السعودية: من الصراع الكامن إلى الصراع المتفجر

 ناجي حسن عبد الرزاق

 العربية السعودية الدولة المثالية في الاستقرار الأمني. هكذا يصفها آل سعود دولتهم باستمرار لتقديم أنفسهم داخليا وخارجيا بأنهم الأنجع في إدارة دولة مترامية الأطراف تختزن في باطنها أهم وأكبر ثروة في العالم وهي النفط.

 الاستقرار الأمني جزء مهم من الإنجاز السعودي الذي يفتخر به الخطاب الإعلامي السعودي محلياً وعالمياً. فمحلياً تمكّن آل سعود حتى بداية التسعينات من إخضاع الشعب لسلطتهم برغم التنوع القبلي والمذهبي والمناطقي على مساحة تقدر بمليوني كيلومتر مربعا تقريباً، وعالمياً تمكّنوا من إقناع العالم من أن الاستقرار الأمني في السعودية مثالي ويؤمّن مصالح الدول فيها، فهل تغيرت دولة الأمن والاستقرار إلى دولة بدأت فيها علامات التصدع والانهيار؟

لم تكن العربية السعودية يوماً مستقرة أمنيا إستقرارا حقيقياً، فمنذ نشوء الدولة السعودية الثالثة وصراع القوى الاجتماعية في تناحر، فآل سعود أنفسهم صارعوا معارضيهم من قبائل نجد كما صارعوا معارضيهم في الحجاز والأحساء والقطيف والجنوب والشمال. وبعد هيمنة الملك عبد العزيز على مجمل أراض شبه الجزيرة وإخضاع السكان فيها، تراجع الصراع العلني لكنه لم يكن يختفي إختفاءً حقيقياً بل ظل الصراع كامناً يطفو للسطح بين حين وآخر لأسباب مختلفة، وأهمها إحتكار آل سعود للسلطة والثروة.

 إنّ منْ يراقب الصراع المسلح اليوم في السعودية، سيجد أن كوامن هذا الصراع تتجلى في المقام الأول في احتكار آل سعود للسلطة والثروة. أما أشكال الصراع التي تأخذ أحياناً صيغة أيديولوجية دينية كما تفعل اليوم جماعات العنف السعودية فليس سوى المبرر للصراع الذي يسعى جاهداً لإزاحة نظام الحكم السعودي من السلطة ورفع يده عن مصادر الثروة. فالصراع الذي تفجّر بين نظام الحكم وجماعات العنف في السعودية هو على ما يبدو بداية لسلسلة طويلة من الصراعات التي إما أن تتطيح بنظام الحكم أو بهذه الجماعات أو بكليهما معاً.

في كل الأحوال إن الهيبة التي سعت العائلة الحاكمة السعودية إلى ترسيخها في أذهان المواطنين قد تزعزعت حتى بدا آل سعود كما لو أنهم عاجزون عن إدارة البلاد والتحكم في أطرافها كما كانوا سابقا. فهاهم اليوم يصارعون جماعات العنف المسلحة في عقر دار الحكم  ـ الرياض ـ  دون أن تتمكن الأجهزة الأمنية السعودية من إضعاف هذه الجماعات برغم الاعتقالات في صفوف الإسلاميين المتشددين في طول البلاد وعرضها وضرب بعض قوتهم العسكرية هنا وهناك. ومع ذلك، لا تزال هذه الجماعات قادرة على الضرب بقوة وفي أماكن تعتبر حصناً أمنياً منيعاً كمقر قوات للأمن السعودي في الرياض. 

لا يكاد آل سعود يصدقون ما يحدث في مدينة الرياض، إن شدّة الصدمة التي أوقعها تفجير مقر قوات الأمن السعودي يوم الحادي والعشرين من أبريل 2004  قد رسخت قناعات الأمراء بأن أمنهم الشخصي في خطر فضلاً عن أمن المجتمع. وأخص في هذا الصدد الأمير نايف الذي يعتبر المسئول الأول عن الأمن الداخلي السعودي. فقد شاع في بعض الأوساط بالرياض بأن الأمير نايف كان موجوداً قبيل التفجير بساعة في مقر القوات الأمن السعودي. أي أن الأمير كان سيكون في خبر كان لو أن التفجير وقع قبل موعده بساعة. وسواء كان الأمير بالمقر أم لم يكن، فإن تفجير مقر قوات الأمن السعودي في حد ذاته هو حدث مهم في  لتكتيكات المسلحة لجماعات العنف. لقد تبنت جماعة (كتائب الحرمين) في بيانها الرابع والمنشور على شبكة الإنترنت بتاريخ 2/3/1425 هـ  تفجير مقر قوات الأمن السعودي ، بل أخذت على عاتقها ضرب الأهداف السعودية الداخلية سواء كانت رجال أمن أو مقرات حكومية أمنية. وتتوعد (كتائب الحرمين)  بأن هذا التفجير لن يكون الأخير بل هو (لونٌ واحد فقط من ألوان العذاب)، بحسب تعبير بيانها حيث ستستمر التفجيرات والاغتيالات. 

في هذا الخصوص، لم يشأ الإعلام السعودي أن يتعامل مع تفجير قوات الأمن السعودية  بطريقة مهنية بحتة بل حاول التقليل من أهمية الحدث عبر تصوير المنفّذين بأنهم مفلسون وذلك تمشياً مع تصريحات الأمير نايف التي حاول من خلالها إقناع الرأي العام بأن قوات الأمن قد أحبطت من قبل عدّة محاولات تفجير باكتشافها لسيارات مفخخة. إن الإنجاز الأمني الذي يسعى وزير الداخلية السعودي إلى تأكيده هو بمثابة رغبة لتذكير العالم بأن آل سعود لازالوا قادرين على حفظ الأمن والاستقرار في البلاد وأن الأمن السعودي لا زال قوياً ويمكن الاعتماد عليه، إلا أن عملية انتحارية  كعملية تفجير مقر قوات الأمن السعودي بالرياض تكفي لتبديد كل المحاولات الإعلامية السعودية وإضعاف كل التأكيدات السعودية على الاستقرار الأمني في السعودية. 

إن ما يجري في العربية السعودية ليس مجرد صراع بين فئة صغيرة ومهمّشة إجتماعياً أو ليست لها جذور إجتماعية وفكرية كما يريد الحكم السعودي أن يؤكد، بل هو صراع مع فئة أو جماعة نبتت جذورها الفكرية في صلب الثقافة الدينية السعودية الرسمية والشائعة حتى أصبحت أطروحاتها تكسب كل يوم أنصار ومتعاطفين من الشباب تحت العشرين الذين هم وقود هذا الصراع اليوم. إن الفضل الأول لهذا الاتساع يرجع إلى السياسة السعودية الداخلية التي تقودها وزارة الداخلية التي يرأسها الأمير نايف. لقد أتاحت هذه السياسة فرص ترعرع جماعات العنف حتى تحولت إلى إخطبوط يسعى إلى التهام كل شيء. إن نظام الحكم السعودي كما ترى  (مي يماني) هو الذي يتحمل مسؤولية ظهور وخلق هذه الموجة الجديدة من جيل المتطرفين (مجلة الشاهد السياسي – عدد 421 ـ أبريل 2004 ـ لندن).

فيما يتعلق برؤية المستقبل، فإن الصراع بين جماعات العنف المسلّح ونظام الحكم السعودي آخذ في الاتساع على نحو متقن وضمن آليات تكتيكية تهدف على ما يبدو إلى تحقيق أهداف بعيدة المدى على رأسها إسقاط نظام الحكم السعودي وإقامة إمارة الخلافة الإسلامية. وتشرح لنا أدبيات هذه الجماعات المنشورة على الإنترنت (مجلة صوت الجهاد التي صدر منها حتى الآن 15 عددا ً ومعسكر البتار التي صدر منها 9 أعداد حتى الآن) كيف أنها تسعى إلى نشرة ثقافة سياسية وعسكرية تهدف إلى تشكيل بنية بشرية تحتية أو قاعدة بشرية مسيّسة بإطار أيديولوجي ديني سلفي وهابي ومدربة على استخدام الأسلحة الخفبفة التي تُستخدم عادةً  في حروب المدن والعصابات. وهذا التوجه لا يهدف فقط إلى التثقيف السياسي والعسكري والمخابراتي للكوادر لمواجهة آنية مع أجهزة الحكم السعودي، بل يهدف هذا التوجه أيضاً إلى جعل المواجهة طويلة المدى ضمن حرب استنزاف متواصلة لنظام الحكم السعودي من أجل إضعافه من داخله، وربما جاء التركيز على مدينة الرياض باعتبارها مقر الحكم والسيطرة السياسية والأمنية لجميع أنحاء البلاد. وإن خلخلة الأمن مركزياً سيضعف الأطراف أو على الأقل سيسهل ضرب مواقع حيوية واستراتيجية موجودة بالأطراف كالمواقع النفطية في المنطقة الشرقية.

إن الحرج الذي تعاني منه حكومة العربية السعودية الآن يتمثل من ضمن ما يتمثل في عدم قدرتها على استعادة الأمن والاستقرار، وهذا يعني الآتي:

1. إضعاف ثقة المواطنين في قدرة الحكم السعودي على توفير الأمن لهم.

2. انخفاض مستوى الاستثمار إما عبر هجرة المزيد رأس المال الوطني للخارج أو امتناع رأس المال الأجنبي من المجىء للسعودية للاستثمار فيها.

3. كسر الحاجز المعنوي المرتبط بالهالة التي شكلها الحكم السعودي حول نفسه خلال السنوات السابقة من حكمه ومن ثم خلخلة هيبة الحكم.

إذا تتابعت الضربات المسلحة والاغتيالات والتفجيرات لمواقع حكومية وإستراتيجية كمواقع النفط، فإن مزيداً من الحرج سينال آل سعود، مما سيدفع العالم المتضرر من إستمرار العنف إلى الضغط على نظام الحكم للاسراع بالقضاء عليه وعلى أسبابه المختلفة. إلا أن الحكومة السعودية في الواقع لن يكون بمقدورها الاستجابة لهذه الضغوط ليس لأنها لا تريد القضاء على جماعات العنف المسلحة وإنما لأنها لا تستطيع فعل ذلك لأسباب ذاتية كامنة في طبيعة بنية الحكم.

ما هو متوقع أن المعارك المسلحة بين جماعات العنف المسلح وأجهزة الحكم السعودي سوف تستمر، وأن قدرة هذه الأجهزة قد لا يُكتب لها النجاح إلا إذا أدمجت في مواجهتها لهذه الجماعات إجراءات إصلاحية فعلية تجعل الشباب الذي ينضوون في صفوف هذه الجماعات أقل احتمالاً. إن الحكومة السعودية لا توفر بدائل سياسية لتشجيع المواطنين على التعاطف مع إجراءات الحكومة ضد هذه الجماعات. إن شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة أُريد به استمرار الإجراءات القمعية المستمرة ضد الإصلاحيين والمطالبين بالاصلاح. إن ضمور صوت الاصلاح في السعودية مؤشر خطير على استمرار العجز الرسمي السعودي عن ابتكار حلول ناجعة للعنف المسلح. إن إصرار نظام الحكم على اتباع هذا الشعار سيدخل البلاد في دورة العنف والعنف المضاد. إلا أن هذه الدورة العنفية المسلحة سوف تزيد من أزمة البلاد وسوف تخنق النمو الاقتصادي لا سيما إذا توجت جماعات العنف إلى مواقع النفط باعتبارها أهدافا مشروعة كما هي عليه الحال المقرات الحكومية الأمنية والعسكرية.  

 

  العدد السادس عشر - مايو 2004