العدد 17 يونيو 2004

 إرادتا العنف السلفي والحل الأمني الحكومي تلتقيان

الطريق المسدود في خيار (تكسير العظام)

  يؤخذ على حركات العنف في المملكة أنها تكرر تجارب فاشلة في التغيير السياسي في دول عربية عديدة، كما في مصر والجزائر وسوريا، ولهذا يطالب بعض المشايخ في دعواتهم الوعظية والمنبرية وعبر شاشات القنوات التلفزيونية وأحياناً على شبكات الإنترنت.. يطالبون دعاة العنف الى التدبّر في نتائج عملياتهم المسلّحة ويؤكدون أنها لا تؤدي الى تحقيق غاياتهم السياسية من جهة، وتزيد الأوضاع الأمنيّة سوءً، وتفضي الى إزهاق أرواح بريئة.

لكن أحداً من هؤلاء الناصحين لم يطلب من الحكومة وأجهزتها الأمنية أن لا تقوم هي الأخرى بتكرار تجارب فاشلة في ذات البلدان المذكورة آنفاً، حيث شهدت هي الأخرى عدم استقرار وإضعاف كبير لشرعية أنظمة الحكم القائمة، وخسارة اقتصادية مهولة، وبالتالي فإن فشل الحركات العنفية لم يعنِ بالطبع نجاحاً لتلك الأنظمة.. فالغلبة الأمنية كانت مكلفة للنظم السياسية، ونجاحها في القضاء على العنف الظاهري لم يمنحها الشرعية على أية حال.

بالطبع فإن أسلوب الوعظ الذي يملأ آذاننا من أجهزة الإعلام والصحافة المحلية، لن يغيّر قناعات القائمين على العنف، فقد تمّ تأصيله دينياً، ولا يستطيع الخطاب الوعظي التبسيطي المعتمد على ذات التأصيل الديني السلفي الذي يشترك فيه العنفيون والواعظون على حدّ سواء في تغيير مجرى الرياح. لن يغير دعاة العنف أفكارهم بسهولة، ولن يقتنعوا بعدم جدوائية العنف إلا بعد المرور بصدمات عنيفة كثيرة ومريرة، ونحن لا نزال في بداية الطريق.

على الطرف الآخر، لا يبدو أن النصائح المبطّنة الكثيرة التي أُسديت للعائلة المالكة بعدم اعتماد الحلّ الأمني كخيار وحيد، والبدء في الإصلاحات السياسية والإجتماعية الشاملة، ستؤتي أكلها قريباً. فالأنظمة التسلّطية تجد نفسها قريبة للحل الأمني، وترى أنها تمتلك أدواته فهي جاهزة على الدوام وتستخدمها، كما أنها تعتقد بأن الحل الأمني هو الحل السريع والفعّال والإستئصالي للمشكلة والى الأبد، في حين تتطلب الحلول الأخرى زمناً غير قصير، فضلاً عن أنها ـ أي الحلول السياسية الثقافية لأزمة العنف ـ مكلفة لنظام لا يرى حقّاً لشعبه في صناعة القرار او المشاركة فيه. ولهذا، لا يعتقد صانعو القرار في المملكة أنهم في وارد تجربة خيار غير العنف أو سماع صوت آخر مختلف يظهر لهم الحقيقة. سيجربون حلّهم الأمني وسيستمرون فيه الى النهاية، أي الى أن يصلوا الى الطريقة المسدود.

هذا الطريق المسدود، لن يصل الأمراء اليه بسهولة، فالعنجعية قد تعمي العيون، وتغري بالإستمرار بدل التراجع والتفكّر والتبصّر في الأمور. فإذا تلاقت إرادتا العنف والتدمير من جهة، وإرادة الحلّ الأمني والعنف المضاد من جهة أخرى، فإن البحث عن الأمن والإستقرار الضائعين سيطول، ولن ينتهي إلاّ بتكسير العظام لدى كلا الطرفين، ومعهما مصالح الوطن ومستقبل أبنائه.

 سحريّة الحلّ الأمني!

 كلا الأمراء ومن يواجههم من دعاة العنف تجمعهما مشتركات عديدة. أحد هذه المشتركات أن كليهما يؤمن بالحلّ العنفي، ويعتقد أنه حلّ سحري قادر على الإطاحة بالخصم بالضربة القاضية وبسرعة. وكلاهما يستند في هذا الرأي على ثقافة إقصائية صلبة وغير متسامحة: واحدة معارضة تستند الى النص الديني الإلهي في أن تعارض وأن تحمل السلاح من أجل تغيير المنكر، أو ما تراه منكراً؛ والأخرى حاكمة ملكية تعتمد على التفويض الإلهي في الحكم، وعلى أن الله خلق أسياداً يحكمون وعبيداً ينصاعون، فحكمهم يشرعنه ذلك التفويض المطلق، ويعضده السيف والعنف الذي لازال يكرره علينا الأمراء بين الفينة والأخرى تحت مدّعى (أخذناها بالسيف، والسيف لازال بيدنا، ومن يريدها ـ أي السلطة ـ فلينزل الى الميدان). مثل هذه المقولات تشرعن العنف للذات، ولا تفتح أي أفق للإصلاح إلا باعتماد خيار العنف المقابل.

لقد تقلّصت الحلول او اختزلت في استخدام القدر المتاح لكل طرف من مخزون العنف. وهذا الإستخدام مبنيّ في الأساس على أوهام مشتركة، فكل طرف يعتقد بأنه سينزل بخصمه الضربة القاضية في أقرب فرصة، اعتماداً على وهم (الدعم الإلهي) للفئة المجاهدة المنصورة، وحتمية انتصار الذات (أتباع الحق) حسب الوعد الإلهي. في حين يرى المسؤولون من الأمراء أنهم يمتلكون القوّة الكافية، وأن الشعب كله يقف الى جانبهم، وان من يواجههم مجرد (شرذمة خارجة، وفئة ضالّة) لن يطول الوقت حتى تنهيهم اليد الحديدية وتستأصل شأفتهم، كما يكرر الخطاب الرسمي دائماً.

بهذه الخلفية الثقافية، دخل الطرفان في المواجهة، وكل منهما يحمل في جيبه الحق المطلق، ودعم الجمهور، وشرعية القضاء على الآخر المستندة الى حزم من الفتاوى، إضافة الى الرصاص والمتفجرات ووعود القتل والتدمير. كلا الطرفين لم يقبلا الحياد من الجمهور بل الدعم المطلق، وكل منهما يدعي أنه يمثل جبهة وفسطاط الخير، وكلاهما يرمي الآخر بالعمالة للأجنبي وخدمة مخططاته، وكلاهما يضيق ذرعاً بالحلول السياسية والطويلة المدى.

اعتقد دعاة العنف أنهم قاب قوسين أو أدنى من هدفهم المعوّم في مقولة (مواجهة وطرد المشركين من جزيرة العرب) وذلك بعد سلسلة من التفجيرات والقتل للأجانب.. وأعتقد رموز النظام أنهم هم أيضاً قد نجحوا في مسعاهم الأمني، فقد قضي على 80% من العنف كما زعم وزير الدفاع، وسوّلت له نفسه اقتراف عمل مشين بضرب دعاة الإصلاح والتنكّر للوعود. وما هي إلا أيام حتى عاد العنف متواتراً اكثر من ذي قبل وخلال المدة القليلة التي مضت على اعتقال دعاة الإصلاح في 16 مارس الماضي (أي خلال شهر ونصف) شهدت المملكة ثلاث عمليات كبيرة، بدأت بحادثة الوشم وتفجير أحد المقرات الأمنية الكبيرة، ثم بمصادمات ينبع، وانتهت ـ حتى كتابة هذه السطور ـ بحادثة الخبر!

مع تكرار العنف، فإن الأخرق هو الذي سيصدّق أن الحكومة قادرة على الإنتصار في معركة العنف والدم!

المسألة تجاوزت الحديث عن أن الحل الأمني لا يكفي، ووصل الأمر الى أن هذا الحلّ غير قابل للتحقق. وبمعنى آخر فإن الحكومة غير قادرة على تحقيق الإنتصار ـ على الأقل في المدى المنظور ـ وربما تحتاج الى سنوات عديدة وأثمان باهظة أخرى يدفعها المجتمع حتى يتحقق الحل الأمني، ولو لفترة من الزمن.