العدد  18 يوليو 2004

 

 السعـوديـة.. المملـكـة المنهـوبـة

عندما يكون النفط أرخص من الماء

 سعيد الشهابي

 سعر برميل النفط كان يجب أن يصل الى ثمانين دولاراً، ومقابل كل دولار للمنتج يربح الغربيون نحو اربعة دولارات. السؤال لماذا بقيت أسعار النفط رخيصة أقل من سعر الماء؟ ولماذا استجابت السعودية للطلبات الغربية بخفض أسعار النفط عبر زيادة الإنتاج النفطي رغم أنها تعاني من مشاكل اقتصادية متفاقمة أثرت على أوضاعها السياسية؟

 ربما كان للاعمال الارهابية التي تحدث في السعودية دور في رفع اسعار النفط في الفترة الاخيرة، ولكن عوامل اخرى كانت ستؤدي حتما الى هذا الارتفاع عاجلا ام آجلا.  وقد أعطت وسائل الاعلام اهمية خاصة لتصريحات نسبت الى عبد العزيز المقرن، الناطق المزعوم باسم القاعدة في المملكة العربية السعودية يتباهى فيها بان هجوم الخبر الاخير الذي أدى الى مقتل اكثر من عشرين شخصا، دفع  سعر البرميل الى تجاوز الـ 40 دولارا للمرة الاولى منذ عشرين عاما. كما اشارت وسائل اعلامية غربية أخرى الى مقولة لأسامة بن لادن مفادها انه (لم تحدث جريمة سرقة لأمة كجريمة سرقة الثروة النفطية في العالم العربي) التي تباع بأزهد الاثمان وتبذر عائداتها على مشاريع لا طائل في اغلبها. هذا التركيز على دور القاعدة في زيادة اسعار النفط  ليس  بريئا، بل ربما يطرح كمبرر آخر للضغط على الرأي العام الغربي بضرورة مواصلة ما سمي (الحرب على الارهاب) وهي حرب يتفق المراقبون على انها ربما أدت الى تكريس الظاهرة وتصعيدها بدلا من القضاء عليها او حتى الحد منها. فالنفط اصبح عصب الحياة الاقتصادية في العالم كله، وبدونه تتوقف آلة التصنيع في كافة انحاء الارض، اذ فشلت محاولات البحث عن بدائل عملية على نطاق واسع حتى الآن. وبالاضافة الى تشغيل المصانع التي اصبحت احد مصادر الدخل الاساسية  للدول الصناعية، فقد اصبح النفط مصدرا مهما للخزينات الغربية. وثمة حقائق لا يدركها الكثيرون لان وسائل الاعلام تتجاهلها بشكل متعمد نظرا لاهميتها وخطورتها. ففي مقابل كل دولار نفطي تستلمه الدول المصدرة مثل السعودية، تستفيد الخزينة البريطانية ثلاثة دولارات بشكل مباشر من الضرائب التي تصاعدت في ربع القرن الماضي بنسبة 60 بالمائة على الاقل. ولم يكن ذلك ليتحقق لولا الضغوط السياسية الهائلة على  الدول المنتجة للنفط خصوصا المملكة العربية السعودية التي اصبحت المنتج المتأرجح المسؤولة عن ضخ المزيد من النفط لسد اي نقص في انتاج دول منظمة الدول المصدرة للنفط (اوبك).

ماذا يعني ذلك؟ في مطلع الثمانينات كان سعر البرميل حوالي 40 دولارا، فتواصلت الضغوط لخفضه بدلا مما تقتضيه  القوانين الاقتصادية من صعود متواصل لأسعار ا لسلع. السعر الحقيقي للنفط، فيما لو ترك لقوى السوق بدون اي تدخلات سياسية، كان سيرتفع بشكل مضطرد على الاقل بمعدلات التضخم العالمية، ولنفترض ان ذلك بحدود 3  الى 5 بالمائة سنويا. هذا يعني ان سعره الطبيعي الآن كان سيصل الى قرابة الـ 80 دولارا، وكان ذلك سيعتبر سعرا طبيعيا لانه حدث بالتدريج. ولكن الضغوط الغربية على اوبك اوقف هذه الزيادة، بينما استمر سعر بيع البنزين في محطات تزويد الوقود المحلية في تصاعد مستمر. ويبلغ سعر ليتر النفط اليوم عشرة اضعاف ما كان عليه في مطلع الثمانينات، فكيف تم هذا الارتفاع مع هبوط اسعار النفط الخام؟  هنا تكمن حقيقة ما تمت الاشارة اليه بان مدخولات الخزينات المالية الغربية هي التي استفادت من هبوط اسعار النفط الخام، وذلك يزيادة الضرائب المفروضة على هذه السلعة بشكل متواصل يصل الى اكثر من عشرة بالمائة سنويا. فلو سمح لقوى السوق الحرة وقوانينها في التحكم بأسعار النفط الخام، لكان السعر الحالي للبنزين يمثل في اغلبه دخلا مباشرا للدول المصدرة للنفط، بينما تم تجميد مدخولات هذه الدول بسبب الضغوط ا لمتواصلة، وفرضت ضرائب متصاعدة ادت الى تصاعد مدخولات الدول الغربية في شكل ضرائب مباشرة.  بمعنى ان الخزينة البريطانية مثلا اصبحت تحصل من كل دولار يدفعه المستهلكون البريطانيون من النفط ثلاثة ارباعه، ويتوزع الربع الباقي على الدول المصدرة وشركات التكرير والشحن والتوزيع. هذه حقيقة مرة، ولا يمكن وصفها الا بالسرقة المباشرة لأموال الدول النفطية. يتم هذا بعلم حكومات الدول المصدرة والمستوردة للنفط، وبدون علم شعوبها.

ولذلك، فعندما قفزت اسعار النفط خلال الاثني عشر شهرا الاخيرة، عادت الدول الغربية، خصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا، لممارسة كافة اشكال الضغوط على الدول المصدرة للنفط لضخ المزيد من النفط لخفض الاسعار التي تمثل، كما تمت الاشارة، أقل من ربع السعر الذي يدفعه المستهلك. اما الارباع الثلاثة التي تدخل خزينات هذه الدول في شكل ضرائب، فلم تمارس اية ضغوط لخفضها.  فسعر الليتر الآن في بريطانيا هو بحدود 84  بنسا، منها 60 بنسا ضرائب تذهب للخزينة، و 19 بنسا لشراء النفط، و ثلاثة بنسات لمحطات البيع، وبنس واحد للشحن وبنس واحد كفوائد للشركات النفطية.  ويلاحظ هنا ان الضغوط تمارس  على الدول المصدرة لخفض نصيبها البالغ 19 بنسا فقط، بينما لا توجه الضغوط لحكومات الدول الغربية لخفض الضرائب التي تبلغ 60 بنسا تستلبها مباشرة بدون تعب او نصب. وتقول التقارير ان وزير الخزينة البريطاني، جوردون براون، قضى وقتا طويلا قبيل انعقاد مؤتمر اوبك الاخير  في بيروت الاسبوع الماضي على الهاتف مع نظرائه في الدول النفطية للضغط عليهم لزيادة الانتاج. وكذلك فعل الرئيس بوش مع زعماء تلك الدول. المنطق الذي يستعمل هنا يتمثل بتبرير ضرورة خفض اسعار النفط الخام للحفاظ على توازن الاقتصاد العالمي، وهي مقولة مبهمة تطلق بدون تفسيرات او تبريرات مدعومة بالارقام. فالتوازن الاقتصادي لا يتحقق، وفق هذه المقولات، الا باستلاب النفط بأسعار زهيدة جدا، مع زيادة  الضرائب  التي تفرضها الخزينات المالية للدول المنتجة.

يعترف المستهلكون للبنزين بان سعره أقل من سعر الماء والكوكاكولا. فقنينة الماء الفرنسي (بيرييه) ذات الليتر الواحد  تباع في المحلات العادية بأكثر من جنيه، ومشروب الكوكاكولا (ثلث ليتر) بنصف جنيه، بينما الليتر من البنزين يباع بـ 84 بنسا، مع كون تلك المنتجات غير ضرورية نظرا لوجود البدائل لها.  ويقول بعض المنصفين منهم بان سعر البنزين حتى بعد الارتفاع ما يزال ارخص من السلع الاخرى الاقل اهمية. أليس في ذلك نهب مكشوف؟ المشكلة ان هناك حالة من الضعف السياسي في انظمة الحكم بدول اوبك تجعلها عرضة للضغوط السياسية بعناوين اخرى وذرائع مختلفة. وتمثل السعودية المثل الاوضح لهذه الحالة. فهي الدولة الاقدر على الانتاج النفطي الاكبر، وبامكانها زيادة انتاجها بدون جهود كبيرة، ولذلك تتعرض للضغط المستمر من قبل الولايات المتحدة لزيادة الانتاج بهدف خفض الاسعار. واذا لم تستجب لذلك فتحت ملفاتها الاخرى في مجال انتهاكات حقوق الانسان والديمقراطية. ان هناك عملية ابتزاز واضحة للدولة السعودية التي تعاني من مشاكل داخلية غير قليلة. وتشعر العائلة السعودية المالكة انها اصبحت في وضع حرج جدا تسعى لتفاديه  بأقل الخسائر. فهي من جهة مطالبة من الولايات المتحدة بزيادة انتاج النفط، في الوقت الدي اصبحت مستهدفة من قبل تنظيم (القاعدة( والمجموعات المتطرفة بسبب خضوعها للضغوط الامريكية والعلاقات الخاصة مع واشنطن. وفي الوقت نفسه تواجه موجة متصاعدة من المطالبة الشعبية بحقوق سياسية طالما تجاوزتها بسياسة الانفاق الهائل في اطار سياسة احتواء المشاعر ومحاصرة التطلعات السياسية للقوى الاجتماعية التي تزداد وعيا على العالم ورغبة في الحرية والاصلاح السياسي. وكانت المدخولات النفطية في السبعينات والثمانينات وسيلة لاسكات الاصوات المعارضة، اما اليوم فحكام السعودية يشعرون ان خزينتهم قد استنفذت اما بالحروب المتواصلة التي فرض عليها دفع بعض اقساطها، او بانخفاض عائدات النفط بسبب تدني اسعاره، في الوقت الذي تضاعف عدد سكان المملكة في العشرين عاما الماضية وازدادت الحاجة للمزيد من الدخل غير المتوفر حاليا. والضغوط الامريكية تزيد من ازمة المملكة اقتصاديا وسياسيا. فخفض الاسعار يؤدي الى تآكل العائدات وبالتالي عدم القدرة على الانفاق، الامر الذي ينعكس سلبا في شكل توترات سياسية، بينما يؤدي عدم الانصياع لمطالب واشنطن لابتزاز يتمثل باتهام المملكة في التقاعس في الحرب ضد الارهاب، ومطالبتها بالتصدي للمجموعات الاسلامية السلفية، في الوقت الذي تفتح فيه ملفات حقوق الانسان والديمقراطية. وفي الاسبوع الماضي تكررت الادعاءات من بعض الدوائر الامريكية بان السعودية غير متعاونة في مجال مكافحة الارهاب، وطلب منها على الفور تجميد ارصدة مجموعات اسلامية جديدة. هذه الخطوات توفر المزيد من الوقود لتلك المجموعات لاستهداف النظام السعودي. وهكذا تصبح العلاقة مع الولايات المتحدة مصدر اضطراب وتوتر دائمين، ولا تجدي الحكام على المدى البعيد لانها تفصلهم عن مواطنيهم وتجعلهم اكثر اعتمادا على الدعم الغربي غير المضمون.

ازمة ارتفاع اسعار النفط في العالم الغربي تعكس مشكلة اخرى تتمثل بتراجع الاقتصادات الامريكية والبريطانية، برغم ما يبدو من قوتها. فالانفاق العسكري الهائل لانجاح ما سمي (الحرب ضد الارهاب) اصبح مصدر استنزاف متواصل للخزائن المالية، وارتفاع اسعار النفط من شأنه ان يؤدي الى كساد اقتصادي خطير خصوصا ان كلا من جورج بوش وتوني بلير اصبحا على ابواب انتخابات رئاسية وبرلمانية في نهاية هذا العام والنصف الاول من العام المقبل، وكلاهما يعانيان من تدني شعبيتهما بسبب الحرب في العراق. هذا في الوقت الذي تشهد فيه دول اخرى نموا اقتصاديا كبيرا يتيج مجالا واسعا لها لمنافسة الاقتصادات الغربية. وتمثل الصين بشكل خاص حالة متميزة من النمو الاقتصادي المتواصل. وتتبعها الهند التي شهدت في السنوات الاخيرة  انتقال الكثير من خدمات الشركات المتعددة الجنسية الى اراضيها بسبب انخفاض تكلفة الايدي العاملة. هذا النمو الاقتصادي ادى الى المزيد من الطلب على النفط، الامر الذي ساهم في رفع اسعاره. ولذلك جاءت الضغوط على منظمة اوبك لزيادة الانتاج كمحاولة لمنع المزيد من التداعي الاقتصادي، خصوصا مع اقتراب موعد قمة الدول الصناعية التي تعقد هذه الايام في جورجيا بالولايات المتحدة الامريكية. وفيما تناقش القمة مشروع الشرق الا وسط الكبير، تتوجه الانظار لما يمكن ان يتمخض عنها خصوصا في الجانب الاقتصادي والموقف من القضية النفطية وتداعياتها على الاقتصاد العالمي. ولا شك ان جورج بوش وتوني بلير قد ذهبا الى القمة مستبشرين بتراجع الازمة النفطية، خصوصا بعد ان قررت اوبك رفع سقف انتاجها مليوني برميل يضاف اليها نصف مليون برميل في مطلع اغسطس المقبل. هذا القرار الذي كان يفترض ان يبدأ تنفيذه في بداية الشهر المقبل، من شأنه ان يضغط على الاسعار باتجاه الانخفاض، ولكن يبدو ان السوق النفطية ما تزال مضطربة وغير مقتنعة بان خطوة اوبك سوف تؤدي الى خفض حقيقي في الاسعار. المشكلة ان سلعة النفط عوملت بطريقة خارجة عن قيم التجارة الحرة وقوى السوق، وأخضعت لقرارات سياسية يتخذها زعماء الدول تحت الاكراه، ولا تراعي ظروف الدول النفطية، الامر الذي يزيد من تعقيدات الوضع. بل ان الانضمام الى منظمة التجارة العالمية اصبح خاضعا للقرار الامريكي الذي اصبح يساوم الدول النفطية بشكل مفضوح لكي تزيد الانتاج.

وثمة مشاكل اخرى تواجه اوبك، منها غياب التوازن الذي كان سائدا قبل تساقط انظمة بعض الدول الاعضاء تحت الضغوط الامريكية مثل ليبيا والعراق والجزائر، بعد ان كانت من (صقور) المنظمة بالاضافة الى ايران وتشيلي. ومنها تراجع حصتها من السوق النفطية اذ لم تعد تتجاوز الـ 40 بالمائة، بينما تفضل دول اخرى مثل مصر البقاء خارج الكارتل النفطي ولا تريد الالتزام بنظام الحصص، الامر الذي يضعف المنظمة ويجعل نجاح قراراتها خصوصا في ما يتعلق بموضوع الحصص خاضعا للدول غير الاعضاء. وتعاني ايضا من عدم التزام اعضائها بالحصص المقررة لها، وبتصرفات بعض اعضائها عندما تخضع لضغوط امريكية تطالبها يزيادة الانتاج. وهنا تكمن مشكلة ازدواجية الموقف بين الالتزام بقرارات المنظمة والخضوع للضغوط الخارجية. وربما آن الاوان لاعادة النظر في منطلقات المنظمة وجدواها ومدى استقلالهاا  في ضوء المحاولات المتواصلة لاخضاعها للاعتبارات السياسية والضغوط الخارجية. النفط هذه السلعة الاستراتيجية المتميزة، اصبحت عنوانا لمشكلات وازمات، عنوانها اخضاعها للاعتبارات السياسية وتجاهل قوى السوق والتجارة الحرة، وفوق كل ذلك، عدم اخضاعها لقوانين المحافظة عليها وعدم تبذيرها والتفريط بها عبر زيادة الانتاج بمعدلات مفروضة من القوى الكبرى بعيدا عن مصالح الشعوب والحكومات. واذا كان استلاب نفط السعودية وبقية دول الخليج بالشكل الذي حدث عنوانا لظلامة أمة، فان هذه الظلامة بدأت تتعمق بمد اليد الانجلو- أمريكية للنفط العراقي، الذي كان أهم الدوافع، في نظر الكثيرين، لاحتلال العراق.

القدس العربي 9/6/2004