ورقة حول الفساد والحكم الصالح

(دراسة حالة السعودية)

 حمزة الحسن*

 تقديم

 ترسم عبارة (الحكم الصالح والفساد) فيما يتعلق بالمملكة العربية السعودية، صورتين متناقضتين تماماً. تتمثل الأولى في صورة تطهرية يدعمها وجود المقدسات الإسلامية في مكة المكرمة والمدينة المنورة، والمظاهر الدينية العامة التي تغلف سلوك وعلاقات أفراد المجتمع السعودي، إضافة الى إصرار نظام الحكم على إلصاق نفسه بالظاهرة الدينية وشرعنة نفسه من خلالها وإصراره على الإدعاء بأنه النظام الوحيد الذي يطبق الشريعة الإسلامية بما تتضمن من أخلاقيات وفضائل وضبط اجتماعي. والصورة الأخرى مناقضة لهذه، وقد أصبحت أكثر نمطية مما مضى، وهي تستثير أخبار وقصص الفساد متعددة الأشكال والألوان التي تنشرها وسائل الإعلام حول رموز السلطة وربما المجتمع السعودي بمجمله. فالسرقات والرشاوى ونهب خزانة الدولة وتقاسم إيرادات البترول والسمسرات والمباذل الأخلاقية وغيرها، هي مما سلطت وتسلط عليه الأضواء طيلة العقود الثلاثة الماضية، والتي أدت الى تشوية سمعة السعوديين جميعاً، بل وربما العرب أيضاً.

الصورتان حادّتان، لا تخلوان من مبالغة في كليهما. فالمملكة، شأنها شأن الدول الأخرى، تعاني من الفساد بمختلف أشكاله، وقد لا تكون المسحة الدينية سوى غطاء غير كاف لمجمل الممارسات السياسية والاجتماعية. ولعلي أزعم، بأن المملكة هي الأكثر عرضة وممارسة لشتى أنواع الفساد، وفي نفس الوقت هي ـ رموزاً سياسية ومجتمعاً ـ الأكثر مبالغة في الحفاظ على بعض المظاهر الدينية التطهرية، التي ما إن يجري اختبارها بين الأسوار، أو خارج الحدود حتى يظهر زيفها. ومن هنا نتفهم الى حد ما، المقولة السائدة بأن المجتمع السعودي في مجمله يعيش انفصاماً في الشخصية، بين الإعتقاد والممارسة، وبين سلوك الداخل والخارج. وعلى هذا الأساس يمكن الاستنتاج بأن (صلاح الحكم) والتي هي مسألة نسبية في أي دولة، لا يمكن إلا أن تكون موضع اتهام شديد. فالبيئة الاجتماعية التي تكتنفها الموروثات والتقاليد والممارسات الشاذة ليست بعيدة أبداً عن سياسات الدولة ولا عن ممارسات طاقمها.

 مدخل مفهومي

 الفساد هو إساءة استخدام السلطة لغايات شخصية، أو استخدام سلطة الآخرين ونفوذهم في المؤسسات العامة لمساعدة أصدقاء أو أقرباء لينتفعوا على حساب الآخرين، أو ممارسة سلوكيات تعتبر حسب القيم الاجتماعية ـ وإن لم تكن في بعض الأحيان ضمن المحرمات القانونية ـ شذوذاً، قد لا يقف أثرها على من يمارسها وإنما يتعداها الى شرائح اجتماعية أخرى.

ضمن هذا التعريف العام، لن تخلو دولة ولا مجتمع من الفساد. فكل الحكومات عرضة للفساد ولكن مدى انتشاره وتغلغله يختلف من بلد لآخر، ومن المعلوم أن الدول الأكثر حرية وديمقراطية والأكثر احتراماً للقانون وتأكيداً على النوازع والقيم الإخلاقية في المجتمع، هي الأقل تعرضاً له. ومن هنا، فإن الدول القمعية، وبينها الدول العربية مع اختلاف في المستوى، تقع ضمن خانة البلدان الأكثر فساداً. وبين الدول العربية ذاتها، فإن دولاً بعينها تعاني من مناحي فساد أكثر من الأخرى. فاتجاهات الفساد وأنواعه، قد تكون طاغية في بلد عربي ما، وضئيلة في آخر.. ولكن المشترك في النهاية، أن الفساد في العالم العربي أضحى جوهر الحياة السياسية والاجتماعية، ولم يعد جزءاً منها أو مجرد ظاهرة عابرة، بل مشكلة مستوطنة، يتعايش معها البعض، ويمارسها البعض الآخر.

 الفساد في السعودية: مدخل الى رؤية الذات

 من وجهة نظر هذه الورقة، فإن الفساد السياسي في المملكة ينتج كل أنواع الفساد الأخرى، الاقتصادية، والأخلاقية ـ الروحية، والاجتماعية، والثقافية، والقضائية ـ القانونية. بيد أن الرؤية الشعبية تجاه الفساد تكاد تكون ضبابية، لأنها في جانب كبير منها تعكس الرؤية الى الذات ونقداً لها في نفس الوقت:

رأي جهاز الحكم: وهو رأي ذرائعي بالدرجة الأولى، إذ ينظر الى الفساد في الجهاز البيروقراطي على أنه مجرد خلل بسيط، سببه التشابك بين الموروث الثقافي والعلاقات القرابية والمناطقية وأثرها على عمل الجهاز، بشكل أدى الى نشوء المحاباة والواسطة والرشوة أو ما يسمى شعبياً بـ (فيتامين واو). وضمن هذا التصور، لا يعتقد الطاقم الحاكم بأن هذا النوع من الفعل يدخل في الأساس ضمن دائرة الفساد المستهدف بالتغيير، بل هو لا يعدّ فساداً، لأن الجميع تقريباً يستخدمه، وفي مقدمتهم رموز السلطة السياسية، التي تعتبر التعيينات في أعلى ووسط الهرم البيروقراطي قائمة في الأصل على الموازنات والحسابات القرابية المذهبية والسياسية والمناطقية والعشائرية.

وعلى صعيد الفساد السياسي، فإن هناك ما يمكن التعبير عنه بـ (الخصوصية السعودية) إذ تنحدر المشكلة من جذر مفهومي يصعب اقتلاعه، حيث ترى العائلة المالكة نفسها (متملكة) لكل خيرات البلاد من أراض ومصادر ثروة.. فهو تملك شخصي للعائلة، والحكم في البلاد (حق حصري) للحكم المتغلب، يستند الى مقولة كثيراً ما يكررها الأمراء الكبار في رفضهم الإصلاح: (أخذناها بالسيف، ولا يزال السيف بيدنا). تنعكس رؤية التملك في أن الأمراء لا يرون في الإعتداء على الأملاك العامة وعلى ميزانية الدولة (سرقة)، إذ كيف يسرق المتملك ما هو داخل بالضرورة في حوزته. وتتجاوز المسألة حدود الأملاك العامة الى الأملاك الخاصة، فقد يمسي أحدهم مالكاً لشركة، ويصبح فيجد أحد الأمراء شريكاً له فيها، وقد يرفض شخص بيع عقار فيجده متملكاً وبشكل رسمي في اليوم التالي لأحد الأمراء. وعند السؤال يأتيه الجواب: إن كان هذا ملكك، فالمملكة كلها ملكنا. وهذا النوع من الجواب كثيراً ما يتكرر من الملوك وليس من أمراء الدرجة الثانية.

ولهذا دعا أحد الناشطين السعوديين الى تغيير ملكية الدولة (Changing Ownership) عبر الفصل بين الملكية كنظام سياسي وبين مفهوم (التملك) وإعادة الاعتبار الى مفاهيم ملكية الأمة، وتحديد معنى بيت مال المسلمين، أو خزانة الدولة.

وباختصار، فإن رموز السلطة، لا يعترفون في المجمل بوجود فساد، وإن وُجد فهو محدود، وأن السعودية كمجتمع ودولة أقلّ فساداً من الدول الأخرى، وأن الدولة تقود في الواقع عملية إصلاحية ضخمة مستمرة على الصعد الإنمائية، وأنها أكثر تقدمية من المجتمع السعودي نفسه غير المتحمس للإصلاح السياسي، حسب تصريحات المسؤولين مؤخراً وبينهم وزير الخارجية السعودي، الأمير سعود الفيصل.

رأي النخب السعودية: يمكن تقسيم النخب في المملكة من حيث الموقف الى قسمين: الأول الذي جرى استيعابه ضمن جهاز الدولة، والآخر الذي يبحث عن دور لدخول دائرة صنع القرار. الأول يقلل من حجم الفساد كدفاع عن موقعه ومصالحه، والثاني (قد) يبالغ في وصف مظاهر الفساد وتشديد النكير كإحدى وسائل الضغط الناجعة لإقرار الإصلاحات السياسية التي تفترض تغييراً في الطاقم الحاكم وبعض كبار موظفي الدولة، بما يعني تجديداً جزئياً للنخبة السياسية.

النخب الموالية في أكثرها، تؤكد على منهجية واحدة، وقاعدة انطلاق للتحليل مضللة تعتمد على ما تسميه بـ (الخصوصية السعودية) التي تعني في المحصلة النهائية أن الإصلاح السياسي مضاد للقيم الدينية وللأعراف والتقاليد السائدة. أما الطرف الآخر فرأى أن الاتكاء على الخصوصية يعني استمرار الفساد السياسي وغيره. نقلت إيمان القويفلي (الوطن 25/12/2003) آراء سعوديين في تلك الخصوصية، فنجوى هاشم رأت أن (الخصوصية هي الكلمة التي دمرت الكثير من القيم تحت ستارها). وبدرية البشر رأتها ذريعة للتخلف. آخر رآها محفزاً لسياسة القطيع وقطع الشعب عن التواصل مع العالم، او كما يقول ناصر الصرامي، هي: (مصطلح يمارس من خلاله عزلنا عن العالم حيث يتم إقصاء الفرد تماماً وتطغى سياسات النظر باعتبارات القطيع). رابع رآها نزعة شوفينية، او كما قال جاسر الجاسر: (الخصوصية وهم اخترعناه مشحون بدرجة عالية من الشوفينية وفيه إحساس بالتفوق العرقي الساذج). يتمترس التحالف السياسي ـ والديني وراء مفهوم الخصوصية، وهي خرافة تمّ تصنيعها  لرفض الإصلاحات، ولنصب (المصدّات الفكرية) تحسباً لتسرب المفاهيم السياسية الجديدة الى المجتمع، فصارت تلك المفاهيم نشازاً في الثقافة السعودية، لأنها تنطوي على مخالفة دينية أو محظور سياسي ضار (انظر مقالة عبدالرحمن اللاحم، حقوق الإنسان في السعودية ووهم الخصوصية ـ شؤون سعودية عدد 14، ص 19).

وهكذا فإن النخب السعودية إما مبررة للفساد ولفشل الدولة تالياً، أو ترى في تضخمه محفزاً لدعوات الإصلاح. لكن معالجة الموضوع إعلامياً تتم بمواربة وحذر شديدين. فالنقد لا يوجه إلا للجهاز البيروقراطي، أو لثقافة المجتمع، ويتم في كثير من الأحيان تحميل وزارات بعينها بعض مكامن القصور والتقصير، كانتشار ظاهرة الفقر والتي شملت نحو 30% من المجتمع السعودي حسب الإحصاءات الرسمية، أما الجزء المتعلق برموز السلطة فعادة ما يشار اليه من طرف خفي وبعيد، كالدعوات التي ظهرت لاستحداث نظام واضح غير محابٍ لتوزيع الأراضي على المحتاجين، ومنع الاستيلاء على أملاك الدولة أو ما يسمى بالأراضي الرحمانية، كما تظهر بعض الإشارات في التساؤلات العامة عن أسباب العجز في الميزانية وفي مستوى الدين العام الذي بلغ نحو 600 مليار ريال في عام 2002، على الرغم من توافر الإيرادات، ونقد سوء إدارة موارد الدولة دونما إشارة الى انتهاكات رؤوس السلطة. ويمكن قراءة ملامح وأنواع الفساد في المملكة من خلال عرائض الإصلاح التي تقدمت بها النخب السعودية الى رموز السلطة، خاصة وثيقة الرؤية التي قدمت لولي العهد السعودي في كانون الثاني/يناير 2003، والتي تحوي أعراض المرض ومقترحات العلاج.

رأي الجمهور: اذا كان رموز السلطة والنخب اللصيقة بها يميلون الى نفي أو التقليل من حجم الفساد، كوسيلة دفاع عن الذات بأنهم لا يتهمون أنفسهم بالضلوع فيه او المساهمة في صناعته؛ فإن الجمهور السعودي ـ وقد تلقى شحنة هائلة من الوعي والإطلاع على مصادر المعلومة، خاصة في فترة ما بعد احتلال العراق للكويت ـ صار أقدر على فهم السلطة وطبيعتها وممارساتها، بشكل جعله يوجه لها أصابع الاتهام بصورة واضحة. لقد أدى التراجع الاقتصادي المترافق مع تداعيات أحداث الغزو للكويت الى تسييس المجتمع، والى شياع نقمة عامة على رموز السلطة وممارسات الامراء التي ترهق ميزانية الدولة والمجتمع بشكل عام، بالنظر الى عدد أفراد الأسرة البالغ بين 20-30 ألف فرد.

المجتمع السعودي يرى ظواهر الفساد واضحة في كل مؤسسات الدولة، وهو بالتالي لا يحتاج الى أدلّة تنبهه الى وجود الظاهرة، ومدى انتشارها. ولكن هذا المجتمع يقوم أيضاً بإيجاد المبررات لذاته في المساهمة في تفشي ظاهرة الفساد العام، ويحمل المسؤولية الى رموز الدولة ومن يسميهم بـ (الهوامير) أو (الحيتان) الذين يستحوذون على مقدرات البلاد، والذين أحالوا حياة الملايين الى فقر مدقع (صرح رئيس لجنة مكافحة الفقر التي أمر ولي العهد بتأسيسها العام الماضي بأن المملكة بحاجة الى عشرين عاماً لكي تحتويه، وليس بالضرورة حلّه!).

 الجذور الثقافية للفساد

 لا يمكن فهم ظاهرة الفساد في المملكة بدون التطرق الى جذورها الثقافية. والمدهش حين مقاربة الموضوع ثقافياً، هو أن المجتمع السعودي يُنظر اليه ـ وربما ينظر الى نفسه ـ على أنه أكثر المجتمعات التصاقاً بالتدين، وبالقيم الدينية، كالنزاهة والأخلاق والشرف والصدق والأمانة والعدالة والمساواة والتعاون وغيرها والتي يفترض أن تحدّ من الظاهرة. وهناك في المقابل تشريعات دينية ـ يفترض انها مطبقة في بلد يقول بتطبيق الشريعة ـ كتلك المتعلقة بتجريم السرقة، والرشوة، والاعتداء على الأملاك الخاصة، وكذلك على الأملاك العامة (خزينة الدولة او بيت مال المسلمين)، فضلاً عن التشريعات المتعلقة بملكية الأراضي وإحيائها، وطبيعة الحكم الإسلامي الذي يمنع الاستبداد والقمع والإثراء وإساءة استخدام السلطة، وتحكيم القوانين او الشرائع على جميع المواطنين، كما يمنع المحاباة للخاصة، وتكديس الأموال وغير ذلك.

كل هذه القيم والمبادئ المرحب بها على المستوى النظري تفترض تطبيقاً ولو جزئياً لها، الى الحد الذي تكون معه ظاهرة الفساد في متناول السيطرة؛ خاصة وأن السعودية في الأصل بلد غنيّ، الأمر الذي يتوقع منه خمولاً للفساد القادم بسبب الحاجة الشخصية. غير أن تأثير القيم الدينية على السلوك الاجتماعي كما على سلوك رموز الدولة محدود للغاية، خاصة وأن الثقافة العامة أوسع من أن تكون مؤطرة في الجزء الديني منها فحسب، وإن المفاعيل الاجتماعية تجعل من ظاهرة الالتصاق بالقيم المعترف بها نظرياً صعبة للغاية. وهنا يمكن إيراد بعض مظاهر الخلل الثقافي الذي يشجع على الفساد والاستمرار فيه:

1 – النظرة الى الأملاك العامة: ليست العائلة المالكة وحدها التي تحمل نظرة (قبليّة) ترى في أملاك الدولة (غنيمة خاصة بالمنتصر).. فالأطراف الدينية السلفية كما المجتمع الذي ولدت فيه الوهابية، يميل الى رؤية الثروة كما السلطة غنيمة يحق للمنتصر الاستئثار بها. وإن الفئات المنتفعة القريبة من السلطة تنظر الى نفسها بأن لها حقوقاً في المال العام أكثر من غيرها، إما لقربها من العائلة المالكة، أو لمساهمتها في صناعة الدولة (نجد والوهابية). ومثل هؤلاء لا يؤمنون ـ من حيث الممارسة على الأقل ـ بالمساواة والعدالة في توزيع الثروة، ومغانم التحديث، والتوزيع العادل لخدمات الدولة الاجتماعية على جميع المناطق وحسب الحاجات الملحّة. بالطبع يمكن أن تُستخدم مبادئ المساواة والعدالة بين أطراف هذه الفئة، والمقصود بذلك العدالة في التوزيع بين المنتمين للبيت الداخلي (الدائرة الداخلية للسلطة)، ولا يقصد بالأمر على إطلاقه. ولأن القيم القبلية لاتزال حيّة في مواقع عديدة من البلاد، فإنه لا يمنع أن تجد بين بعض الفئات الاجتماعية الفقيرة أو المهمشة من يعتقد بأحقية العائلة المالكة في تملك موارد الدولة، دون أن تسحب ذلك بالضرورة على حلفاء تلك العائلة.

النظرة القبلية هذه تحمل معها ممارستين أخريين سيئتين: الأولى، أن مالك الثروة يجب أن يوزع الكثير منها على الأتباع ـ الرعايا الآن ـ لاسترضائهم، وعليه أن يجيب طلباتهم الخاصة، كعلاج مريض، أو توفير تذكرة سفر، او الحصول على (شرهة) سنوية، أو المساعدة في دفع دية، أو توفير فرصة عمل او مقعد للدراسة، او غير ذلك مما هو معلوم بالضرورة في المملكة. وهذا يؤدي في جانب منه الى بروز ظاهرة النفاق الاجتماعي والتملّق وتعطيل مؤسسات الدولة التي يفترض ان تخدم المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم وميولهم الاجتماعية والثقافية. كما أدى الى تحويل الجهاز البيروقراطي الى جهاز محسوبيات وواسطات أضعفت فاعليته.

اما الممارسة السيئة الثانية فناتجة في الأصل عن قصور وتقصير الجهاز البيروقراطي في توفير متطلبات العيش الكريم للمواطنين. فالعائلة المالكة لا تستطيع أن تتعاطى مع المجتمعات السعودية المتباينة في الثقافة بعقلية القبيلة، ولا تستيطع أن تلبي حاجات القبليين على الدوام، لا لعدم توفر المال، بل لعدم وجود آلية واضحة في التعاطي مع ذوي الحاجات. وحين بان القصور في هذا الجانب، كان من المفترض أن يلبي جهاز الدولة دوره، وهذا ما عجز عنه، فالوسيلتان اللتان يمكن أن تقدما خدمة للمجتمع باتتا قاصرتين مترهلتين، الأمر الذي ولّد نقمة لدى الجميع من سكان المدن والأرياف والبوادي.

هنا جاء تفعيل جزءٍ ضامر من الثقافة المختلطة، فمادام شيخ القبيلة (الملك) غير قادر على تلبية متطلبات رعاياه، ومادام جهازه فاسداً.. فإن (المال العام) أصبح مشاعاً، يحق للقادر أن يغترف منه ما شاء شرط أن يأخذ احتياطاته الأمنية دون أن يوقع نفسه في المأزق. القبلي شعاره: (الحر يأكل بمخلابه)! والحضري يرى بأن له حقاً مضاعاً في (مملكة منهوبة) وعليه أن يجد الحيلة والوسيلة لبلوغه مأربه، والمتدين في كثير من الأحيان يرى في تعدياته على الأملاك العامة بأي صورة تتاح له، كوسيلة لكي يحصل على حقه من (بيت مال المسلمين)، فهو (لا يسرق) الآخرين، وإنما (يستخلص) حصته فقط! وهكذا.

وفي الوقت الذي يبدو فيه ظاهراً من قبل الجمهور احترام الملكية الخاصة، ولو من الناحية النظرية، فإن التعدي على الأملاك العامة لا يعدّ من المحرمات الدينية، بل (شطارة). المال العام غير مقدس، وغير محترم، و(الشاطر) هو من يستخلص حصته منه. هذه هي النظرة الى الأموال العامة. ولذلك لم يحدث أن حوكم وزير أو أمير أو تابع لأمير بأنه نهب مالاً عاماً، فالأصل أن الجميع يأخذ، والذكي من لا يعطي مستمسكاً عليه، وإن حدث فإن العقاب لن يتجاوز الإقالة، دون استخلاص الأموال، ودون تطبيق حدّ شرعي أو قانوني بالسجن وغيره.

وفي الحقيقة فإن هذه النظرة المسمومة للأموال العامة، تستقي مشروعيتها من تصرفات كبار المسؤولين والأمراء، ولسان الحال يقول: إذا كان فلان وعلان بل الجميع يسرقون وينهبون، فلماذا أُحاسب أنا وحدي فقط! وإذا كانت هذه النظرة موجودة بصورة أو بأخرى في دول عربية عديدة، مع أن بعضها يتشدد في موضوع المال العام والضرائب ـ الأردن مثلاً، فإن السعودية كما تبدو في مظهرها الحالي، الأقل في المحاسبة وغياب القانون، الى حدّ وصل فيه الإعتداء الى تجاوز المال العام الى أموال المساهمين أو المودعين في الشركات والبنوك، وقد تجد من يبرر ذلك بأن البنوك ربوية تسرق المجتمع، وهو بالتالي يجوز له الاستفادة من الثغرات بين المحاكم التجارية والشرعية، لتجاوز دفع ما يترتب عليه من فوائد أو قروض. ومعلوم أن السعودية ـ بين كل دول العالم العربي ـ هي الأكثر ابتلاءً بالديون المعدومة، وقد وصل الأمر الى أن البنك الأهلي في منتصف التسعينيات من القرن الماضي يدين عدداً من الأمراء بما يبلغ عشرين ملياراً من الريالات، فضلاً عن بنوك أخرى لاتزال تعاني حتى اليوم من ذات المشكلة.

2 ـ غياب النزعة الوطنية: الحس الوطني في المملكة شبه معدوم، ومع عدم تفعيل القيم الدينية، كان يمكن للشعور الوطني والغيرة على البلاد وأهلها أن يخففا من غلواء الفساد. بيد أن حكومة المملكة التي جاءت على أكتاف دعوة دينية ـ مناطقية لم تشأ خلق هوية وطنية يتمتع فيها الجميع بحقوق المواطنة وتلغي فئوية السلطة القائمة على منطقة وفكر بعينه. ولأن الدولة بمجملها لم تتحرر بعد من إرثها الانشطاري، ولأن السياسات القائمة تميل الى دعم الفئوية، ولأن الهوية الدينية/ المذهبية كانت الأساس في صهر المختلف مناطقياً ومذهبياً، والأداة الأولى للإلحاق السياسي.. لكل هذا كان من الطبيعي ان لا تولد هوية وطنية، أو شعوراً وطنياً وثقافة وطنية جامعة. ولقد أدى هذا الى سيادة الروح الطائفية والمناطقية والقبلية، بل لقد جرى إحياء الانتماءات الفطرية بشكل أصبحت الدولة نفسها مهددة بالتقسيم.

لقد تفاقمت الانتماءات الفرعية في فترة التحديث منذ الستينيات، فولدت النخب طائفية المنشأ، وجرى التقاتل على مغانم التحديث بين الجماعات، كل يبحث عن حصة لجماعته وقبيلته وأبناء منطقته والمشترك معه في الانتماء المذهبي. ولأن الدولة (نجدية) في جوهرها، من حيث السيطرة على كل مفاصلها، فإن التحديث ساعد على تعضيد وشرعنة الفساد السياسي والاقتصادي والبيروقراطي. إن غياب النزعة الوطنية وبرامج الدمج الوطني تعني باختصار استمراراً للفساد ولاستبداد السياسيين، وتعني سيطرة الفئوية، وتعني تغليب المصالح الخاصة والشخصية على مصالح الوطن والمواطنين، وتعني التناحر بين فئات المجتمع، وسيادة رؤية التنميط لبعضها البعض، كما يعني ـ بصورة أخص ـ ارتداداً على مفهوم الدولة، كدولة ـ قطرية، وعلى أصل وجودها، بحيث بات هناك من يرى ضرورة إحياء الكيانات السياسية القديمة، كدولة الحجاز، وإمارة الأحساء وغيرهما. ومن البديهي والحال هذه، أن لا تكون الدولة محترمة، ولا يُنظر الى المال العام إلا كمال مسروق أو هو في طور السرقة من قبل الفئويين. المهمشون في الدولة، أو مواطنو الدرجة الثانية والثالثة والرابعة، يرون أنفسهم منتجين للثروة ولا يتمتعون بها، وبعضهم يرى أنه لم يكد يحصل على شيء منها، كما في مناطق الجنوب والشمال، وبعضهم يثير العصبيات المناطقية كوسيلة ضغط بغية الحصول على ما يعتقد أنه حقه من المال العام ومشاريع التنمية وغير ذلك. ولذا يمكن القول بأن الفساد السياسي وما يتبعه من فساد في توزيع الثروة والخدمات الاجتماعية يؤدي الى تهديد أصل الدولة، وليس مجرد الطاقم الحاكم.

3 ـ تبدل المفاهيم والقيم: كما لاحظنا من العرض السابق، فإن هناك فئات عديدة في المجتمع، لا ترى الفساد فساداً، فقد يكون شطارة وذكاءً وألمعية، وقد يتوارى التبرير وراء مقولة (حق المتغلب)، أو هو فعل من صميم (ثقافة القبيلة)، وقد يعطي الفساد صورة دينية كانتزاع حق شخصي معلوم من (بيت مال المسلمين)، والمعتدي يرى نفسه من (المسلمين) بلا شك.

هناك قيم جرت المساومة عليها، فإذا كانت سرقة الأفراد لبعضهم البعض إثماً ومعصية، فإن سرقة (جميع الأفراد) عبر الاعتداء على خزانة الدولة أو أملاكها، ليس إثماً ولا خطأ ولا جريمة بحاجة الى تبرير لا من الفاعل ولا من كثير من الجمهور. والرشوة التي يحذر منها دينياً وعلى المنابر: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش) صارت مجرد (دهن سير)، و(فيتامين واو).. أي صارت ضرورة من ضرورات الحياة. ربما مارست عملية التحديث ضغوطاً على منظومة القيم الاجتماعية لم يستطع معها الأفراد الالتزام بحرفيتها، بالرغم من أن عملية التحديث بقدر ما جعلت منظومة القيم تواجه تحدياً كبيراً، فإن ردّ الفعل من شرائح اجتماعية كان تقوية الموجة الدينية التي بدا أنها مؤثرة في جوانب كثيرة، إلا في الجوانب المتعلقة بالمصالح الشخصية، فمفعولها لا يزال باهتاً. ولذلك تجد عشرات الفتاوى بشأن البنوك الربوية، والاستثمارات وغيرها، لا يجد حتى الملتزمون بأفكار أصحاب الفتاوى بدّاً من التملّص منها والالتفاف عليها!

إن مستوى الاقتناع بقيم العدالة والمساواة، والنزاهة، والأمانة، وغيرها بدا ضعيفاً أمام الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، فقد كان الإغراء المادي والمكسب السريع كبيراً في جانب منه في فترة ما سُمي بـ(الطفرة النفطية)، ولما انحسرت موجتها مع ما خلفته من تشوهات اجتماعية وخللاً اقتصادياً كبيراً على شكل بطالة وفقر مدقع، ظهر قبول أكبر في مجال المساومة على تلك القيم، تحت ضغط الحاجة، فجرى الالتفاف على البعض منها، كما جرى تهميش الآخر.. وصار سلوك الفساد من قمة الهرم الى القاعدة لا يثير ردّة فعل قانونية أو أخلاقية ذات معنى كبير. الشعور العام يميل الى أن ما يعتبر فساداً مجرد وسيلة ناجعة لتحصيل حق ضائع، أو لحل مشكل شخصي خارج إطار الروتين القاتل، او هو وسيلة من الوسائل المشروعة للتنافس على الخدمات المتناقصة، كتحصيل مقعد للدراسة أو سرير في مستشفى أو ما أشبه.

4 ـ الانتقام من الدولة: على صعيد آخر، لاتزال المملكة تشهد عبثاً وتخريباً متعمداً للمنشآت العامة كالحدائق العامة والطرق والمؤسسات وغيرها مع ما يرافقها من مسلكيات وتعديات على الأفراد وكسر للأنظمة والقوانين.. يأتي هذا في الغالب من شرائح اجتماعية محبطة، إما لأسباب سياسية أو لأسباب اقتصادية، ومثل هذا السلوك ملازم في جزء كبير لشريحة الشباب، التي لم تستفد من الطفرة النفطية، وتعاني من تناقص الفرص الوظيفية والتعليمية، وهي الشريحة نفسها التي تتعرض اليوم لأكبر موجة معلوماتية عبر الإنترنت والفضائيات، ولّدت لديها شعوراً مريراً بواقع مؤلم، تجري مقارنته بما لدى الآخرين في دول الخليج المجاورة.

الدولة القطرية في العالم العربي عموماً لم تتصالح مع مجتمعها، ولازال الأخير ينظر اليها ككائن مشوّه أو كصناعة أجنبية. وهناك تمرّد سياسي على الدولة القطرية يتخذ أشكالاً عديدة في مختلف الأقطار العربية، لكنها في السعودية واضحة المعالم، على شكل عنف ودعوات تقسيم، وتمرد على النظام السياسي، ودعوات أخرى مقابلة تمجد الأممية الإسلامية وتقوم بتأصيلها دينياً. ولهذا أضحت مؤسسات الدولة عموماً مستهدفة، للانتقام من الدولة على خلفية الحاجة الاقتصادية الناشئة أساساً من فشلها في توفير الحياة الكريمة لأبنائها، أو على خلفية أيديولوجية لا تعترف بأصل الدولة القطرية ومنتجاتها وفكرها ورموزها، أو على خلفية الانتماءات الفرعية، أو لفشل الدولة في إصلاح ذاتها وفي تحولها الى دولة ـ الأمّة.

المهم أن الدولة ـ لدى البعض ـ كائن منبوذ، يثير الرعب من جهة، ويغري المنتفع من جهة اخرى. وأجهزة الدولة كرمز لسلطتها وهيبتها وسيادتها، وكأداة للضبط والإدارة والاتصال والخدمة، هي من بين المستهدفات حتى فيما يتعلق بمنجزاتها الخدمية. فسلوك التخريب وعدم الالتزام بالقانون ينطوي على احتجاج داخلي ضد الدولة ومن يديرها. فقطع الإشارة لا يمثل عدم التزام بالقانون وسلوكاً شاذاً أحياناً بقدر ما هو تحدّ للدولة وهيمنتها، حتى أن نكتة ظهرت تقول بأن شخصاً كان يقود سيارته ويتلفت يميناً وشمالاً ثم يبادر الى قطع الإشارة، ثم يعود من الجهة الأخرى المقابلة ويفعل الشيء ذاته، وحين سُئل عن سبب ذلك قال: (لقد خسرت الدولة بذلك ألفي ريال) مقابل أربع تجاوزات لم يقبض عليه فيها بالجرم المشهود!

ومما يستدعي روح الانتقام، أن الفساد ملازم بالضرورة للبيروقراطية، وفي الحالة السعودية، فإن الجهاز البيروقراطي فئوي، فوزارات بعينها لهذه الجهة، وأخرى لتلك، وأصحاب هذه القرية يسيطرون على هذا الجهاز، وآخرون يسيطرون على ذاك.. ومن هنا أصبح الجهاز البيروقراطي خادماً للفئوية، وليس جهازاً للخدمة العامة. وقد كتبت بعض المقالات في الصحافة السعودية تشير الى هذا الخلل، كما أن دراسة الدكتور محمد بن صنيتان التي صدرت مؤخرا عن مركز دراسات الوحدة العربية تحت عنوان: (النخب السعودية: دراسة في التحولات والإخفاقات) تشير الى هذا الجانب بشكل واضح لا لبس فيه. ومن ثم فإن استهداف جهاز الدولة، وبعض أوجه الخدمة التي يقدمها، يمثل احتجاجاً على الجهاز والقائمين عليه، لأنهم من الناحية الفعلية مولدون للشر (الفساد) ويحتكمون الى التقاليد والعلاقات القرابية والمناطقية والمذهبية وليس الى قانون عادل. فضلاً عن هذا فإن عدداً غير قليل من القائمين على أجهزة الدولة يرون في أنفسهم ممثلين لفئاتهم، ومكلفين بالحفاظ على مصالحها. ومن الطبيعي ان الجهاز البيروقراطي العلوي له ميكانزمه الخاص به في توليد انواع أخرى من الفساد لا علاقة لها بمصالح الفئة بل بمصالح الطبقة بمعناها الاجتماعي. يستطيع البيروقراطيون الكبار Civil Servants اختطاف قرارات الدولة وهم لمّا يبارحوا مقاعدهم. بإمكانهم ـ وهم يفعلون ذلك في كثير من الأحيان ـ تقديم دراسات للوزير محببة له ليوافق على مشروع ما في منطقة ما، لحجبه عن منطقة أخرى، ويستطيع هؤلاء تعويق القرارات التي يفترض فيهم تطبيقها، وكثيراً ما نسمع عن قرارات وتوصيات ماتت في مهدها دون ضجيج؛ ويستطيعون أيضاً تغيير الأولويات في عمل الوزارات، كما في تنفيع القرابات عبر ترسية المشاريع والمناقصات على آخرين من ذات الفئة، أو لمصلحة شخصية، وهكذا.

 الجذور السياسية للفساد

 من خلال ما عرض آنفاً، فإن دوافع الفساد في المملكة مختلفة:

* بعضها ناشئ تحت وطأة الحاجة الشخصية، أو بسبب الرغبة في الإثراء غير المشروع، أو لتخطي حواجز وعقبات تحول دون حصول الأفراد على حقوقهم الطبيعية.

* وبعضها ناشئ من خلل في المفاهيم والثقافة السائدة، بسبب تحولات اقتصادية واجتماعية جاءت بها عملية التحديث سريعة الإيقاع. أو بسبب ضعف النزعة الوطنية والارتداد ضد الدولة.

هذه كلها تعتبر دوافع ثقافية واجتماعية أو لنقل إنها غير ناتجة من القمع العاري للسلطة، مع الاعتراف مسبقاً بصعوبة تمييزها عن الدوافع السياسية.

ولكن هناك فساداً قائماً على القمع والتضليل السياسيين، لا ينطبق على المملكة، كتزوير الانتخابات او شراء الناخبين، وكذلك الارتباط بكارتل المخدرات، والتجسس على المنافسين أو تهديدهم، وغير ذلك. ومثل هذه الأمور غير موجودة في المملكة لأنه لا توجد (عملية سياسية) في الأصل، كما لا يوجد ما يمكن أن يطلق عليه (مجتمعاً سياسياً).

الفساد في المملكة لصيق بطبيعة الحكم، حيث وصل النظام الى ما يمكن وصفه بـ Kleptocracy والتي تعني حرفياً (حكم اللصوص) أو حكم العصابات؛ حيث تقوم العصبة الحاكمة بتشغيل أجهزة الدولة وتوظيفها لصالحها من أجل الإثراء غير المتخيل في فحشه. ومن طبيعة هكذا نوع من الحكم أنه يعمّم الفساد من القمة الى القاعدة لتعزيز نوع من (المساواتية) تفرض على الجمهور قدراً من الصمت، كونها تمارس الفساد بأشكال أخرى. كما أن هذا النوع من الحكم لا يميل الى بناء أجهزة الدولة وفق مبادئ تتيح لها أداء وظائفها بصورة صحيحة كون ذلك يتعارض مع مصالح من يديرها، وفي الغالب يكون الجهاز الإداري مهلهلاً ضعيفاً فهو ضحية من جهة وهو جلاد من جهة أخرى. أي أن الجهاز الإداري ضحية للعصبة الحاكمة، كما أنه في الوقت ذاته يستضعف من تحته من المواطنين ويمنع عنهم حقوقهم الأولية. ومشكلة هذا النوع من الحكومات أنه يفشل في إدارة العملية الاقتصادية، وقد لا يتبدى الفشل في حال كانت إيرادات الدولة كبيرة، أو في حال الانتقال بمجتمع شديد التخلف والحاجة، كما كان واضحاً في فترة التنمية الماضية، ولكن بمجرد أن تتغير الظروف الاجتماعية ينكشف الأمر عن خلل مختزن كبير. الصحافيون السعوديون والكتاب والمفكرون يرجعون خلل الحاضر الى ثلاثة عقود مضت، اي الى فترة التنمية نفسها. فالفقر وقصور الخدمات والبطالة وتصاعد الدين العام وعجز الميزانية قد بدت منذ وقت مبكر جداً (العجز في الميزانية بدأ عام 1982 واستمر الى ما قبل عامين). ولذا انفجرت المشاكل فجأة فتفاجأ منها العالم. وكان التساؤل: أيعقل ان يكون في السعودية فقر وبطالة وأن 70% من المدارس بيوت مستأجرة وأن 40% من الطلبة لا يجدون المقعد المناسب في الجامعة فضلاً عن الوظيفة؟ أيعقل في بلد السبعة ملايين عامل أجنبي أن تحتار الدولة بمئات الألوف من مواطنيها الباحثين عن عمل؟

الفساد في المملكة ـ خاصة اليوم ـ لا يعود الى نقص في الإيرادات، بل الى كثرة اللصوص والمنتفعين. وفي دولة الـ Klepocracy لا يفرق الأمر كثيراً، فإذا كانت المداخيل قليلة تنهب، وإن كانت كثيرة تنهب أيضاً، ولذا نسمع في هذه الأيام ونقرأ مقالات تحذر من تكرار تجربة التعامل مع الوفرة المالية بسبب ارتفاع اسعار النفط، وتحذر من تضييعها نهباً أو على مشاريع وهمية ورقية لا تجد لها أصلاً في الواقع. ومن المتوقع أن الوفرة المالية التي سببها تصاعد اسعار النفط خلال العامين الماضيين، ستحفّز الكثير من الفساد وتفاقمه بدل أن تحلّ جذوره، من خلال المحاسبة الدقيقة، واستحداث المشاريع الكبرى البنيوية، ومن خلال الاستثمار في القوى البشرية وتأهيلها، أو صرف بعض المداخيل لتحسين وضع موظفي الدولة من خلال زيادة الرواتب، خاصة للفئات التي دخلت حديثاً لسوق العمل برواتب غير مجزية. لا شك أن بعض المال سيصل الى الجمهور وبعض المرافق العامة، ولكنه مال سائب، أو غير مثمّر على وجه صحيح، ولكن الكتلة الكبيرة من الأموال والمداخيل ستكون في الجيوب كما تعودنا.

الذي يدعونا لرسم هذه الصورة السوداوية، هو أن التخفيف من الفساد الاقتصادي غير ممكن بدون تحول في المفاهيم والممارسة السياسية. فتمركز السلطة في أيدي القلّة، يؤدي الى الاستحواذ الاقتصادي، والى إشاعة الفوضى والخراب، كما يؤدي الفساد السياسي الى غياب الوضوح والشفافية في صناعة القرار، والى تدهور الحال الاقتصادي الى حد الكارثة.

الفساد السياسي، أو لنقل الاستبداد السياسي، يهدد الإقتصاد والتنمية عبر توليد المشاكل وحرف المشاريع عن وجهتها وإضعاف الأداء. في القطاع العام كما في الخاص أدى الفساد الى زيادة كلفة المشاريع بسبب دفع الرشوات والنهب، ولهذا فإن السعودية هي الأقل جذباً في الاستثمارات الخارجية لعدم وجود القوانين وشياع الفساد.

وبالرغم من القول بأن الفساد قد يقضي على الروتين، ويسرّع فاعلية الأجهزة (وهو ما كان يراه هنتنغتون) وبالرغم أنه وجد بين الباحثين الغربيين من يرى أن الفساد ليس ملازماً للاجتماع البشري فحسب، بل أن جرعة قليلة منه قد تكون ضرورية كمحفز للإصلاح الإداري، وكوسيلة مؤقتة لتسوية أوضاع غير سوية. فهو (فساد محمود) ولكنه حسب رأيهم يصبح فساداً مدمراً إن لم تتم مكافحته بالحدّة والشدّة إن بدا أنه تجاوز القدر القليل، أي أنه كالدواء لا يؤخذ أو لا يتسامح معه إلا بقدر.. رغم هذا فإن هذا الرأي شاذّ عموماً، مع أن له بعض المصاديق في البلدان العربية خاصة، إذ تبقى الحقيقة ساطعة تشير الى أن الفساد من طبعه التمدّد، فهو يتمتع بقابلية سرطانية متمردة، يصعب احتواؤها. ولهذا تقوم في كثير من الدول حملات مكافحة للفساد، هي أشبه ما تكون حقناً إضافية لتعزيز مناعة الجسم، ولمنع انتشار المرض.

هناك شبه إجماع اليوم يقول بأن الرشوة تؤدي الى خلق المزيد من التعقيدات، بحيث يتزايد عدد المرتشين في كل المراحل البيروقراطية، فترى الموظف الصغير كما الكبير يطالب بحصته من الكعكة، مع ملاحظة أنه كلما تغلغلنا في أعلى السلم الوظيفي كلما كان الفساد أكثر اتساعاً وتنظيماً وخطراً وأقرب الى الوقوع وأكثر تأثيراً على حياة المواطنين واحتمالات مواجهته أقل كونه مدعوم ومغطى عليه من شخصيات نافذة. ويعني الفساد السياسي في المملكة أن سياسات الحكومة تميل الى تنفيع مقدم الرشوة، وليس الى تنفيع الدولة واعتبار مصلحتها عليا.

في غياب الإصلاح السياسي سيبقى الفساد دون تأطير أو تحجيم. فالحرية عموماً هي الحل الأنجع له. ولكن السؤال الحقيقي هو ليس في كون أن الفساد يخرب (ديمقراطيات) قائمة، او ما يمكن اعتباره (الحكم الصالح)، من جهة أن الفساد في الانتخابات والجهاز التشريعي يخفض من مستوى المحاسبة ومستوى التمثيل في صناعة القرار، ومن حيث أن الفساد في الجهاز القضائي، يوقف عمل (حكم القانون)، وأن الفساد في مؤسسات النفع العام يؤدي الى عدم المساواة في تحصيل الخدمة من قبل مواطنين يفترض انهم متساوون، او يؤدي الى تجريد تلك المؤسسات من قدرتها على اتخاذ اجراءات غير محابية سواء فيما يتعلق بالسياسات أو في ترقية الأفراد.. هذه المؤديات لا تنطبق جميعها على الوضع السياسي السعودي الذي قلنا بأنه يفتقر الى الحدود الدنيا من التمثيل والقانون.

انتشار الفساد في المملكة قد يكون أحد مبررات نشوء الحكم الصالح الذي يتجسد اليوم في تبني الديمقراطية نفسها، ذلك أن الفساد يهدد شرعية الحكم القائمة على اساس ديني أو لنقل على أساس غير تعاقدي، وفي الحقيقة فإن الفساد يهدد شرعية الأنظمة الديمقراطية نفسها. كما أن الفساد ينتج أعداداً متزايدة من المتضررين من الذين يمكن توصيفهم بالهمشين اجتماعياً والساخطين على نظام الحكم وهذا بدوره يعزز دعوات الإصلاح، التي إما أن تقبل أو يتطور السخط ويفعّل على شكل شغب وقلاقل وعنف، لا يمكن حله إلا بتغييرات هيكلية في النسق السياسي. ومن هنا فإن الفساد في النظام الديمقراطي يهدد الديمقراطية، ولكن (قد) يكون تصاعد الفساد في الدول غير الديمقراطية مدخلاً اليها ومحفّزاً لإيجادها.

في وضع مثل المملكة يبدو أن السرطان قد انتشر في كل خلايا الجسد، فصار الفساد الذي أريد له أن يؤدي بعض أدوار الجهاز البيروقراطي او ربما مساندته، صار يقوم مقام الجهاز نفسه ضمن آلية خاصة يبدو لي أنه من المستحيل ضمن الظروف الراهنة وفي الأفق المنظور التحكم به. فلا الإرادة العليا متوفرة بل هي متورطة فيه، ولا الأدوات الضابطة الحالية المحاسبية تقوم بعملها وليس في النيّة استحداث المزيد منها، كما لا يوجد الرجال الصالحون ضمن الطاقم النخبوي ممن يعول عليه في إدارتها، وإن وجدوا فإنهم ليسوا بالضرورة سيكونون بين المختارين لمكافحة الفساد، ولا يتوقع أن يحصلوا على هامش من الحرية لممارسة عملهم، فضلاً عن أن التعويل على الروح الوطنية لا يجدي، كما أن الإتكاء على النوازع الأخلاقية بدون وجود قانون واضح ومكتوب يحدد الجريمة والعقاب، وبدون قضاء نزيه ومستقل، في غياب كل هذا لا يبدو في الأفق حلٌ، وكل ما هو مأمول حقاً، هو أن ظاهرة الفساد تجمد عند مستوياتها الحالية.

 البعد الخارجي للفساد المحلي

 كثير من قضايا الفساد في المملكة مرتبطة بالخارج، وخصوصاً في جوانبه المالية. فصفقات السلاح وعمولاتها تزكم الأنوف، والعقود مع الشركات الأجنبية صارت إحدى وسائل الإثراء السريعة للمتنفذين من الجانبين، والأرصدة المالية السعودية الأهلية والحكومية في البنوك الغربية وخاصة الأميركية تصل الى 700 مليار دولار في أدنى تقديراتها. سياسة النفط الرخيص عبر إغراق الأسواق، وسياسة اعتماد الدولار كعملة وحيدة في التعامل، وغيرها هي بعض مظاهر الفساد وارتباطه بالخارج.

الدول الخارجية ـ أميركا خصوصاً ـ تريد نفطاً رخيصاً، وتريد سوقاً، وتريد استثمارات في بلدانها، وتريد تبعية سياسية بل (سمسرة سياسية) يقوم فيها الضحية بتبني سياسة الكبار وتمويلها (الكونترا، وإقليم شابا، وأفغانستان، والحرب العراقية الإيرانية، بل حتى الحرب الأميركية في فيتنام التي اعترف مسؤول الاستخبارات السابق الأمير تركي الفيصل بضلوع السعودية فيها).

في المقابل تحظى النخبة الحاكمة بالغطاء السياسي، الذي يبقي النظام الحاكم حياً مقابل التهديدات الخارجية والداخلية.

هذا كل شيء!

بقاء النظام دون تغيير في ممارساته وسياساته يعني الفساد السياسي بعينه. إنه يعني الاستبداد والقبول بحكم غير ديمقراطي، ومواجهة كل تغيير أو إصلاح، كما يعني التغطية السياسية والإعلامية على الإنتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، وتبرير او الدفاع عن سياسات النظام المحلية والخارجية. وفي الجانب الآخر فإن المهم هو الحفاظ على المصالح الخاصة، وإن كانت محرّمة قانوناً في البلدان الغربية، فازدواج القيم أمرٌ معروف.

هذا كله أدى الى استشراء الفساد الداخلي اقتصادياً ومالياً والى تطاول الاستبداد السياسي. إن المواقف الغربية في مجملها والى ما قبل أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 يمكن اعتبارها شريكاً في صناعة الفساد المحلي، بل أحد كبار الصنّاع له. ما بعد تلك الأحداث مسألة يختلف بشأنها، فالفساد السياسي السعودي ليس فقط شجع على اتساع دائرة الفساد في بعض دوائر النخبة الحاكمة والمتمكنة في اميركا، مثلاً، بل وهذا هو المهم فجّر عنفاً طال الأميركيين، فرأى جناح احتواءه بجرعة محسوبة من الحريات والديمقراطية تطيل أمد المصالح الأميركية وإن خففت منها، ورأى بعضهم إعادة انتاج الاستبداد عبر إسقاط نظام الحكم وتقسيم الدولة ووضع اليد على منابع النفط واستخدام الجزمة العسكرية لتحقيق ذلك، ورأى قسم ثالث إبقاء الأمور على حالها، فالنظام السعودي، قادر حسب رأيهم على تكييف نفسه مع المعطيات السياسية الأميركية وأجندتها ومصالحها.

هناك وجه آخر لعلاقة الفساد بالخارج، فيقال أحياناً بأن أموال النفط أفسدت السياسة العربية، وفي ظنّي أن النخبة العربية عموماً متحاملة على الدول الخليجية الثرية.. فالقابلية للفساد متوفرة لدى جميع الأنظمة، مع اختلاف المستويات، وقد استطاع بعضها أن يسخر إمكانياته لخدمة سياساته المحلية والدولية، عبر شراء الأحزاب والمنظمات وغزو الرأي العام برشوة الصحف والصحافيين، ولاحقاً عبر تأسيس صحف تستقطب وجوهاً يراد استرضاؤها خشية منها، أو تستقطب رجالاً لهم سمعتهم ومكانتهم في دوائر الثقافة والفكر في بيروت كما في القاهرة كما في لندن وغيرها من الدول.

 ملاحظات ختامية

 الأولى: وتتعلق بفساد قانون (مكافحة الفساد) وفساد الرجال القائمين على تطبيقه. فالمملكة ربما تكون الأقل بين دول العالم اعتماداً على القانون، وبالرغم من وجود مواد لمحاسبة المسؤولين والمحاكم الخاصة بهم، إلا أنها في الجملة لا تطبق، ولم نسمع أنها طبقت يوماً على أحد. والمملكة من جهة أخرى تعيش على (التعميمات) الآنية التي تصدر في الغالب من الوزارات وخصوصاً وزارة الداخلية، وهي تقوم مقام القانون والأنظمة. وفي كثير من الأحيان تكون التعميمات مخالفة للذوق والإنسانية وتحمل تعديات خطيرة على حقوق المواطنين. كالتعميم الذي صدر حول الأسماء التي لا يجب أن يسمي المواطن إبنه بها (ضمن المحظورات الدينية) مثل هدى وفضيلة وما أشبه! او كالتعميم الذي صدر في العام الماضي للمستشفيات بأن لا تقبل سيدة تأتي في حال الولادة إلا مع وجود ولي أمرٍ لها! أو كالتعميم الذي صدر قبل نحو ثمان سنوات بسجن المخالفين لقوانين قيادة السيارة لمدة شهر، فاكتشفت الحكومة أن لا سجون كافية للأعداد الغفيرة! وكالتعميمات التي ترد بفصل موظفين لأسباب سياسية أو تمنع بعض الدوائر من توظيف مواطنين ينتمون الى قبيلة معينة أو منطقة أو مذهب أو ما أشبه.

الثانية: إن القضاء في المملكة العربية السعودية تعتريه الكثير من المشكلات التي تحول دون حصول المواطن على حقوقه، فضلاً عن أن هناك طعونات كبيرة في نزاهته واستقلاليته، ولقد دأب دعاة الإصلاح في التذكير بهذه القضية، وانتشار ظاهرة الرشوة بين القضاة والتي أدت الى صدور أحكام جزافية تماشياً مع طلب من السلطات العليا التنفيذية. فإذا كان القضاة في الجملة غير بعيدين عن دائرة الفساد والرشوة والمحسوبية وإساءة استخدام السلطات، فإن المتوقع هو المزيد من الفساد والتعديات، ضمن واقع سلطة أبوي، وفي غياب واضح للإجراءات القضائية التي نالت خلال الأعوام الثلاثة نقداً واسعاً من قبل مؤسسات حقوق الإنسان في العالم ومنظمات متخصصة للأمم المتحدة.

الثالثة: الفساد كما الحكم الصالح مسألة نسبية، ومقاييسه تختلف وفق القيم الناظمة لمجتمع ما، والحكم في المملكة قائم على دعاوى دينية لا يطبقها، خصوصاً في جوانبها السياسية، أي أن هناك انفصاماً بين القيم وبين الواقع. التعريف الغربي للحكم الصالح في عمومه لا يتعارض مع الدين وقيمه، وهي تتلخص في:

- المشاركة للرجال والنساء في الانتخاب المباشر أو عبر الممثلين بما يتضمن حرية التعبير والاجتماع وقيام مؤسسات المجتمع المدني.

ـ حكم القانون: اي الإستناد الى نظام قضائي عادل يطبق على الجميع، ويضمن حماية حقوق الإنسان، ويكون القضاء مستقلاً عن السلطة التنفيذية، وتكون له سلطة على القوة التي تلتزم بتطبيق حكم القانون.

ـ الوضوح والشفافية في صناعة القوانين وتطبيقها وفق الأنظمة. وأن تتوفر المعلومة بسهولة خاصة للفئات المتأثرة بتلك القوانين والقرارات.

ـ التمثيلية، بحيث تكون نشاطات المؤسسات خادمة للجميع، وضمن وقت كاف ومعلوم.

- الإجماعية، بحيث يكون هناك إجماعاً في الطرق والوسائل التي تخدم عموم المجتمع.

- المحاسبة، بحيث تكون مؤسسات الدولة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني محاسبة أمام الشعب والمساهمين فيها أو المتأثرين بها.

هذه هي المواصفات في خطوطها العامة التي يمكن أن تقلل من الفساد وتجعل الحكم صالحاً، كما تجعل من صوت الأقليات وحقوقها محفوظاً إضافة الى حفظ حقوق الفئات الضعيفة في المجتمع كالمرأة والطفل.

والحكم في المملكة لا يقبل بهذه المواصفات، ولا يقبل بما يناظرها في الشريعة التي تستخدم اليوم كذريعة لمواجهة الأفكار المؤسسة لحكم صالح في المملكة.

الرابعة: ما يجعل من الصعوبة بمكان مواجهة الفساد، هو ضآلة هامش التعبير في المؤسسات الإعلامية والصحفية الرسمية والأهلية، بسبب الرقابة الشديدة. وأيضاً بسبب الغياب شبه التام لمؤسسات المجتمع المدني، بشكل يندر في بلدان أخرى. وحين واجهت الحكومة ضغوطات خارجية وداخلية، سمحت بقيام بعض المؤسسات ووضعت عليها شروطاً تجعلها مؤسسات أقرب الى تمثيل السلطة منها الى تمثيل المجتمع، ومثال ذلك: الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان في المملكة، ونقابة الصحافيين..الخ.

الخامسة: إيرادات النفط الهائلة، كما وجود الحرمين الشريفين، يقودان الكثيرين الى تصور السعودية بشكل مختلف. فالثروة نقيض الفقر الجالب للفساد والانحراف، والحرمان الشريفان منبعان للفضائل والقيم التي ترفد الذات بالوازع من ارتكاب الإثم والخطيئة. بيد أن السلطة مفسدة بطبعها، والغنى قد يؤدي الى البطر والفساد أيضاً: (كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى) والقيم إن لم تتحول الى قانون، تغلبها الأعراف، وتتجاوزها نوازع الذات الى الرذيلة، فيستطير شرّ الحكام، وتنتقل شرورهم الى القاعدة بشكل ممنهج في كثير من الأحيان.

ومن جهة أخرى، فإن الحكم الصالح لا بدّ وأن يترك آثاره على واقع حياة المواطنين، فوجود الثروة مثلاً ما لم يكن منعكساً على صحة الناس وتعليمهم ورفاههم، فإن ذلك يدلّ على أن خللاً موجوداً كبيراً. وقد قيل بأن من السهل إثبات وجود الفساد، ولكن من المستحيل إثبات غيابه.

حسب منظمة Transparency International لعام 2003، فإن المملكة احتلت مرتبة 138 بين دول العالم من حيث معدل الأعمار (68.73 سنة) وقد كان المعدل في منتصف الثمانينات 56 سنة فقط، في حين احتلت اسرائيل المرتبة 21، والأردن 40، والكويت 54، وليبيا 59، وقطر 85، والعراق 141. وحسب نفس المنظمة، فإن السعودية تقع في المرتبة 63 بين الدول الأغنى في العالم (11068 دولاراً كمعدل لدخل الفرد السنوي) في حين حصلت لوكسمبورغ على المرتبة الأولى، وهونغ كونغ على المرتبة 18، والإمارات 30، وقطر 39، وإسرائيل 42، والكويت 51، والبحرين 55. اما موقع السعودية بين الدول الأفضل في التعليم فقد احتلت موقع 86 بين دول العالم، أما البحرين فـ 32، وتونس 33، وقطر 38، ولبنان 40، والإمارات 59، والعراق 84. وأخيراً فإن مرتبة السعودية بين الدول الأقل فساداً هو 47، فيما اسرائيل 21، وعمان 26، والبحرين 27، وقطر 32، والإمارات 38.

هذه الأرقام قد لا تكون في مجملها دقيقة، ولكنها مقبولة عموماً، ويهمنا هنا الأرقام والإحصاءات الحكومية ـ وهي ضئيلة جداً ـ التي تقيس معدلات الجريمة بشتى أنواعها، ومعدلات البطالة، ونسب الفقر، ومستوى الخدمات الصحية والتعليمية. بعض هذه يمكن تحصيلها في الكتاب الإحصائي السنوي الذي يصدر عن وزارة المالية السعودية، والذي يحوي أرقاماً مخيفة حول تزايد ظاهرة الجريمة، والتي تعكس خللاً بنيوياً في إدارة الدولة ومشاريعها.

وختاماً يمكن القول، بأن الفساد في المملكة سيستمر أفقياً وعمودياً في المستقبل وبصورة متسارعة، بشكل يعكس مقدار الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، ولا يوجد هناك من حل سوى ما قدم من عرائض الى المسؤولين والتي تحث على المباشرة فوراً بالإصلاح السياسي، كعريضة الرؤية 2002، والعريضة الدستورية في كانون الاول/ديسمبر 2003.

* ورقة مقدمة لندوة مركز دراسات الوحدة العربية حول الفساد والحكم الصالح في العالم العربي والتي عقدت في بيروت 20-22 سبتمبر الماضي.