بالحرية نستدل على الإصلاح

 منيرة عبد الرزاق

 يقال بأن بعض الانظمة السياسية لا تتسلح فقط بالحريات بل تعيش عليها، فبإسم المخاطر التي تحملها الحريات يتم خنقها، وباسم استغلال الحرية من قبل خصومها يتم كبتها، إذ لا حرية لأعداء الحرية كما رددت الانتلجنسيا اليسارية.

ان مسوغات مصادرة الحرية، وخصوصاً حرية التعبير تبرر كافة انواع الرقابة والتضييق وفي نهاية المطاف احتكار وسائل التعبير والعمل السياسي من قبل الحكومة، باعتبارها، زعماً، الناطق الرسمي بإسم الحقيقة والممثل الشرعي الوحيد للمصالح العامة.

يحذّر المسؤول الرسمي بأن ثمة خطراً بالغاً في نقد المؤسسات الحكومية والاداء العام لوزارات الدولة، ومراجعة الخطاب الديني الرسمي، وفحص شبكة التحالفات الدولية التي تربط الدولة بالخارج، وتقويم النظام الاجتماعي والثقافي الداخلي.. كل تلك الموضوعات وغيرها تمثّل تابوات يحظر تناولها لأنها تحدث خللاً في النظام العام الذي قد يؤدي في نهاية المطاف الى تهديم اركان الدولة, ولذلك فإن الفكرة القائلة بأن خطر الحرية على بقاء السلطة السياسية أشد من خطرها على تخريب القيم الاجتماعية، تبدو مقبولة.

في ضوء هذه الفكرة، فإن قمع حرية التعبير يمثل التقرير العلني والفعلي لقمع المجتمع من قبل الدولة، فحين تغيب وسائل الاعلام الحرة القادرة على التعبير عن مشكلات المجتمع وهمومه ومظالمه بدرجة من الوضوح والشفافية فإن ثمة حقيقة ثاوية في هذا الغياب وهي أن المجتمع يتعرض لعملية بطش قاسية على يد المؤسسات المسؤولة عن حرمان ووأد الحريات.

هنا ندخل الى تسلّح الدولة بالخطاب الاصلاحي، حيث باتت تستمد منه أسلحة تواجه به خصومها الاصلاحيين الحقيقيين. فبإسم الاصلاح لم يتم تشويه طريقة انجازه، والطريق الموصلة اليه فحسب، بل جرى اعتقال المنادين به وخنق أصواتهم، ومنع إنضمامهم الى الركب الاصلاحي. لقد أعادت الدولة انتاج الاستبداد ولكن عن طريق معزوفة الاصلاح، فقد تم تعزيز نمط التفكير الخاص بالاصلاح المسلوب الحياة، عن طريق انشاء هياكل فارغة تحمل اوهام الاصلاح ولكن دون أن تعنيه، فهي مصممة للايهام فحسب، أي أن ثمة شيئاً يجري داخل المسوّرة الجغرافية لهذا البلد يقترب من شكل الاصلاح.

من الضروري اليوم وغداً أن نصوغ تصوّراً ثابتاً ونهائياً يفهم العلاقة المتلازمة بين الاصلاح وشياع الحريات العامة، إذ لا يمكن تصوّر عملية اصلاحية تتم في أجواء خانقة لحرية الكلمة وتكميم أفواه من ينشدون البوح بأفكار عجزت صدورهم عن احتضانها لفترات طويلة. لا يمكن أن نتصوّر إصلاحاً في شكل انتخابات أو في غيرها دون أن نتأمل في قضية ثلاثة من رموز التيار الاصلاحي الوطني (الحامد والفالح والدميني) الذين مازالوا يقبعون خلف القضبان، ولا يمكن تصوّر إصلاحٍ ومازال عدد من رموز التيار الاصلاحي محرومين من الكلام والسفر والاجتماع والنشاط.

منذ ان نعي الاخطار المستمرة لضروب الاستبداد السياسي والفساد التي تهدد الحريات العامة والعملية الاصلاحية برمتها، ومنذ أن نفهم بأن شكل الاصلاح ليس اصلاحاً، نقول بأن العملية الاصلاحية لا تقبل هذه القسمة الزائفة: اصلاح حقيقي واصلاح شكلي، فهذا الفصل بين الظاهر والباطن في المطلب الاصلاحي ينطوي على مخاطرة مميتة، أي خطر التحلل من الداخل، حيث ينخر الفساد في فكرة الاصلاح من داخلها عن طريق تخليق خلايا قاتلة من ذات الجسد  بحيث لا تجعله قادراً على المقاومة، وتؤدي في الاخير الى تحلله واضمحلاله.

إن ما تقوم به الدولة حالياً هو تخريب للوعي الاصلاحي والعبث بمنجزاته عن طريق اعادة انتاج نفسها اصلاحياً ولكن بأدوات غير متقدمة، فهي تلوذ بقوى رجعية ولنقل غير اصلاحية من أجل الوصول بها الى عرش الاصلاح، وكما هي العادة فإنها تفصل نفسها عن المحيط الافتراضي والطبيعي الذي يمكن منه ان تستمد المشروعية وتحقق به الاستقرار.

صحيح ان التيار الاصلاحي الوطني يعاني قسوة ومرارة غياب الحرية، فرموزه باتوا محرومين من الافصاح عن أفكارهم في الاصلاح السياسي، وفي مجريات التغيير السياسي المستقبلي، الا أن غيابهم يمثّل في الوقت نفسه إدانة كبيرة وخطيرة للنظام السياسي، بل فضحاً لأي مدعى اصلاحي تتبناه الدولة، إذ لم يكن التيار الاصلاحي الوطني ممثلاً لفئة مقطوعة الجذور او يعمل على هامش الحياة الاجتماعية والسياسية، وليس حركة معزولة عن الاوضاع الداخلية والاقليمية والدولية، وليس خارج سياق التطور الطبيعي الذي يشهده المجتمع.. إن غياب هذا التيار يعني غياب النوايا الصادقة بالاصلاح، وهذا ما يظهر بوضوح الآن، حيث تخلّت القيادة السياسية عن معجمية الاصلاح الذي جرى اللجوء اليه بكثافة غير مسبوقة كرد فعل على ظهور التيار الاصلاحي الوطني، ولكن بعد القرار التعسفي باعتقال ثلة من الرموز الاصلاحية في الخامس عشر من مايو الماضي فإن أجواء القمع غشيت الفضاء العام، ووصلت وسائل الاعلام المحلية تعليمات فورية وعاجلة بوقف الحديث عن الاصلاح السياسي. وبطبيعة الحال، فإن إعطاب عجلة الاصلاح من منظور الدولة لم يكن يستهدف إيقاف العربة بقدر ما هو إبطاء لحركتها الى أقصى درجة ممكنة ومن ثم حرف مسارها، كيما لا تفقد العائلة المالكة وسام الاصلاح، بل وتصادر منجزاً كانت القوى السياسية الوطنية قد دفعت ثمنه على أيدي الاباء غير الشرعيين للاصلاح.

في حقيقة الامر ان الدولة سعت ليس الى مجرد اختطاف الرداء الاصلاحي، عن طريق تأسيس سلسلة لجان منزوعة المضمون الاصلاحي، وانما ايضاً الى استعباد العملية الاصلاحية.. ولعل من رزايا الاستبداد في هذا البلد ان يمنح المسؤول عن قمع الحريات وساماً اصلاحياً من الدرجة الممتازة، كالترويج لفكرة ان وزارة الداخلية هي الجهاز الأكثر تقدماً في ميدان الاصلاح السياسي..

نحن بدورنا نقول أن السعودية مازالت تمثل مملكة القمع والاستبداد، وما نعلمه بالفطرة والسليقة والتجربة ان دعوى الاصلاح لا تجتمع مع اعتقال المصلحين، وان زعم الحرية لا تلتقي مع قمعها في الاعلام والصحافة.. ومهما تشوّه الاصلاح فإن الحرية تصبح وحدها شاهداً عن طريق القمع والاستبداد.