حول سيادة خطاب العنف وفشل (الإعتدال)

 

يبدو أن خطاباً ديماغوجياً بدأ يسود الساحة الثقافية في العالم العربي في وقت يتم فيه الحديث عن حالة من الرشد قد بدأت تسود الخطاب والحالة الدينية بشكل عام، الأمر الذي يطرح سؤالاً صريحاً بهذا الشأن:

هل فشلت الحركة (المعتدلة) الراشدة في إقناع الجمهور بخطابها، أو في تحقيق بعض مطالبه الأولية، الأمر الذي دفع الجمهور الى الإنفضاض عنها باتجاه خطاب أكثر تشدداً وعنفاً، يميل الى السطحية في المعالجة، والى الشعارات بدل المحتوى؟

أم هل هذا الفشل يعود الى أنظمة الحكم نفسها، التي فشلت في تعضيد جناح الإعتدال بتلبية بعض مطالبه، بحيث لم يترك خياراً أمام مواطنيه إلا أن يتوسلوا وينضووا في ركاب جماعات التشدد والتهييج والتحريض والعنف بدل العقلنة من أجل التطوير والإصلاح المتدرج الأقل كلفة للنظام وللمجتمع؟

لا شك أن هناك انفضاضاً عن الحالة العقلانية في الساحة العربية والإسلامية، والسعودية منها بوجه خاص، ربما كان لحضور ابن لادن دوراً كبيراً في زيادة ألق العنف والتشنّج (الوهابي)؛ وربما كان لفكر التحريض والتشدد والإنغلاق الذي يحتويه المذهب الوهابي أكثر من أي مذهب آخر، دورٌ في كلّ هذا.. لكنّ الظاهرة أعم من أن يستوعبها مذهب بعينه. فالحالة الإسلامية العامة، تشهد خفوتاً في الصوت المعتدل، وطغياناً في الأصوات النشاز السطحية التي بدت وكأنها اختطفت الشارع الى جانبها، إما بسبب الإحباط أو بسبب فشل كل من الأنظمة والحركات المعتدلة.

الأنظمة عموماً تدرك حقيقتين متداخلتين: إحداها، أن حركات التطرف والعنف، بل خطاب التطرّف هو خطاب خالٍ من المحتوى، ولكن صوته عال، وقدرته على التجييش قوية نظراً لطبيعة الخطاب نفسه بما يحمله من بساطة في الفكر وسذاجة في التحليل يتلقفها العامّة بسهولة خاصة إذا ما استخدم ذات المفردات والمحسوسات لدى العموم. بمعنى آخر، فإن حركات العنف، وإن امتلكت قدرة في الحشد وفاعلية في التأثير في المستويات الدنيا، فإنها في نهاية الأمر لا تمثل منافساً جادّاً على السلطة، وأن خطرها ينحصر فيما تمثله من عنف وتمكّن القوى الأخرى الإستفادة منها سياسياً.

أما الحقيقة الأخرى فهي أن الحركات المعتدلة والمرشدة، تتلقى الضرب الشديد من الأنظمة أكثر من غيرها، حتى وإن كانت لا تتوسل بالعنف، ولا ينطوي خطابها على تشدد، وحتى لو كانت أهدافها متدرجة ومعتدلة. والسبب أن الأنظمة، كما في المملكة، لا تنظر الى حركات الإعتدال إلا كبديل سياسي لها، وهي بالتالي أكثر قدرة في المنافسة على السلطة، وأكثر مقبولية في المدى البعيد بين الجمهور، ولذا سعت هذه الأنظمة الى ضرب حركات الإعتدال، وعدم التنازل لها عن أي مطالب تسعى لها، ومن بينها عدم شرعنة نشاطها، واعتقال أعضائها وقياداتها.

هذا التحليل يضع بعض الأطر لفهم السؤال الذي ما يزل طافحاً على الساحة: لماذا تمنّي الحكومة السعودية ممثلة في ولي العهد ووزير الداخلية دعاة العنف بالعفو والمغفرة والتوبة وعدم المتابعة الأمنية، في حين تتشدد وتعتقل دعاة الإصلاح وتحرمهم من أبسط حقوقهم القانونية، وتجعل من (اللاتهمة) تهمة حقيقية تستدعي السجن والتعذيب؟

من البديهي والحال هذه أن يستمر طوفان الخطاب العنفي والديماغوجي، على حساب الإعتدال والترشيد. فالمسؤول الأول عن ذلك هو الأنظمة، والمسؤول الآخر هو الحركات المعتدلة التي فشلت في إثبات جدارتها بتمثيل الشارع من جهة فرض بعض أوجه الإصلاح على الحكومة. ولكن الخاسر من كل هذا في المحصلة النهائية هو المجتمع والدولة.