العدد 17 يونيو 2004

الاصلاح ..لا داخل ولا خارج!!

 أشبعوا دعاة الاصلاح سبّاً وجرّدوهم من الوطنية والانسانية لأنهم نادوا بالاصلاح السياسي بوسائل سلمية، رغم أنهم سلكوا سبيل الناصحين في ابلاغ رسالة تكاد من فرط ليونة عباراتها وحياء سيرها في الطريق الى قصر ولي العهد أن تتصبب عرقاً.. وقد عبّر كل من سمع أو راقب الطريقة المثلى التي التزم بها دعاة الاصلاح وهم يفصحون بصوت خجول عن مطالبهم الاصلاحية عن دهشته لأنها طريقة لو حظيت بالاحترام والقبول الحسن لأمكن استنساخها والعمل بها في مناطق أخرى من العالم..

ولكن، وأف من لكن هذي، فوجئ الجميع بعد عام من الامل المرتعش بأن قراراً انقلابياً أعاد الأمور الى نقطة الصفر، وانبعثت سيرة الواحدية، واعتقل ناشطون من دعاة الاصلاح، بل وتقرر مسح كلمة (الاصلاح) من اللغة السياسية والاعلامية الرسمية، وفرضت محلها كلمة (تطوير)..

لقد رافق هذه التدابير الصارمة والانقلابية حملة تشهيرية ضد دعاة الاصلاح، واتهامهم بالعمالة للخارج، لأنهم نادوا بالاصلاح، وفي ذلك تطابق بزعم الحكومة مع برنامج الاصلاحات السياسية الديمقراطية في الشرق الاوسط الذي طرحتها الادارة الاميركية والتي تنوي ادراجه على جدول قمة الثماني التي ستنعقد هذا الشهر.

قالوا بأن الاصلاح لا يمكن فرضة من الخارج لأن ذلك يتناقض جوهرياً مع  التقاليد والعادات والدين والاخلاق في بلادنا، وعليه عبّرت السعودية عن رفضها المطلق للمبادرة الاميركية المعروفة بإسم (الشرق الأوسط الكبير) وشكّلت لتعزيز موقفها الرافض حلف الرياض ـ دمشق ـ القاهرة. وكان هذا الحلف حاول أن ينتج نسخة جديدة معدّلة للمبادرة الاميركية في الاصلاحات السياسية الشرق أوسطية تنطلق وتتم من الداخل، وبالتالي تمكّن الرئيس مبارك من إقناع الاتحاد الاوروبي بالمشروع العربي الثلاثي، وقد قبلت الادارة الاميركية بالنسخة المعدّلة طالما أنها ستؤدي الى نشر الديمقراطية او البدء بتنفيذ مراحلها الاولى على الاقل.. وقد ظهر لاحقاً بأن المشروع الاصلاحي العربي لم يكن سوى محاولة لافشال او على الأقل تأجيل المبادرة الاميركية..

الحكومة التي قالت بأن لا اصلاح من الخارج ووجهت إتهاماً بالخيانة لدعاة الاصلاح تناست عن عمد وسابق إصرار الدعوات التي وجهها الاصلاحيون خلال أزمة الخليج الثانية.. وهذا يلتقي مع انتقادات الدكتور سعد الدين ابراهيم للحكام العرب الذي صموّا آذانهم منذ عقدين على الاقل عن مطالبات الداخل بالديمقراطية.

إذا كانت الحكومات العربية الاخرى تستعمل مبرر اختطاف التيار الديني المتشدد للسلطة من اجل نبذ فكرة الدمقرطة والاصلاحات السياسية، فإن السعودية وحدها التي تبدو عاجزة عن استعمال هذا المبرر، لأنها حسب د. مي يماني لن تكون أكثر تشدداً مما هي عليه الآن، لأنها تخضع تحت تأثير السلطة الدينية. بل أن مبرر الاصلاح السياسي الذي يطرحه التيار الوطني العريض بأطيافه المتنوعة الليبرالية والدينية المعتدلة أقوى من حجة الحكومة.

فيما مضى كانت الحكومة تكتفي بفرض ما تراه من اجراءات (اصلاحية) دون تقديم مبررات لذلك أو الدخول في مواجهة اعلامية علنية مالم تصل الامور الى مستوى التصادم.. ولكن في هذا المرة بدأت تشعر وكأن الاصلاح السياسي بات مطلباً داخلياً وخارجياً، ولذلك كان اللجوء الى تبرير تأجيل التحوّل نحو الديمقراطية او تفعيل القائمة التقليدية من الاعذار والمبررات كاستعمال الدين، أو العادات، والخصوصية الاجتماعية والثقافية متهافتاً تماماً كما أن التوسل بقضية تحرير فلسطين والوحدة العربية والنمو الاقتصادي كشروط للانتقال الى الديمقراطية ماهي الا مسوّغات زائفة من اجل تكريس الاستبداد والحكم الشمولي.

في حقيقة الأمر، أن المبررات الدينية والثقافية والاجتماعية التي تلوذ بها الحكومة في نبذ التحول الديمقراطي استعملتها دول عديدة في أوروبا قبل ذلك ولكنها في نهاية المطاف قررت الانتقال الى الديمقراطية، وهكذا فقد تزايد عدد الديمقراطية في العالم من 38 عام 1974 الى 103 عام 2002، وهذه الديمقراطيات استطاعت احتضان التنوع الثقافي والديني والاجتماعي..

وفي الاخير، فإن الديمقراطية باتت مطلوبة وعن أي طريق جاءت.. إن أحداً لن يعارض على حد د. سعد الدين ابراهيم أن تأتي (على ظهر ناقة أو حمار)، فالمهم هو أن تأتي لتوقف هذا المسلسل البشع من التخلف والاستبداد وإنسداد الآفاق أمام الشعوب العربية. ولكن سيرة حكومتنا منذ الخامس عشر من مارس الماضي تؤكد بأن لا اصلاح من الداخل ولا من الخارج!