العدد 17 يونيو 2004

 وكيل وزارة الاعلام ومدير وكالة (واس) الردادي

منـجـل مكسـور.. وفـي موسـم القحـط أيضا!

 منصور الحسين 

 نشرت جريدة عكاظ في تاريخ 31 مايو 2004 بعنوان (أبورغال وابن العلقمي والجلبي) للدكتور عائض الردادي، مدير وكالة الانباء السعودية، ووكيل وزارة الاعلام. وكما يبدو واضحاً فإن الجامع المشترك بين الاسماء الواردة في عنوان المقالة هو الخيانة.. وليست أي نوع من الخيانة، بل الخيانة الكبرى!!

لقد ردّد الردادي ما تروّج له الادبيات الطائفية بضلوع العلقمي (الشيعي) بمؤامرة اسقاط الخلافة العباسية (السنية)، واسقاط هذا المحدث التاريخي على ضلوع أحمد الجلبي (الشيعي) في مؤامرة إسقاط نظام صدام حسين في العراق في التاسع من مارس من العام الماضي، والتي وجد فيها الردادي ما يصلح لاثراء المخيال الشعبي عبر تحقيق ربط مفتعل بين ضلوعين إفتراضيين: ضلوع الوزير مؤيد الدين العلقمي وضلوع الدكتور احمد الجلبي في عملية تواطىء مع قوات غازية جاءت للاطاحة السياسية والحضارية بالدولة الاسلامية! والتي كانت تتخذ من بغداد عاصمة لها.

فقد أنِسَ الردادي لما يمكن وصفه بـ (القواسم المعدّلة) في البنية الروائية التاريخية، حين سمح لفرضية الخيانة أن توجّّه سير الرواية التاريخية وتعيد تركيبها بما يضع الشخصيات المرشّحة للعب دور الخيانة على خط سواء.. ولكن!!

أن لا يكون الردادي مؤرخاً بارعاً فذاك ما لا يعاب فيه عليه، فقد أخفق كثير من المؤدلجين في نيل شهادة المؤرخ، ولكن يظهر الردادي كبعض المفتونين بالعثور على المتشابهات في التاريخ، بأنه قارىء ردىء للتاريخ وبخاصة لتاريخ المسلمين.. فقراؤته تنبىء عن أنه قرأ تاريخاً لم يقع! بل هو التاريخ المتوّهم، أو التاريخ الثاني، أو التاريخ الذي نرجو أحياناً وقوعه، كونه يلبي غرائز حاضر لم يزل يطعمنا من أطباق الهزيمة.

سأبدأ من حيث وضع الردادي قدمه العاثرة في حقل التاريخ، وتوهّم بأن خط سيره سيقوده الى الخروج بتلك الحياكة المتقنة بإحكام لرواية يأمل كثيرون بأنها وقعت بالفعل.

ما يجهله الرادادي وكثير من المتطيفين أن الخلافة العباسية في أواخر عهدها كانت شيعية، وتحديداً منذ تولي الخليفة العباسي الناصر لدين الله سنة 575هـ واستمر حتى 622هـ. فقد اعتنق الخليفة التشيع ووضع حداً لتسلط السلاجقة على الخلافة، وقد استمر الوضع حتى نهاية الدولة العباسية.

ثم تولى من بعده المستنصر بالله عام 622 وقد عرف بعدله وتقواه حتى أن ابن الطقطقي في كتابه (الفخري في الاداب السلطانية والدول الاسلامية) أشاد به قائلاً (ولو قيل أنه لم يكن في خلفاء بني العباس مثله لصدق القول). ونلحظ خلال هذه الفترة بأن الشيعة تسنموا مناصب سياسية رفيعة ومنهم مؤيد الدين محمد بن أحمد العلقمي (ت 656) الذي تولى منصب الوزارة، أي رئيس الوزراء بحسب الرتب السياسية الحالية. كما حظي فيها الشيعة باحترام وتقدير الخليفة والديوان، وتوثّقت العلاقة بين الخليفة وعلماء الشيعة حتى ان الاول سعى جاهداً الى إدماج الفقهاء الشيعة في جهاز الدولة، وجرت محاولات عديدة قام بها المستنصر لاقناع الفقيه الشيعي البارز ابن طاوس لتولي منصب الافتاء والوزارة الا أنه رفض بناء على عقيدته الامامية في غصبية دولة غير الامام، رغم دعاء ابن طاوس للخليفة المستنصر واحترامه له..

وبعد وفاة المستنصر تولى المستعصم بالله سنة 640 هـ وقد وصف بأنه (مستضعف الرأي، ضعيف البطش، قليل الخبرة بأمور المملكة، مطموعاً فيه غير مهيب في النفوس، ولا مطلع على حقائق الأمور.. وكان زمانه ينقضي أكثره بسماع الأغاني والتفرج على المساخرة..)، وفوق ذلك كان خاضعاً تحت تأثير الحاشية المحيطة به (فكان أصحابة مستولين عليه وكلّهم جهّال من أراذل العوام، الا وزيره مؤيد الدين محمد بن العلقمي فإنه كان من أعيان الناس، وعقلاء الرجال، وكان مكفوف اليد مردود القول، يترقب العزل والقبض صباح مساء).

وقد اختلت في عهد المستعصم الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدولة العباسية، وكان عهده على حد أمير علي في (مختصر تاريخ العرب): (سجلاً متواصلاً من الفوضى والاضطراب في الداخل والمصائب والولايات في الخارج..). فكان طبيعياً ان تترك الاوضاع الداخلية المختلّة آثارها على مظهر الدولة الخارجي، فالضعف الذي أصاب الخلافة العباسية في عهد المستعصم تزامن مع تهديدات خارجية خطيرة للغاية.. والانكى أن الخليفة الذي وصلته أنباء زحف الجيوش المغولية بقيادة هولاكو ناحية بغداد قابل التهديدات بالانكار والاهمال (فلم يحرّك ذلك منه عزماً ولا نبّه منه همة ولا أحدث عنده همّاً، وكان كلما سمع عن السلطان هولاكو من الاحتياط والاستعداد شيء، ظهر من الخليفة نقيضه من التفريط والاهمال) كما يقول ابن الطقطقي وأيدّه ابن الفوطي الحنبلي في (الحوادث الجامعة) في قصة الخلاف بين العلقمي وقائد الجيش الدويدار الصغير. وما زاد الامر خطورة أن الخليفة العباسي في رد فعل على تدفق سرايا التتار على ثغور الدولة أصدر أمراً بتسريح جنوده للاشتغال في التجارة والزراعة (راجع أمير علي).

ويذكر ابن الطقطقي بأن وزيره العلقمي ظل يبالغ في تنبيه الخليفة لخطورة ما يجري على الثغور ويناشده بالاستعداد واعلان التعبئة العامة، فيما لعب بعض المستشارين دوراً خطيراً للتقليل من شأن تهديدات المغول وثني الخليفة عن القيام بمهام الردع والدفاع عن حريم الخلافة لجهة النيل من وزيره العلقمي واتهامه بالتآمر بأنه حسبما نقل ابن الطقطقي عنهم (إنما يعظم هذا لينفق سوقه ولتبرز اليه الاموال ليجند بها العساكر فيقتطع منها لنفسه..).

وقد ساءت أحوال الخلافة وأخفق المستعصم في التعامل بذكاء مع تهديدات المغول الذين أرسلوا الوفود الى بغداد للتفاوض مع الخليفة، ولكن حاشيته قابلت الوفود بسخرية واستهزاء مما أثار غضب هولاكو الذي كان على أهبة اقتحام بغداد وتحطيم عرش الخلافة الذي كان يتسمنه خليفة مثير للشفقة، فقد دخلت جيوش التتر بغداد وقامت بعملية محو شاملة للانسان والتراث والكرامة، ويعلق أمير علي (وهكذا فقدت الانسانية تلك الكنوز التي تجمعت خلال خمسة قرون وفنيت زهرة الأمة فناءً تاماً). وفي سنة 656 انهارت الخلافة العباسية بعد أن قتل التتار الخليفة العباسي المستعصم وعدداً كبيراً من أفراد عائلته فيما راح نحو 800 ألف نسمة ضحية الهجمات الوحشية التترية على بغداد وحدها..

إن ما يقال عن دور خفي لابن العلقمي في الحرب التترية على الخلافة العباسية يخفي قائمة الفضائح الشنيعة في جهاز الخلافة السياسي والعسكري.. إن تحميل العلقمي مسؤولية الهزيمة قبل مناقشة أي دور له فيها يمثل محاولة بائسة لاسدال ستار سميك على سجّل من الاخطاء الكارثية في السياسة العباسية خلال تلك الفترة، والتي كانت مسؤولة بصورة مباشرة عن توفير ظروف الهزيمة.. إن واحدة من الجوانب التي لم يجهد كثير من الباحثين النظر فيها هو دور قائد الجيش مجاهد الدين الدويدار الصغير الشركي، الذي كان يقوم بدور مضاد لمهمته كمسؤول عن حراسة ثغور الدولة وحدودها، فكان مبلغ همه التقليل من شأن التهديدات التترية، وحرف انتباه الخليفة عن خطر الاجتياح المغولي..

ولعل الخطأ الآخر القاتل كان افتقار الخليفة أو حاشيته المقرّبة لأصول العمل السياسي والدبلوماسي، حين سمحت للرعاع بالنيل من أفراد الوفد الذي بعثه هولاكو للخليفة وعرّضه للاهانة خلال مغادرته العاصمة بغداد، وهذا ما أشعل غضب هولاكو، حيث وجّه قواته لقصف بغداد بالمنجنيق وأمطروها بالحجارة والشهب النارية، وفرضت الجيوش الغازية حصاراً حول بغداد أفضت الى رضوخ الخليفة وقبوله بمبدأ التفاوض، ولكن جاء ذلك القبول متأخراً فقد ذهبت كل دعوات الخليفة للتفاوض أدراج الرياح، سيما وقد وصلت الاوضاع الى حافة النهاية وقرر هولاكو اغلاق طرق الدبلوماسية والتفاوض..

إن استراتيجية الارض المحروقة التي إتبعها هولاكو في اجتياح بغداد كانت من الشراسة الى حد دفعت من تمكن من الخروج من محرقة الحرب سالماً طلب النجاة والهرب الى البطائح والنزوح الى القرى والارياف بعيداً عن بغداد التي تحوّلت الى  مكان لا يطاق. وكانت محاولات أخيرة من جانب الخليفة وجهازه السياسي بقيادة ابن العلقمي للحيلولة دون إقدام هولاكو على إرتكاب مجزرة في بغداد والقضاء على الخليفة وعائلته والطاقم السياسي في الخلافة العباسية، ولكن يبدو أن تلك المحاولات جاءت متأخرة بعد أن ظهر الاختلال في ميزان القوى العسكري وصار هولاكو يمتلك أوراق اللعبة بكاملها، أي بعد أن أصبح على مشارف بغداد، إذ لم يكن هناك ما يدفع هولاكو للقبول بمبدأ التفاوض، لأنه لم يكن بحاجة اليه فقد بدت علامات الانتصار شاخصة أمامه، كيف وأن أعمده الخلافة العباسية تتهاوى تباعاً..

إن الذين يبتغون سبيل التحليل المريح يلجأون الى تحميل شخص ما مسؤولية هزيمة ذات أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية عميقة، لأنهم تربّوا على ثقافة البعد الواحد، فهي تغذي على الواحدية في الحكم، والحرب والانتصار والهزيمة، فمن يحكمنا هو واحد ومن يتسبب في انتصارنا وهزيمتنا هو أيضاً واحد، أليس كذلك؟

إن التاريخ الذي يعيد نفسه هو ذلك الذي يسير وفق سنن التاريخ، ولكنه بالقطع لايعيد نفسه حين يراد منا تصديق روايات مفبركة من التاريخ الثاني، الذي لم يقع. فلم تكن خيانة العلقمي المزعومة طلباً للمنصب كما يتوهم الردادي لأن الرجل كان رئيس وزراء في عهد ثلاثة خلفاء عباسيين، وأن تسنمه لمناصب الوزارة في عهد التتر كان مطلوباً لغيره لا لذاته، فقد إعتنق المغول الاسلام على المذهب الشيعي الامامي وبالتالي فإن المعايير الدينية لا يجب استعمالها هنا حتى لا يقع الردادي في المحذور، ولكن ليجعل النقاش مفتوحاً على المعايير السياسية التي توفّر له فرصة تجريح او تصحيح الحكم التتري، وما إذا كان عادلاً أم جائراً. 

إن الحديث عن إهانة العلقمي على يد المغول هي تزكية له وأن كون أطفال بغداد كانوا يرجمونه بالحجارة إذا مر على حماره فقد أكفتنا مصادر القوم وما تحمل من غث عن تحليل رواية متهافتة كهذه، ولعل تعارضها مع سابقتها تكفيها الاشارة البليغة، فضلاً عن أن العلقمي كان سيداً في قومه، ولم يكن بحاجة الى منصب كان قد تسنمه لمدد عديدة.

وما يقال عن العلقمي يقال أيضاً عن الجلبي الذي لم تكن الولايات المتحدة وقيادة قواتها بحاجة الى نصائحه من أجل إصدار قرار الحرب، وليس بأمريكا القوة العظمى في العالم التي تضع استراتيجاتها بعيدة المدى وفق تقارير صدرت عن الجلبي او يلوذ به أو ينتمي اليه، مهملة دور وكالة استخباراتها ومؤسساتها البحثية ومراكز دراساتها وتقارير حكومات الدول الحليفة لها، لتقع تحت تأثير معلومات شخص او عدة أشخاص.. إن ذلك من السذاجة السياسية التي يتمتع! بها بعض المحللين المسكونين بنظرية المؤامرة والتاريخ القدري. إن قرار الحرب بخلاف ما تصوّره الرواية الواهمة لدى الردادي تم إتخاذه منذ سنوات بعيدة، وأن النظام العراقي الذي دعمته الولايات المتحدة بكل انواع السلاح خلال حربه مع ايران طيلة ثماني سنوات وشاركه قادتها في مصاهرة سياسية واقتصادية قبل استدراجه الى فخ احتلال الكويت في الثاني من آب 1990 لم يكن بحاجة الى معلومات معارض في المنفى كانت ترفض مشروعه السياسي حين سقطت 14 محافظة في انتفاضة 1991 التي اندلعت في البصرة وامتدت الى كركوك، وكادت ان تنتهي بسقوط الصنم، قبل أن تمنح القوات الاميركية كافة التسهيلات الضرورية للجيش الجمهوري بالعودة سالماً من جبهات الحرب كيما يعوّض هزيمته النكراء باستعمال أبشع وسائل القتل والتصفية والتدمير ضد الشعب العراقي.

لم يكن صدام حسين نموذج الحاكم الوطني الذي أفنى حياته من أجل استقلال الامة، أو حقق نجاحاً منقطع النظير في برامج التنمية الشاملة، أو أقام حكماً عادلاً ديمقراطياً حتى يقال عن الجلبي او غيره بأنهم حرَّضوا الجيوش الاجنبية على حرب العراق والاطاحة بالدولة ـ النموذج التي يستحق زوالها الندب والحسرة، كما هو حال أغلب الحكام العرب قاطبة، الذين يمثلون نسخاً مكررة من أصل نتمنى لو ينقطع من جذره.. نتمنى ان تولّد الامة خونة بعدد الدول العربية كيما يطيحون بباقي الاصنمة بحسب رواية الردادي، بعد أن عجزت القوى الوطنية عن اقناع هذه الانظمة بخيار الاصلاح حلاً لأزمة الدولة في عالمنا المشرقي.

من المثير للسخرية أن يبدأ وعي الردادي للتاريخ المعاصر كما التاريخ الغابر من نقاط طرفية بالكاد تسند مدعيات واهمة. فهو في الوقت الذي يهمل ذكر سيرة الاستبداد والفساد الاداري والسياسي في نظام صدام حسين، حتى بعد الافتضاح السافر والمهين لسيرته المخزية، يسلط ضوءا كثيفاً للغاية على فرضية الخيانة من قبل الجلبي. ومن الغريب أن تطمر ذاكرة الردادي فرضية الخيانة ولا توقظ فيه المقابر الجماعية، والاوضاع المعيشية والعمرانية البائسة التي كشفت عنها مشاهد العراق الحضاري جداً في عهد صدام حسين. ومن بالغ السخرية أن يتحدث الردادي عن خيانة في مقابل حكومات يكاد الشريف فيها يقول خذوني!

 الردادي والطائفية النتنة

لم يكن التنضيد التاريخي الذي مكّن الردادي من استدعاء نموذج العلقمي كيما يتطابق زعماً مع نموذج الجلبي مجرد قراءة منطقية للتاريخ أو عملية استقراء لتجارب مشابهة يكون فيها ابن رغال والعلقمي والجلبي نماذج صالحة لتفسير سلوك بعض الفئات أو الافراد.. في حقيقة الأمر، أن مقالة الردادي تمثل نموذجاً للطرح الطائفي البغيض، وتنتمي الى قائمة الكتابات التي تستمد قوتها من التفسير الطائفي للتاريخ، وتالياً فهي تقدّم خدمة جليلة للمولعين بتقسيم الامة الى شيع وطوائف.

في الحقيقة لم يحالف جريدة رزينة مثل (عكاظ) الحظ هذه المرة في نشر مقالة الردادي، الذي تقدّم مادة إضافية ومجانية للمتطيفين، وخصوصاً في وقت تشهد فيها البلاد توترات أمنية شديدة تنذر بانفلات الوضع السياسي والاجتماعي العام، وتتغذى ـ بعضها على الأقل ـ من مقولات كالتي نشرتها عكاظ، والتي تصلح للاستعمال السيء ضد فئة من المواطنين تحت أوهام خادعة، قد تنطوي على نتائج خطيرة.. إن ما يحاول الردادي رميه بلا وازع وطني أو ديني من خلال شحن النفوس ضد شركاء لهم في الوطن، تحت عنوان الخيانة الموهومة، وهو في مقام الكلمة أمانة لهو مشين في حقه وحق المؤسسة الاعلامية التي ينتمي اليها وبعد ذلك الجريدة التي فسحت لمثل هذه المقولات غير المسوؤلة ان تجد طريقها الى النشر.