العدد  18 يوليو 2004

 هل ينجح خيار الاحتواء؟

القاعدة تستدرج الحكومة الى حرب الشرعية

عبد الله الراشد

 

نقل عن عبد العزيز المقرن الذي لقي حتفه في الرياض في شهر يونيو الماضي بأنه كان وراء منع قرار البدء بحملة اغتيالات ضد أفراد العائلة المالكة، بعكس القائد الجديد لتنظيم القاعدة صالح العوفي الذي وضع على كاهله مهمة تصفية أعضاء العائلة المالكة ورفض تشتيت الجهد في عمليات متنوعة فضلاً عن نقل جزء من العمليات خارج الحدود وخصوصاً الى العراق، بالرغم من الدعوات المتكررة العلنية والسريّة التي وجهت الى التنظيم، من قبل جهات دينية وسياسية في البلاد.

 لقد شنّ التنظيم الجهادي في الجزيرة العربية التابع عليناً للقاعدة حرباً متعددة الجبهات داخل السعودية، وقد بات هذا التنظيم يحمل أهدافاً استراتيجية متوسطة المدى وبعيدة المدى وصولاً الى السيطرة النهائية على واحدة من أكبر الدولة المنتجة للنفط في العالم، ولهذا السبب فإن مقتل او اعتقال او استسلام شخص أو عدة اشخاص لن يضع حدّاً نهائياً لتنظيم بات يرتبط عضوياً بالشبكة الدولية الأم المعروفة بإسم القاعدة التي يمثل فيها العنصر السعودي جزءا أساسياً من الكتلة البشرية في الشبكة.

إن الحرب مهما كانت النتائج على الارض مستمرة، وأن تكتيكات القاعدة باتت واضحة للغاية، بقتل واختطاف الغربيين والتي باتت حدثاً عادياً، وأن مجرد توقّفها مؤقتاً لا يعني نهاية حاسمة أو انتصار للحكومة في حربها ضد العنف.

قد تكون الاهداف الاستراتيجية لدى القاعدة غامضة حتى الآن، ولكن بالتأكيد فإن السعودية تمثل بالنسبة للقاعدة ولكثيرين البيضة الذهبية التي تستحق العناء للحصول عليها. فمن النواحي الاقتصادية والسياسية والدينية والاجتماعية فإن السعودية تمثل المنطقة المناسبة لطموح وتوجّه القاعدة. فالمملكة تعتبر دون ريب غنيّة، ومازالت قادرة على التأثير في عمليات تزويد النفط العالمي، وهكذا السياسات العالمية، وأنها ـ أي المملكة تعتبر دينياً واجتماعياً وهابية، وأنها بدرجة صارمة ومستقلة تعتبر دولة قبلية، وهي في كل الاحوال المركز الروحي للقاعدة.

لقد بات الهدف النهائي للقاعدة معروفاً ويتمثل ببساطة في السيطرة الكاملة على المملكة، إذ تأمل هذه الشبكة في بناء امبراطورية فوق قومية، أي دولة الامة الاسلامية، التي تكون السعودية مركزها والقلب النابض فيها، باعتبارها الحاضنة للمدينتين المقدَّستين مكة المكرمة والمدينة المنورة، اضافة الى كونها أكبر مصدر للنفط في العالم. إن بناء دولة اسلامية تكون فيها الجزيرة العربية مركز السلطة السيادية ستضطلع بدور القائد السياسي والديني للعالم الاسلامي.

 السباق نحو الفوز بالمشروعية

 إن إنجاز هذا الهدف يتطلب من القاعدة اضعاف خصومها في الحكومة أولاً، وهناك عدة أهداف متوسطة المدى من أجل تحجيم أو تشديد الخناق على العائلة المالكة، أولاً: توتير العلاقة بين الولايات المتحدة والعائلة المالكة، وثانياً: تقويض السلطة السياسية لآل سعود، ثالثاً: تدمير المصداقية الدينية للعائلة المالكة.

إن توتير العلاقة مع واشنطن سيقلّّّص دون شك خيارات الحكومة السعودية في السياسة الخارجية، ويخفّض قدرتها على مقاومة التدخل الخارجي. وحين تفقد واشنطن ثقتها في الحكومة السعودية، فإنها من الطبيعي ستقوم بفرض ضغوط كثيفة على الرياض من أجل زيادة درجة التعاون في الحرب على الارهاب، ولا ننسى الامتيازات الخاصة التي يتمتع بها أفراد العائلة المالكة في الولايات المتحدة والتي يمكن أن تتوقف بصورة فجائية ومضّرة بفعل اختلال العلاقة حال وقوع ما يعكّر صفو هذه العلاقة.

إن تقويض الامتيازات السياسية السعودية سواء في الداخل أو الخارج سيكون أشبه بخسارة مهينة للعائلة المالكة، وسيترك أصداء سلبية في طول البلاد وعرضها، كما سيؤدي في نفس الاتجاه الى ارتكاس ثقة المواطن في العائلة المالكة ودعمها. ومن الطبيعي أن يؤدي فقدان الثقة في قدرة العائلة المالكة وحقها في الحكم الى تحدي مباشر لمشروعيتها. ولقد نجحت القاعدة في نقد وبصورة مكشوفة المصداقية السياسية والدينية للنظام، واصماً إياها بالسلولية والنفاق والفساد.

هناك قلق متزايد حول جدارة العائلة المالكة في الحكم، فالمأزق السياسي الحالي والذي غذّته الهجمات المتواصلة ضد الغربيين وتفجير المجمعات السكنية، يثير مخاوف من حدوث فوضى سياسية. وهذا يلفت الى أن الفكر السياسي الاسلامي يشدد تقليدياً على تفضيل سلطان غشوم على الفتنة. ولربما تضع الجماعة المسلحة المرتبطة بالقاعدة في قائمة أهدافها خلق فوضى سياسية عارمة من أجل إثبات معادلة أخرى تسمح بتجاوز التقليد الديني، أي إثبات بأن السلطان الغشوم غير قادر على درء الفتنة.

إن الهجوم الثاني على مصداقية النظام يتمركز حول المشروعية الدينية، ولعل من المفاجئات المثيرة للدهشة هو ما تكشف عنه استطلاعات الرأي التي تقوم بها شبكة (الاسلام اليوم ـ Islamtoday.net)، والتي تشي بتراجع مصداقية وشعبية العلماء التقليديين المرتبطين بالحكومة لصالح الجماعات المسلّحة.

ففي سؤال وجهه الموقع حول الاشارات المنبعثة من قرار الجماعة المسلّحة على قتل الرهينة جونسون وعدم اكتراث أفراد الجماعة لنداءات العلماء وطلاب العلم بوقف قرار القتل، وجاءت النتيجة على النحو التالي: 4 بالمئة من المشاركين في التصويت يعتقدون بأن منطلقات المختطفين ليست شرعية، فيما صوّت 91 بالمئة على أن منطلقات العلماء ليست شرعية. إن واحدة من أهم الدلالات التي تحملها هذه النتيجة أن التحصينات الدينية التي ظلت توفّر للنظام السياسي غطاء شرعياً باتت غير قابلة للصمود، بل هي عرضة للزعزعة العنيفة، فالجماعات المسلّحة قد مزقّت ستار المشروعية المضفى ليس على العائلة المالكة بل وسلبت من العلماء قدراً كبيراً من الزخم الروحي والديني بحيث لم يعودوا قادرين على كسر الجماعات المسلّحة بمجرد احتفاظهم بمواقع متقدمة في النظام المراتبي الديني المفروض من الحكومة. في الحقيقة، نجحت هذه الجماعات في أن تهدد القلعة الحصينة التي تحمي المؤسسة السياسية من خلال الكشف عن تناقضاتها، عبر اللجوء الى نفس المدّعيات الدينية التقليدية التي تتحدث عن وجود المشركين في جزيرة العرب، وتمكين النصارى من خيرات المسلمين وغيرها، وهي تمثل إحدى الشعارات المحرّضة على محاربة الدولة والاجانب معاً.

إن ما يحظى به اسامة بن لادن زعيم شبكة تنظيم القاعدة من دعم واسع داخل المملكة وخصوصاً داخل المجتمع الديني السلفي هو تبنيه لنفس الخطاب الديني التقليدي الذي تربت عليه الاجيال السلفية المتعاقبة، فكثير من أتباعه قد جاءوا من القصيم، وهي قاعدة ومركز كثير من العلماء الوهابيين البارزين، وهو بهذا يخوض معركة المشروعية في داخل المركز الذي تستمد منه العائلة المالكة مشروعيتها الدينية. فالقائد الديني البارز للبلاد، أي المفتي العام الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، قد اضطر مؤخراً على تبرير الفتاوى الدينية الصادرة ضد اتهامات حول النفوذ السياسي المتزايد من قبل الحكومة.

إن إتهام الحكومة بالسماح للشؤون السياسية بأن يكون لها تأثير على الموضوعات الدينية يعتبر إتهاماً خطيراً وخصوصاً في بلد مازال يدعّي حكامه بأنهم يسيرون على هدي الشريعة وفي ضوء أحكامها. ومن المعلوم دينياً فإن الفكر السياسي الاسلامي، بما فيه الفكر الوهابي يشدد على أن السياسة يجب أن تكون في خدمة الدين، وفي الحقيقة، فإن الفكر السياسي الاسلامي لا يضع مائزاً بين الحكم الديني والحكم والسياسي.

وتلتزم المدرسة الوهابية بموقف راديكالي في هذا الصدد، حيث ترى بأن السياسة باعتبارها مجالاً شرعياً خاصة بالقيادة الروحية والطبقة الدينية الورعة. ومن خلال تحدي مصداقية المؤسسة الدينية فإن الجماعات المعارضة بما فيها المسلّحة تفرض تحدّياً كبيراً لمشروعية ليس الحكومة فحسب بل والقيادة الدينية العليا في البلاد.

إن سيطرة الجماعات المسلّحة على المملكة قد لا يعني بالضرورة إسقاط العائلة المالكة (لا أقل في المرحلة الحالية) أو حتى التدمير المباشر للبنية النفطية للبلاد أو حتى تعطيل صادرات البترول. فالمملكة كما هو واضح تبدو ذات قيمة أكبر باحتفاظها بالقطاع النفطي، مع تركيز التنظيم الجهادي على إضعاف النظام وسوق الغربيين الى خارج الجزيرة العربية لأمد منظور.

 وفي هذا السياق يمكن الزعم بأن تنظيم القاعدة لا يريد إشعال فتيل غزو أميركي على المملكة من خلال شن حملات عسكرية استفزازية تؤدي الى احداث اضطرابات واسعة في الاقتصاد العالمي أو لها تداعيات سياسية خطيرة مثل ثورة واسعة النطاق أو تصديع بنية الدولة والتي ستؤدي الى تقليص المدى السياسي للرياض. واذا ما عثرت على جناح متعاون أو قاعدة دعم داخل العائلة المالكة، فإن النظام حينذاك قد يبقى لا أقل بالاسم وحتى وإن تغيّر التوجّه السياسي للرياض.

وقد تكون هناك أسباب قصيرة المدى تجعل من إزالة العائلة المالكة بصورة كاملة غير واردة في أجندة الجماعات المسلّحة. إن السبب المباشر قد يكون المال، لأن القاعدة اعتمدت طويلاً في تمويلها على المملكة، وهناك إشاعات مستمرة بأن بعض أفراد العائلة المالكة قدّم دعماً مالياً وسياسياً للجماعات المسلّحة. وبحسب تقارير صادرة عن وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية فإن القاعدة أنفقت ما يبلغ نحو 30 مليون دولاراً سنوياً من أجل تمويل عملياتها، وبحسب الهيئة الاميركية الخاصة بالتحقيق في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فإنها انتهت الى أن معظم هذا المبلغ جاء من متبرعين مشبوهين وغير مشبوهين، وبصورة رئيسية في دول الخليج، وبخاصة السعودية، وقد تمّ تمرير هذا المبالغ عبر الجمعيات الخيرية.

لقد قامت الحكومة بتقصي نشاطات الجمعيات الخيرية والتحقيق فيها كطريقة من أجل وقف الدعم المالي الذي يصل الى تنظيم القاعدة. فقد فرضت سيطرتها على مؤسسة الحرمين وهي الجمعية الخيرية السعودية الدولية التي ربطتها الحكومة الاميركية بتنظيم القاعدة.

ومهما يكن فإن الجماعات المسلّحة المرتبطة بالقاعدة تظل في مسيس الحاجة لتدفق المال من أجل تسيير عملياتها وتحقيق أهدافها المعلنة وغير المعلنة، وهذا يعني بأنها لن تسعى الى ما يؤدي الى تقويض حلفائها ـ المتبرعين في المملكة أو موراد الدخل الرئيسية. وحسب بعض المصادر فإن هناك كثيراً من المتبرعين الشعبيين الذين يرغبون في إيصال المعونات والمساعدات للجماعات السلفية المناهضة للعائلة المالكة سواء في الداخل او الخارج.

 القاعدة والاخوان: أوجه الشبه

 يذهب بعض المراقبين الى الاعتقاد بأن المرحلة القادمة من المواجهة بين الجماعات السلفيّة المسلّحة والحكومة قد تؤول الى ثورة كبرى في المملكة، وتلفت نشاطات التنظيم السلفي الجهادي المرتبط بالقاعدة الى بعض أوجه الشبه مع حركة الاخوان التي تأسست عام 1911، كقوة عسكرية شكّلها ابن سعود كيما تتولى مهمة فتح المناطق والحاقها بمشروع دولة ابن سعود.

في عام 1902 عاد عبد العزيز بن سعود من منفاه في الكويت واحتل الرياض وأجزاء كبيرة من نجد، وقام بتشكيل جيش عرف بإسم الاخوان مؤلف من قبائل بدوية عدة بغرض إحتلال حائل والحجاز واجزاء أخرى من المناطق التي تعرف الان بإسم المملكة، وفي عام 1913 احتلت قوات ابن سعود الاحساء او المنطقة الشرقية الغنية بالنفط.

وفي عام 1917، وبمساعدة من الاخوان البدو، زحف إبن سعود باتجاه حائل، مركز قيادة قبيلة الرشيد المنافسة في شمال الجزيرة العربية، وفي نهاية المطاف قام بفرض السيطرة عليها وضمها الى مملكته.

وفي عام 1926 قام ابن سعود بإزاحة شريف مكة الحسين بن علي، وفرض سيطرته على الجزء الغربي من الجزيرة العربية، المعروفة بإسم الحجاز. ولكن الطموح الامبراطوري لابن سعود مالبث ان توقف بعد ذلك. وقد نصّبت بريطانيا أبناء الشريف حسين على العرش في كل من العراق والاردن وأبرمت صفقة مع الرياض تقضي بمنع شن اي غارات ضد هذه المناطق.

وبعد بلوغ التمدد المناطقي حدوده النهائية أو المقررة، تحرك ابن سعود من أجل إخماد نوازع الغزو في جيش الاخوان وقرر توطين البدو. وقد توقع البدو الحصول على غنائم من انتصارات الحجاز وحائل وأرادوا مواصلة الغارات على العراق بدلاً من الاستقرار والتوطّن.

وقد توقع إثنان من قادة الاخوان الحصول على مناصب حكومية هامة بعد استكمال مشروع اقامة الدولة الا أنه جرى استبعادهما، بل  تمرّداً على ابن سعود وشرعا في مقاومة حكمه في الرياض. فقد طمح ابن بجاد القائد الرئيسي للأخوان لتولي منصب القائد العسكري بعد توحيد المملكة واستتبابها، ولكنه بدلاً عن ذلك تم طرده. وكان ابن سعود يخشى أن يشكل ابن بجاد وفيصل الدويش القائد الاخواني الآخر أن يفرضا تهديداً لحكمه، الامر الذي أثار غضبهما لاحساسهما بالخديعة وخصوصاً بعد الانتهاء من احتلال الحجاز، حيث اكتشفا بأن مشروع الجهاد قد تم استكماله، وأنهما لم يعد لهما مكان لا في سوح الحرب ولا في الجهاز الاداري الجديد للدولة، فقررا ان يخوضا الخيار الصعب، وفي عام 1929 قاد الاخوان ثورة غير ناجحة ضد نظام ابن سعود.

وهناك عدد من المشتركات بين هجمات القاعدة الجارية وإنتفاضة الاخوان عام 1929، فمثل ابن بجاد، فإن أسامة بن لادن كان يطمح للحصول على منصب عسكري رفيع عقب عودته من أفغانستان بعد هزيمة السوفييت. وبدلاً من ذلك فقد تم تجاهله بل ورفض السماح له بتشكيل جيش لمقاومة أي غزو محتمل تتعرض له البلاد، وخصوصاً بعد قيام قوات صدام حسين بغزو الكويت في أغسطس عام 1990، ولعل قرار الاستبعاد كان ذكياً من قبل الحكومة التي كانت تدرك تماماً التنشئة العقائدية لجيش يقوده اسامة بن لادن، حيث سيفتح الباب امام احتمالات وقوع أشكال من العصيان المسلّح داخل المؤسسة العسكرية التي سينتمي اليها جيش يقوده اسامة بن لادن، مع استذكار الطموحات الامبراطورية التي يحملها مشروع الجهاد الدولي في تنظيم القاعدة.

اتهم الاخوان إبن سعود بالتعامل مع الكفار، بالنظر الى العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وبريطانيا، تماما كما هو الحال بالنسبة لتنظيم القاعدة الذي استنكر تعامل الحكومة السعودية مع الكفار، أي الأميركيين والغربيين بصورة عامة.

ولكن.. هناك ثمة افتراق خطير بين الاخوان وتنظيم القاعدة عند الهدف المنشود لدى كل منهما، فبالرغم من أن الجنسية السعودية لم تكن قائمة حينذاك، فإن نظام التحالف القبلي الضمني ساد وأن الاخوان هاجموا بصورة متعمدة قبائل كانت موالية لابن سعود.

 الاصطدام مع النظام: مرحلة منتظرة

 لم تسلك القاعدة هذا الطريق على الأقل حتى الآن، ولكن عقب تطهير الاراضي المقدسة من الكفار، فإن الحركة لديها الالآف من المسلحين الراديكاليين المتحمسين للقيام بعمل ما. فقد وجّهت القاعدة مراراً وبصورة واضحة اتهاماً للنظام السعودي بالفساد والنفاق وليس من البساطة بمكان ان يتم تغيير هذا الموقف الاتهامي فور خروج الاجانب والاميركيين من البلاد. في الواقع، إن أفراد هذه الحركة قد قاموا فعلياً بالهجوم على مسؤولين أمنيين سعوديين ومباني حكومية (مبنى إدارة الامن العام مثالاً).

إن الحرب الحالية هي من نوع صراع العصابات ضد هجمات مسلّحين تستهدف الغربيين، وستشهد المرحلة القادمة، على أية حال، تحوّلاًَ من نوع ما وبخاصة اذا ما قرر القائد الجديد للتنظيم صالح العوفي توجيه جزء من عمليات التنظيم ضد أفراد العائلة المالكة، أي أن التنظيم سيوّجه الصراع وبصورة مباشرة ضد السلطات السعودية،  وقد يسعى التنظيم لاعداد نفسه عملياً بوصفه بديلاً سياسياً حيوياً ومشروعاً.

فمن المعلوم أن القاعدة ترسي أساساً لنظام جديد، ويلفت شريط صوتي تم بثه في يناير الماضي لابن لادن دعى فيه الى تأسيس قيادة سياسية ودينية شرعية للحلول مكان الحكومات العربية الفاسدة القائمة حالياً. وقال بأن الناس المخلصين الذين يولون إهتماماً بهذا الوضع مثل العلماء، القيادات المطاعة بين الناس، والشخصيات المهمة، والوجهاء، والتجار يجب أن يجتمعوا ويلتقوا في مكان آمن بعيد عن ظل الانظمة الاستبدادية وتشكيل مجلس الحل والعقد من أجل ملء الفراغ الحاصل بسبب النقض الديني من قبل هذه الانظمة وعقمها الفكري.

إن دلالة هذه الدعوة في جزء منها على الأقل تفيد بأن النظام السياسي في السعودية فاسد وأن ثمة قيادة جديدة يجب أن تحل مكان هذا النظام.

إن النظام السعودي يدرك تماماً بأن حرب العصابات ضد الغربيين هي ليست سوى مرحلة أولى أو بالاحرى وجه من وجوه هذه الحرب، وأن العدّ التنازلي للصدام بين التنظيم الجهادي والحكومة السعودية بات مؤكداً وأن المسألة ليست أكثر من مجرد وقت.

 الرد على العفو

 بعد نحو أسبوع على دعوة الامير عبد الله الجماعات المسلّحة للاستسلام وتسليم أنفسهم لأجهزة الأمن، لم يستجب لهذا النداء من بين الاسماء الواردة في قائمة الـ 26، سوى عثمان العمري. وهذه الدعوة جاءت في سياق محاولة الحكومة من أجل التوصل الى تسوية سلمية بعد أن بدأ تأثير هجمات هذه الجماعات كارثياً الامر الذي أدى الى إحداث زعزعة عنيفة في قطاعات حيوية في الدولة كالقطاعين الصناعي والتجاري.

وبالرغم مما بدا إنتصاراً ساحقاً تحققه وزارة الداخلية ضد خصم عنيد طالما كبّدها خسائر بشرية ومعنوية باهضة، وبرغم الهدوء الحذر الذي شاب الوضع الداخلي بعد مقتل عبد العزيز المقرن قائد تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية، الا أن الهدوء مالبث أن مزقته إحدى المجموعات التابعة للتنظيم في الرياض في نهاية شهر يونيو الماضي، وأدت المواجهات بين قوى الامن وأفراد المجموعة الى مقتل رجل أمن، وأحد اعضاء المجموعة، ثم تجددت المواجهات المسلّحة بصورة متقطعة بين الجانبين فيما لا حصيلة نهائية حول الخسائر البشرية يمكن التعويل عليها، بفعل تضارب الانباء كما ظهر في الاشاعة حول مقتل أحد منظّري التنظيم الجهادي عبد الله الرشود الذي تبين لاحقاً بانه مازال على قيد الحياة. 

قد يكون استلام العمري وقتل المقرن قبل ذلك حدثاً اعلامياً يضاف الى قائمة الانتصارات النفسية للحكومة بعد انكسارات متتالية، وقد تستعيد بمثل هذه الخسائر في الجماعات المسلّحة جزءا من هيبتها ومصداقيتها. ولكن قراءة الانطباعات العامة في الشارع تظهر بأن مقتل المقرن واستسلام العمري لم يقدّم للحكومة ما تأمله من تعويض نفسي حقيقي، فقد أركست جماعات العنف لواء الدولة وحرمتها من الاستمتاع بالانتصار الاعلامي، وعلى أية حال فإن استسلام العمري لن يؤثر عملياً على قدرة التنظيم في مواصلة عملياته في الرياض أو أي مكان آخر في البلاد.

الجدير بالذكر أنه منذ سنوات قليلة أوقفت الحكومة أو فصلت الآلاف من رجال الدين من المستويات الدنيا، وقد انضم مئات من هؤلاء الى صفوف التنظيم، مقدّمين دعماً ايديولوجياً ومعنوياً وتجنيد داخل المساجد. إن التصدعات الحاصلة بين الحكومة والجيل الشاب من العلماء قد تعمّق في مايو 2003 حين قامت الحكومة بفصل او ايقاف عدة آلاف من العمل.

وكان سيتم اعادة تأهيل كثير من هؤلاء فيما كان الآخرون وببساطة سيطردون من المؤسسة الدينية، إن هذه الخطوة كان لها نتائج قليلة كيما يزرع حب الحكومة في قلوب هؤلاء المحبطين من الكادر العلمائي الراديكالي. إن القاعدة وحلفاءها، وهكذا طيف من المعارضين للنظام، يستثمرون المعارضة المتنامية داخل المؤسسة الدينية وفي الشارع من اجل تحدي مشروعية النظام الديني ـ السياسي بصورة كاملة.

إن التهديدات لعدد من الاركان الاساسية العاضدة للعائلة المالكة، بما في ذلك التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، والشبكة القبلية، والمؤسسة الامنية، تتصاعد بوتيرة عالية. إن الهجمات ضد المدّعيات الدينية للنظام هي جزء من الهجوم الواسع الذي يقوم به تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية. إن هذه الهجمات ستتصاعد في الشهور القادمة، وقد تؤدي الى صدام بين النظام وعلماء من الدرجة الثانية وربما حتى مع بعض كبار العلماء.

إن العلماء الذين كان دورهم هامشياً ولكن داعماً للقاعدة سيرون أنفسهم عند نقطة حاسمة: زيادة درجة انخراطهم في النشاط الايديولوجي للتنظيم، او الاستسلام. وقد يختار كثير من هؤلاء الاستقالة، سيما وأن النظام قد أبدى قدرة محدودة على وقف الانتحاريين وأن عليه استعادة مشروعيته المفقودة في عيون القاعدة وحلفائها في الداخل من خلال طرد الاجانب من بلاد الحرمين الشريفين.

 المفتي: ورقة المشروعية الاخيرة

 دافع المفتي العام الشيخ عبد العزيز آل الشيخ عن مشروعية المؤسسة الدينية في منبر عام، في سياق الرد على الانتقاد المتصاعد ضد التحالف السياسي الشديد بين القيادة الدينية والعائلة السعودية المالكة. إن الطبيعة العامة لهذا الانتقاد يشير الى أن ثمة زيادة ملحوظة في الاهتمام العام حول مشروعية القيادة الدينية والسياسية في البلاد.

ففي لقاء عام في مسجد بارز بالرياض، بحسب ما ذكرت جريدة الرياض اليومية في الخامس عشر من يونيو بأن آل الشيخ استنكر خلال فقرة الاسئلة التي وجهها رجال إعلام ما تردد بأن للحكومة تأثيراً على صدور الفتاوى وقال بأن هذه الاتهامات ـ على النقيض مما ينشر في الاعلام ـ هي غير صحيحة.

إن كلا من النقد ورد الفعل عليه يشير الى مستوى عميق من الممانعة، ليس فقط داخل المؤسسة الدينية الرسمية، ولكن داخل المجتمع عموماً. ومن الواضح فإن السؤال والجواب عنه قد تما بصورة علنية ومن ثم نشره في الصحف المحلية بما في ذلك الصحف الصادرة باللغة الانجليزية. أسئلة أخرى ستثار بالتأكيد حول المشروعية ايضاً في الشهور القادمة، حيث تكون القيادة الدينية والسياسية وربما العسكرية في المملكة النقاط المحورية للنقد المتصاعد بدرجة عالية.

إن إجابة آل الشيخ على سؤال حول تأثير الحكومة على الفتاوى الدينية بصورة مفتوحة كان مؤشراً واضحاً على أن ثمة إهتماماً عاماً لدى الشارع حول مشروعية القادة الدينيين. وأيضاً، فإن التصريحات التي أعيدت تعميمها ونشرها في الصحافة تشير الى أن الحكومة السعودية التي تفرض سيطرة شبه كاملة على الصحافة المحلية تسعى الى الرد على الاتهامات فيما يتصل بالنفوذ والفساد واللامشروعية.

 ومن المعروف فإن المؤسسة الدينية في السعودية والتي تحظى بنفوذ في جوانب الحياة الاجتماعية المختلفة تعتبر ضالعة بصورة عميقة في السياسة، ولكنها انقسمت منذ بداية التسعينيات الى خطين متمايزين، فبينما ربط كبار العلماء أنفسهم بالاجندة السياسية للعائلة المالكة، فإن الجيل الشاب من العلماء والذي لم يشكّل نفسه في هيئة مؤسسة وقوية ويعتبر راديكالياً في خطابه قد انتقد في السنوات الاخيرة بصورة علنية كبار العلماء والحكومة، وعلى ثقافة هذا الجيل من العلماء الراديكاليين تربى أفراد الجماعات المسلّحة.