العدد  18 يوليو 2004

 

الطريق الى الضياع

 فيصل الزامل

 لا يسع المراقب للأداء السياسي الحكومي إلا أن يخرج بنتيجة مفادها أن رجال الحكم قد فقدوا تواصلهم مع الواقع ومع الجمهور. لقد نشرت هذه المجلة مقالات بهذا الإتجاه، وعدّت الفاصلة الذهنية والنفسية وكذلك الفاصلة بين ما يطمح به الناس وبين ما يراه الأمراء، عدتها بأنها تمثل خطراً كبيراً على مستقبل البلاد. ما ينبئ عنه الأداء الحكومي السياسي والإقتصادي والأمني والديني، يبين أن رجال الحكم لم يتعلموا من الأزمة التي مرّت بها البلاد ما يكفي لأن يطمئن المواطن بأن مستقبله وغده سيكون أفضل من حاضره وماضيه، ولا أن يتوقع المواطن بأن الحكومة قادرة على حلّ معضلات البلاد المتزايدة، بل هو يتوقع الأسوأ.

لقد عرفنا ما يريده المواطنون ونخبتهم الإصلاحية، من خلال العرائض العديدة التي قدمت خلال العامين الماضيين. وعرفنا ـ حتى هذه اللحظة ـ أن الحكومة لا تتحرك باتجاه مضامين تلك العرائض. فهي لا تريد الإصلاح، وأعلنت ذلك (عمليّاً)، عبر التضييق على الإصلاحيين واعتقالهم، وعبر التلكؤ في إجراء الإصلاح واتخاذ القرارات بهذا الشأن، وعبر طي الهامش المحدود لحرية التعبير وخاصة حرية الصحافة، وغيرها.. فضلاً عما ظهر ونشر من تصريحات المسؤولين تلميحاً وتصريحاً بأن زمن الإصلاح لم يحن بعد.

ليس هذا هو الخطير فقط، وإنما الأشد خطراً هو أن الحكومة تتحرك بلا استراتيجية، وبلا خطط بعيدة المدى، وبلا دراسات وأبحاث.. والمؤلم أن فهم محتوى الإصلاح بين المواطن والمسؤول متعارض الى حدّ كبير. فكلمة الإصلاح عند المواطنين تختلف عنها لدى وزير الداخلية، وما يراه المواطن إصلاحاً يراه المسؤول تخريباً، وما يعتقد أنه حق قانوني وشرعي للمواطن، هو تهمة عند المسؤول. بكلمة أخرى، هناك تباعد خطير حتى على مستوى الفهم، وليس فقط على مستوى المصالح والنفسيات.

وحين نقول بأن الحكومة فقدت تواصلها مع جمهورها، فإننا لا نعني بذلك أنها لم تعد تحسّ بحجم الغليان والألم والإحباط الداخلي فحسب، ولا نعني أنها تصادم جمهورها في تطلعاته ورغباته التي لا تسعى لتحقيقها أو التخفيف منها فحسب، وإنما نعني أيضاً أن مجمل الأداء الحكومي غير مبني على أسس صلبة من المعلوماتية والبحثية الإستراتيجية، وهذا ما يزيد من تعميق الأزمة ويبعدها عن الحلّ.

لا توجد في المملكة مراكز أبحاث سياسية أو اجتماعية، والقرارات تتخذ كردود أفعال أكثر منها وفق خطط سواء كانت قصيرة المدى أو بعيدة. وهذه القرارات لا تدرك حجم التغيير في المجتمع السعودي، والإضطراب النفسي والذهني الذي يعاني منه. لم يعد المجتمع السعودي مجتمعاً (ساكناً) (مستقراً) كما كان قبل بضعة عقود. ففي الماضي لم يكن الأفراد يخرجون من ديارهم في دائرة قطرها 25 ميلاً، وبعضهم لم يغادر موطنه حتى في دائرة قطرها خمسة أميال. في حين تبدلت اليوم الأجيال وتطورت وسائل النقل، وانتقل السكان من مكان لآخر، وجاءت كل جنسيات العالم للسعودية للعمل، في حين تطرد البلاد ملايين من أبنائها في فترة الصيف، والإجازات.

المجتمع الذي كانت تحتكر ذهنيته (إذاعة) الحكومة، ولا تصل اليه جريدتها، ولا تلفازها.. أصبح يتلقى دفقاً من المعلومات المتنوعة عبر الهاتف والإنترنت والقنوات الفضائية، بحيث لم يعد قادراً على حمل تبعات ما يسمع وما يدرك فضلاً عمّا تولّده المعلومات من رغبات وترسم من تصورات وتدغدغ من مشاعر، وتثير من إضطراب.

لازال المسؤولون ـ الأمنيون خاصة ـ يتعاطون مع المجتمع بأدواته القديمة، وبمفاهيمه القديمة، وبالسياسات القديمة والوجوه القديمة. ناسين أنهم يحكمون مجتمعاً سريع التغيّر والتبدّل، في الذهنية والنفسية والرغائب والطموحات. ويكفي أن ننظر الى شاشة التلفزيون الرسمي، لندرك حجم الفارق بين ما نشهده على الأرض من أحداث، وبين الخطاب الحكومي الموجه والفاشل الذي يتعاطى مع المجتمع السعودي كوحدة واحدة ـ وهو ليس كذلك ـ والذي يتعاطى معه وكأنه معزول عن العالم، وكأن لا خطاب آخر ولا رؤية أخرى موجودة لا تنافس الرسمي فحسب بل وتقوم بتهشيمه.

مصيبة المملكة أكبر من أن تحلّها عصا أمنية غبيّة، وعقول متحجّرة، ووجوه عفا عليها الزمن، وخطاب مشلول.

ليس بهذا تنهض المملكة من كبوتها، وهي لن تنهض، ولن تجاري حتى المشيخات الصغيرة في أطراف الجزيرة العربية، والتي ينظر لها المسؤولون بترفع واحتقار، ينمّ عن أنهم مازالوا لم يستوعبوا دروس السياسة التمهيدية.

إذا كان هذا التحليل مخطئاً، فالأيام ستكشف خطأه!

وإن غداً لناظره قريب.