحض التي تبقى ثابتة ونهائية، فهي وإن ظلت غير مستعملة في بعض الازمنة فإنها تقبل صالحة الاستعمال، أي بتفسير آخر قد تكون هناك نية لاخفاء الاسلحة ولكن ليس تدميرها، وهنا مكمن الخطر الحقيقي والدائم، ولعله أيضاً يمثل الفارق الجوهري بين الاصلاح والمصلحة.

 

محنة التجابه الطائفي.. والمراجعة المؤجّلة  

يجب القول: نحن بحاجة الى جرأة بالغة في مجابهة واقعنا بتجرّد تام، قبل الاسراف في البحث الخادع عن جهات مجهولة الهوية لتحميلها خطايانا. إن الطائفية ليست صناعة أجنبية وليست إبتكاراً خارقاً للعادة، رغم أن الاجماع منعقد على قذف جهة غيبية وأصابع خفيّة تدير معركة الطائفية، مع أن الضالعين في هذه المعركة هم أنفسهم الذين يعيدون احياء كل ترّهات الماضي، وهم أنفسهم المتراشقون بما يعثرون عليه في سجّلات التاريخ من (مستمسكات) دامغةّّ!!، حيث ينزع كلا الطرفين الى حبس الآخر في ذاته، والى تكبيله بما هو يحاول الانعتاق منه، فلا يسمح له حتى بالبراءة مما حمّله أسلافه من مواقف قد لا يتفق الخلف معها، لأنه يريد ابقاءه مداناً ومتهّماً، ولذلك لا يقبل منه حتى مجرد الدفاع عن نفسه.. فالشيعي المعتدل يظل في ادراك الآخر أسير (تقيته) التي تبرر مناهضته وتكذيبه، والسلفي المعتدل يظل في ادارك الآخر أسير (مصلحته) التي تبرر تسفيه اعتداله. وفي كلا الحالتين، يحرم كل منهما الآخر فرصة المراجعة، لأنها غير مقبولة من كليهما. بكلمات أخرى، أن المراجعة منبوذة من الطرفين، وهذا ما يؤدي في نهاية المطاف الى اعطاب الاحساس بالحاجة الى فحص الذات أو تأجيلها لأن ثمة أولوية كبرى يفرضها التجابه المذهبي. ولذلك، فإن ما يتغيّر أحياناً لا يطال البنى العقدية للطرفين وإنما في آليات التعامل معها، أي في المصلحة المرجوّة. إن المصلحة المشتركة في وعي الشيعي والسلفي تخضع لشروط خاصة وذاتية، ولا تتضمن فتح مساحة التقاء، أو تمهيد أرضية يكون فيها الطرفان او كافة الاطراف سواء.

وحدها الطائفية التي لا تتطلب استراتيجية معقّدة، إذ يكفي في اشتعالها وعلى نطاق واسع نشر مقالة من شخص ينتمي الى إحدى الطائفتين. وقد لحظنا أن مقالاً طائشاً كتبه شخص غير مسؤول في مجلة شيعية تدعى (المنبر) ضد أم المؤمنين وزوج النبي المصطفى (ص) عائشة (رضي الله عنها) كي تنفخ ريحاً ساخنة في بعض الاوساط الدينية والشعبية في الكويت، لم تهدأ الا بعد صدور قرار من مجلس الوزراء بحملة تفتيش واسعة في المكتبات الشيعية بحثاً عن نسخ من هذه المجلة الفارغة، تماماً كما أن برنامجاً في محطة الام بي سي السعودية استضاف فيه شخصاً يدعى الشيخ عبد القادر شيبة الحمد يتضمن تحريضاً على الكراهية الدينية ضد الشيعة كفيل بـ (زرع بذور الفتنة الطائفية بين مواطني البلد الواحد) حسب حملة احتجاج شيعية. إن هذين الحدثين يؤكدان مرة بعد أخرى أن الطائفية سريعة الاشتعال لأن محفّزاتها وعناصرها وآلياتها مازالت قارّة في الوعي الاسلامي العام. ومن المؤسف أن الطائفية قادرة على حشد الناس واقناعهم الفوري واستفزازهم نحو أداء المهام التي بدون الطائفية لا يقدِّروا اهميتها وخطورتها. وسيبقى الاستنكار مشروعاً على علماء الشيعة والسلفية تفريطهم في الوحدة الوطنية والاسلامية، حين يشغلهم تماسك قاعدتهم الشعبية عن إصدار بيانات احتجاجية على مهاترات بعض المنابر الاعلامية المنفلته، والتي بالتأكيد تدك صميم الوحدة وتحرّض على الكراهية الدينية، وتشيع أجواء طائفية برائحة نتنة.

ويطال الاستنكار كتب الفريقين المحشوّة بفتاوى تكفير المخالف، والصادرة عن كبار العلماء، والتي تزوّد المتطيفين بكل مواد التعريض بالآخر وتبيح لهم إستعمالها في معاركهم الطائشة، إيهاماً بتجريد الآخر من كل حق. فقد تجد سؤالاً افتائياً من قبيل (هل يعذر علماء الشيعة تكفيرهم لنا ـ نحن السلف ـ لأننا نجحد أئمتهم؟) و(هل يتخلى علماء السلفية عن تكفيرنا ـ نحن الشيعة ـ أو تكفير عموم المخالفين لمذهبهم؟).

لاريب أن دور العلماء جوهري في وقف هدير المهاترات الطائفية. ومن أجل فهم هذه المهمة بصورة دقيقة يكفينا المجادلة بأن كسر الرتابة والتراتبية في النظامين الدينيين الشيعي والسلفي يفضي بصورة حتمية وطبيعية الى تهديم البناء العقدي لكليهما، لأن تشييد هذين النظامين مؤسس على قاعدة تتابعية سلطوية تبدأ بالخالق وتتحدر الى الرسول ثم الامام او العالم باعتباره وريثاً شرعياً ووحيداً للرسالة. وفق هذا التسلسل الرسالي، تصبح شبكات العمل الديني عهدة بيد علماء الدين، وخاضعة في الوقت نفسه تحت تأثير منظوراتهم في الشؤون الخاصة والعامة سواء بسواء. وعلى وجه الاجمال، فإن الاخطاء الفادحة التي يسببها هذا التسلسل تنشأ عن طريق انحصار صناعة القرارات المصيرية المتعلقة  بالشأن العام في شخص واحد، هو الفقيه أو المفتي. لا يكفي التعويل دائماً على رهان الايمان والورع من أجل تجنيب صانع الحكم الديني الاخطاء الفادحة، كما ان الشؤون العامة ليست محكومة بمجرد التبصرة الفقهية المحضة، لأننا نعلم بالضرورة إن كثيراً من فتاوى التكفير صدرت وكانت تحيط نفسها بهالة وهمية من الايمان والورع أو التأسيس الفقهي المتقن.

إن مناوئة الطائفية باتتة هي الاخرى سلاحاً يستعمله حتى الطائفيون لدرء التهمة عن أنفسهم أولاً وتشويه سمعة غيرهم، لعلم الطائفي نفسه بأنه إنما يستعمل سلاحاً فتّاكاً ولكن لا يعلم بأنه هو نفسه مبتكر مكوّنات هذا السلاح.. إن الطائفية قد تتوغّل أحياناً في أصحابها فتتقيأ قيحاً وصديداً وتقذف به غيرها، مع أن المصابين بها يجهلون أو ينكرون اصابتهم بنفس الداء، وهذا تجسيد آخر على الانشغال بالآخر وتنزيه الذات.

فالطائفيون يتقاذفون تهمة الطائفية، وهم غافلون بل ومنكرون لاصابتهم بها.. بالنسبة للشيعي فإن الطعن في  الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان (رضي الله عنهم)، وقذف امهات المؤمنين وبخاصة عائشة وحفصة (رضي الله عنهما) يعتبر قراءة مشروعة للتاريخ ولعلها تدرج في اطار حرية التعبير بينما الحديث عن غلو الشيعة في الائمة عليهم السلام ونقد الممارسات الطقسية الشيعية تعتبراً نيلاً من الوحدة الوطنية واثارة للطائفية، وبالنسبة للسلفي فإن تكفير الشيعة وتصنيفهم في مرتبة أدنى من اليهود والنصارى، والقدح من طرف خفي في الامام علي على طريقة الشيخ ابن تيمية والامام الحسين في خروجه على يزيد بن معاوية، ولصق كافة هزائم المسلمين في التاريخ في الشيعة، يعتبر كشفاً للحقائق، ولعلها تدرج أيضاً في فضح أهل البدع والضلال، بينما القراءة النقدية في التراث السلفي على طريقة الشيخ حسن بن فرحان المالكي يعتبر خروجاً عن الملّة، وتأجيجاً للطائفية البغيضة.

إن التأسيس الثقافي والتاريخي للامة معدّ في الاصل لاستدعاء وتحفيز عوامل التجزئة والانقسام، ولذلك فإن قنوات التعبير الثقافي والاجتماعي تتحوّل تلقائياً الى قنوات طائفية في فترة قياسية. نقل زعيم حزب شيوعي في الخليج ذات مرة في بداية التسعينيات بأن عناصر الحزبين الشيوعيين المتحالفين في هذا البلد قد ارتدا الى انتماءاتهم المذهبية فصاروا شيعة وسنة بعد أن كانوا ماركسيين وماويين. ولعلنا نجد الآن ومنذ سقوط نظام صدام حسين أن الطائفية تسيّر مواقف وتوجهات الاحزاب العربية والقنوات الفضائية العربية والحكومات العربية على اختلاف تلفيقاتهم الايديولوجية والسياسية، وكأن صدام حسين كان رمزاً دينياً وحدوياً لا يتكرر في التاريخ.

في حقيقة الامر، إن الطائفيين يتخفون تحت أسماء كبيرة، كالاممية والقومية والوطنية وحتى الدولة بنزوعها الطائفي أو الفئوي او المناطقي قد تجيد الرطانة الايديولوجية الماكرة فتلوذ في احيان كثيرة بالتلفع بالرداء الوطني كي تؤكد تمثيلها العام لامة متشظية، وكي تستر أيضاً سر السياسات التمييزية السارية في جسدها، مع أن هذا الاستتار يصلح للتعمية على من هم خارج الحدود وليس على ضحايا التمييز الذين يكتوون بنار الطائفية في المؤسسات الحكومية وفي التعليم والتوظيف والتمثيل السياسي...الخ

وفي ظل غياب معايير قيمية مشتركة متفق عليها يمكن بها اختبار سلوك الافراد، ولأن الناس في البلاد تخضع تحت لائحة قيم خاصة مذهبية وفئوية ومناطقية فإن السياسات ايضاً تبقى رهينة النظام القيمي. ولذلك، ما إن تبدأ الدولة بترسيخ قيمة المواطنة كخط استواء ومحك عام فإن محركات الطائفية ستظل فاعلة ما لم يمدّ ممثلو الدين يدهم لمباركة تلك القيمة الغائبة.

لو أردنا تلخيص مهمة الفريقين في هذه المرحلة وفي أي مرحلة لاحقة لأمكن تحديدها في انتزاع المخالب من جسد الآخر والانشغال التام بالذات، من أجل إعادة اكتشافها ومراجعتها ونقدها رجاء إصلاح مواطن العطب فيها، وهي مهمة كفيلة بتمهيد أرضية التعايش مع الآخر. ولابد لي في الاخير وتقديراً لجرأة مراجعة الذات من الاشادة البالغة بمن اقتحم مضمار المراجعة في الجانب السلفي أمثال عبد العزيز القاسم ومحمد علي المحمود وعبد العزيز الخضر والشيخ حسن فرحان المالكي. لقد عوّدني البعض على اطلاعي على ما فاتني الاطلاع عليه من نتاجات المراجعة في الجانب السلفي، ويخيّل لي أحياناً أن ما يقوم به هذا البعض ليس أكثر من ابلاغي رسالة أخرى أي بصحة ما هم عليه، بدليل أن الآخر قد شرع في مراجعة ذاته، وكنت أتطلع لأن يبدأ الجانب الشيعي مراجعة ذاته أيضاً أسوة بهؤلاء الاشخاص، ولكن مازال البعض مشغولاً في رصد مراجعة الآخر واغفال الذات التي تتطلب دون ريب جهداً ذهنياً موازياً وبنفس القدر وربما أكبر من المراجعة.