العدد 17 يونيو 2004

فـي ظـلال العـنـف

المـسـار المـسـدود

  أحبطت حادثة الخبر في التاسع والعشرين من مايو محاولات الحكومة لتبديد المخاوف لدى شركات النفط العالمية التي بدأت تواجه مخاطر جدية موجّهة ضد موظفيها ومشاريعها الاستثمارية في مجالي النفط والغاز.. وقد رجحت كفة التوقّعات التي حملتها تقارير ودراسات أجنبية بأن حقل النفط سيكون الجبهة الأكثر ترشيحاً لمعركة الجماعات المتشددة في هذه الفترة، وقد شككت التقارير في الكفاءة العسكرية لدى الاجهزة الامنية السعودية في مواجهة تحديات بحجم العمليات المنظّمة التي تقوم بها الجماعات المتشددة بصورة متقنة ومنسّقة. وقد نبّهت التقارير الى أن المخاطر الكامنة لا تتكافىء مع الاستعداد لمواجهتها أو إحباطها قبل وقوعها بل قد تكون إحدى الكواشف الجلية عن ضعف الدولة وهشاشتها.

إن تواصل مسلسل حوادث العنف وتصاعدها بوتيرة مثيرة للقلق في مقابل فشل الدولة في إيقاف هذا المسلسل او الخروج بحل حاسم وشامل لمشكلة عميقة الجذور يمثل العنف إحدى الدالاّت عليها والتمظهرات الراديكالية في التعبير عنها، قد أدى الى إنهدام أجزاء كبيرة من مصداقية الدولة، بل أمكن القول بأن الحكومة فقدت شريحة كبيرة من المتعاطفين معها والمساندين لها في مثل هذه الحوادث، وهذا مؤشر خطير على فقدانها الآهلية والجدارة وأخيراً المشروعية.. لا ريب أن الحكومة تدرك تماماً الآن بأنها خسرت قطاعاً من المناصرين لها في معركة العنف، لأنها ضنّت عليهم سابقاً بحل يكفل نجاة الجميع، ولذلك فهناك من بات على قناعة بأن العنف هو مشكلة الحكومة وحدها ولتتكفل هي بحلها، بل هناك من ساقه اعتقاده بخداع الطبقة الحاكمة ومكرها وفسادها الى أن يرى في العنف ظاهرة ضرورية من أجل تصحيح مسار السلطة المعوّج، وتنبيه الدولة الى خيارات الحل الاستراتيجي.

فمنذ منتصف مايو الماضي، قررت الحكومة اغلاق أبواب الحل المنتظر والناجز، أي الاصلاح السياسي كحل حائز على الاجماع الوطني الشعبي وشبه الرسمي، وبذلك سلبت من يدها حلاً كان يمكن أن تحارب بالمؤيدين له ظاهرة العنف والضالعين فيها ومن يديرها ويغذيها مالاً وفكراً ورجالاً، وبقيت منذاك تحارب في معركة مازالت تدلّ كافة المؤشرات على خسارتها الفادحة فيها، رغم الادعاءات المتواصلة على الانتصار!!

لم تكشف مواجهات قوات الامن مع الجماعات المتشددة عن مفاجأة جديدة، وواقع الحال ينبىء عن أن ليس لدى الحكومة حل آخر غير القوة، ولأن الرؤية العامة مندكّة في حيز التفسير التجزيئي للظاهرة العنفية في البلاد، وبالتالي فإن منهجية الحل مستمدة من تشخيص مبتور وجزئي للمشكل الأمني.. ولا غرابة في ذلك، فإن تجزئة المشكلة هي ديدن الحكومة، وأن عملية الفصل بين ظاهرة العنف وجذورها ومصادر تغذيتها، وهكذا صناعة حلول مجزّئة وآنية ليست سوى مكوّناً أساسياً من مكونات السياسات العامة للدولة. تماماً كما هي تجزئة المعركة ضد المشكلات العامة التي تشهدها البلاد كالعنف الآن.. فهناك إصرار شديد على فصل المشكلات عن بعضها والتعامل جزئياً مع المشكلة الأكثر تفجّراً وخطراً على إستقرار السلطة، وفصلها عن جبهات ساخنة تزوّد وبطاقة هائلة المعركة الاصلية، أي العنف، فلماذا لا نسمع عن معركة على جبهات ساخنة مثل البطالة والفساد الاداري وانهيار الخدمات والرعاية الاجتماعية، وهي تمثل مفردات أساسية في عملية اصلاحية شاملة، كما أنها تمثّل مغذّيات غنية للعنف.

إن حوادث العنف تثبت مكرراً ومجدداً بأنها لم تعد حالات معزولة وهامشية أو مقطوعة الجذور الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وإن ألحّت الحكومة وبعناد شديد على تصويرها كذلك، فقد تحوّل العنف الى ظاهرة تدميرية على المستويين الاجتماعي والسياسي، وأن الحل الأمني لم يفشل في التعامل معها فحسب، بل فاقم من الظاهرة وخطورتها، لأن فشله المتكرر منح الجماعات المسلّحة قناعة إضافية وحوافز جديدة على الاستمرار ولعل بيان المجموعة يعكس ذلك.. إن نشوة النصر المؤزر الذي حققه المسلّحون في هذه المعركة (أو الغزوة على حد تعبير البيان)، يغذي غريزة الاقتحام وتصعيد المعارك، لأن الانتصار يولّد انتصاراً آخر أو قناعة بإمكانية حصوله..

إن المؤدى النهائي لتلك الحوادث أن الاخيرة أفضت الى ما يمكن وصفه بـ (تمزّق الهالة)، فقد كشفت الحوادث عن حدود قوة الحكومة وابداعيتها ووسائلها في إبتكار الحلول، وهذا ما يجعل المجموعات المتشددة المسلّحة في مأمن، لعلمها المسبق بالعاقبة أو ردود الفعل المتوقعة من جانب الحكومة، بل الانكى حين تدرك هذه المجموعات حجم قوة الحكومة. فالخشية تقل حين يعلم المرء عاقبة فعله، وحين ينكشف أمامه مصادر التهديد المحيطة به.

من جهة اخرى، أن هذه الحوادث ثبّتت حقيقة جديدة وهي أن البنية الأمنية للدولة غير مؤهلة بدرجة كافية لجبه ومواجهة تحديات من نوع حروب العصابات، أو أحداث عنف كبيرة، وقد أثبتت حادثة الخبر هشاشة هذه البنية، حيث تمكّن المسلّحون بعد مضي أربع وعشرين ساعة على محاصرتهم داخل مجمع الواحة السكني من الافلات من قوات الامن التي كانت تحاصر المبنى بعد أن قتلوا عدداً من الرهائن وخطفوا بعضاً منهم..

لقد أظهرت هذه الحوادث بأن قوات الأمن (دع عنك حراس الأمن في المجمعات التجارية والسكنية) غير مدربة بدرجة كافية وكفوءة، وقد يختفي وراء ذلك ما هو أخطر.. أي انعدام القناعة أو تآكلها بالقيام بواجب الدفاع عن الدولة أو الاحساس بهذا الواجب، تماماً كانعدام أو تبدد الاحساس بواجب الدفاع عن النظام العراقي البائد في معركة بغداد الشهيرة سياسياً وغير الشهيرة عسكرياً.

وتستعيد حادثة الخبر عملية اقتحام الحرم عام 1979 حيث رفض الجنود إقتحام الحرم وخوض مواجهة مسلّحة ضد المعتصمين بداخله، لعدم قناعتهم بهذه المعركة، حتى أن أحد كبار الأمراء رمي بشماغه وعقاله على الأرض غضباً من إحجام الجنود وبعد أن فشل في إقناعهم بجدارة المعركة الامر الذي أدى الى اشراك كتيبة فرنسية لانهاء المعركة.

وهذا يدفع للتأمل طويلاً، فالجندي إنما يندفع نحو المعركة والفداء بالروح محثوثاً بوزاعين:

الاول: الإحساس بجدارة الحكم وأهله.

الثاني: المشاعر الدينية والوطنية العميقة. 

فقد تجد في بعض الحروب من أفنوا أعمارهم فداءً لغايات دينية ووطنية وتلبية لمشاعر داخلية عميقة بالرغم من عدم إيمان هؤلاء الجنود بكفاءة السلطة وأهلها. إن الفارق بين الجندي والموظف يكمن في أن الاخير يعمل للحصول على وظيفة لا تنطوي على مخاطر ولا تتطلب مستوى من التضحية قد يصل الى حد الافناء التام للروح، بل تتضاءل نسبة الخطر والاحساس به الى نقطة قريبة من الصفر، بينما الأمر بالنسبة للجندي مختلف تماماً لأن الوظيفة وإن كانت مؤمّنة فإن الاحساس بالخطر يظل قائماً كما أن التضحية بالروح تمثل إحدى الاحتمالات الكبيرة. ولكن للأسف ان الفاصلة بين الجندي والموظف في بلادنا قد تلاشت الى حد كبير، وتبعاً له تلاشى الاحساس بالتضحية والخطر، وهذا يمثل إحدى الفوارق الجوهرية بين أفراد الجماعات المتشددة وعناصر القوات الامنية، فهؤلاء الافراد يحملون رسالة دينية وغايات كبرى كتطهير الجزيرة العربية من الكفار والمشركين وهم على إستعداد للتضحية بأرواحهم من اجل تحقيق تلك الغايات بل هم في الاصل إنما قدموا على أعمال كهذه لقناعتهم بأنهم يقدمون على أعمال إنتحارية ومشاريع شهادة حسب عقيدتهم بعكس أفراد قوات الامن الذين يدخلون المعركة دونما رسالة قوية ولا مشاعر تضحوية، بل هم يدخلون حقلاً وظيفياً يرومون فيه تأدية مهام وظيفية محضة والحصول منها على علاوة وحوافز مادية.

لقد أثبتت طرق تعامل الحكومة مع حوادث العنف المتفجّرة على امتداد عام كامل بأنها ـ أي الحكومة، لا تحمل في جعبتها حلاً جذرياً، بل كشفت عن ضعف جوهري وعريق، وأن حلولها هي ردود أفعال آنية على حوادث مباغته، ومنتشرة على مساحة جغرافية واسعة.. وفي حقيقة الأمر أن سلوك الدولة في التعامل مع حوادث العنف يعكس منهجية الدولة التسلطية وحلولها التي باتت معروفة، أي أنها حلول تقليدية تقوم على الاستعمال المفرط للقوة، وتكثيف أنشطة الاجهزة الأمنية.. بكلمات أخرى أن الحكومة لا تملك مبادرة حل جوهرية وحقيقية، بل إن ما تقوم به هو الاستجابة التلقائية لتحدي داخلي موجّه الى وجودها، وليس معالجة جذرية لمشكلة لها إمتدادات اقتصادية وسياسية واجتماعية.

أضف الى ذلك، أن وسائل التعامل لدى الحكومة باتت تخلو من الابداع السياسي الذي يلجأ اليه القادة السياسيون في ظل الاحتقانات الداخلية التي تشهدها بلدانهم، وتمثيل ذلك يظهر في سلوك ملك البحرين الذي بات قادراً على ابتكار مبادرات جديدة من اجل امتصاص التوترات الداخلية التي تنشب بين الحكومة والشعب، فقد أقال وزير الداخليه بعد مقتل أحد المتظاهرين، وبقي محتفظاً بأوراق اللعبة السياسية الداخلية كلما تفجّر خلاف بين الحكومة والشعب، وبدأ يقدّم نفسه كطرف خارج اللعبة السياسية، ورجل التوازنات الحاسم في الصراعات السياسية الداخلية، وهو ما تفتقر اليه الحكومة في بلادنا، بعد أن كان ولي العهد مرشحاً للعب دور من هذا القبيل.

وهذا يلمح الى طبيعة الحلول المفترضة في مشكلات ذات أبعاد وطنية، فالدولة لا تملك حلاً يشتمل على عنصري المفاجئة والانفراج، والذي بإمكانها به احتواء التشنجات السياسية والامنية أو فتح أفق حل وصناعة أمل لدى الفئات الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، إن عملية اطلاق سراح المعتقلين سيحمل بلا شك مؤشر إنفراج هام سيؤدي بطبيعة الحال الى إطفاء بعض مكائن التوتر، وخصوصاً حين تكون آفاق الانفراج مغلقة بإحكام، وأن أبواب الأمل موصدة بشدة في وجه الشعب.. إذ لابد من مبادرات تسهم في تحريك الاجواء الملبّدة بالريبة وانعدام الثقة والتشنج بين الحكومة والقوى السياسية والاجتماعية في البلاد.

إن تغيير خطاب الدولة وإعادة بناء المخيال الشعبي لجهة توظيف السخط العام والمتنامي ضد ظاهرة العنف  كان فرصة نادرة للعائلة المالكة من أجل تعويض خساراتها في مستوى المصداقية والمشروعية، ولكن الخطاب السائد ظل كما ترسمه الصورة النمطية التالية: وقوع حدث، توصيف القائمين عليه بالفئة الضالة، قدوم الوفود الى ولي العهد للاعراب عن الاستنكار وتجديد البيعة، توجيه اللوم والنقد للفئة الضالة من جهة والشكر للوفود من جهة ثانية، يعقبها شحنة دينية ودعائية مضادة.. هكذا تتكرر الصورة النمطية بعد كل حادث تفجير، فيما لا يتوقع أن يلي ذلك حل أو علاج.. فالخطاب الدولتي بات ينتج نفسه تلقائياً على طريقة تكرار الحكومات المتعاقبة لمقولة (إستعادة الكرم المغتصب) في مسرحية (ضيعة تشرين)..

(التحرير)