الحرية السلبية والموجبة

أولويات ومداخل الإصلاح في المملكة السعودية

 

في المملكة صنفان من الدعاة الى التغيير.

الصنف الأول، أقرب الى الحكومة في توجهاته، والى الأنظمة الشمولية بشكل عام، وهو يرى أن المواطنين في المملكة في الأصل لا يبحثون عن الحرية في التعبير ولا يطالبون بالمشاركة الشعبية ولا يريدون تغييراً سياسياً محدداً يتيح لهم قدراً من المساهمة في صناعة القرار السياسي.. كل ما يريدونه هو عيشاً رغيداً، وقدراً مهماً من الخدمات الإجتماعية.. هم يريدون أمناً واستقراراً وحماية من العوز، وعملاً للعاطلين، وخدمات صحيّة، وتعليماً مفيداً يتماشى مع سوق العمل. هذا ما يريده المواطن أولاً وآخراً، وهو بالتالي لا يكترث بدعاوى الإصلاح، ولا بالداعين. ويضيف أصحاب هذا الرأي، أن الأولوية اليوم لإعادة الإستقرار، ومكافحة الجريمة والفساد، وتحسين الخدمات، وإنعاش الإقتصاد، وخدمة الطبقة الوسطى التي بدأت ـ حسب رأي أحدهم ـ بالتآكل والتقلّص لتنضم الى شرائح الفقر والفاقة.

ما يطلبه هؤلاء هو ما يسمّى في العلوم السياسية بالحرية السالبة Negative Freedom التي نظّر لها كثيرون ومن أبرزهم أسايا برلين. وتقوم هذه الفلسفة على أساس تحرير الإنسان المفرد من القيود التي تعيق انطلاقته لتحقيق رغباته ومتطلباته وحقوقه المختلفة، كقيد الجوع، والبطالة، والأمية، والمرض وغيرها. ويرى هؤلاء بأن الحريات الفردية هي الأساس، وبأنه يجب أن تكون هناك فسحة للفرد لا يتدخل فيها أحد، وأنه كلما زاد منع المرء من فعل شيء في فضائه الخاص، فإنه بذلك المقدار يكون غير حر. وكلما توسّع الفضاء الخاص، كلما تقلّصت العبودية والديكتاتورية. وكلما توسع دور الفضاء العام، كلما تقلصت حرية الأفراد. بل أن برلين يجادل بالحرية التراكمية، ويؤمن بأن تمتع البعض بالحرية يكون على حساب الآخرين ويزيد من تقييدهم، وتؤدي الى مراكمة السلطات عند البعض. المزيد من السلطة تؤدي الى المزيد من الحرية والتحرر من القيود والأنظمة والقوانين التي تفرض على الأفراد؛ ولهذا يؤدي الإحتكار السياسي الى الطغيان والتحرر من كل المحرمات والشرائع.

ولهذا فإن الأقوياء، عضلياً أو مالياً، يجب أن يقيدوا حتى لا يعيثوا الفساد، ويظلموا ويقيدوا الآخرين، ولكن كيف يكون ذلك إذا كانت الحرية مرتبطة بالقوة والسلطة والثروة؟

كيف تستطيع أن تقيد الأثرياء بالنظام والقانون، وكيف تضبط حرية الفعل لدى الحاكمين، وهم صناع القرار، والأكثر استفادة منه؟

يرى المؤمنون بالحرية السالبة، أن هناك فرقاً كبيراً بين قصور وعدم قدرة ناتجة عن ضعف ذاتي، وبين القصور وعدم القدرة الناتجة عن القمع، اي عن التدخل المباشر ممن يمتلكون السلطة والمال والمزيد من الحرية. فالفقر في أكثره ليس نتيجة قصور، كما يرى المؤمنون بالحرية السالبة، بل نتيجة الإفتقار الى الحرية، والتخلص منه كما من المرض ومن الجهالة والتخلف والخوف هو من صميم عمل السلطات السياسية وليس من مسؤولية الفرد وحده.

الأحرار هم قلّة، من أصحاب القرار والمال.. الذين ليس فقط يمارسون حريتهم بل ويطغون فيها على حساب الاكثرية المشغولة بتدبير لقمة العيش اليومي. حقاً.. ما قيمة حرية لا يمكن للمرء الإستفادة منها واستخدامها، كما يتساءل برلين؟ لا معنى أن يمنح الجائع الباحث عن لقمة العيش حقّ التصويت والإنتخاب، ولا إمكانية ستتوفر لمجتمع غير متحرر من قيود الأنظمة والقوانين الباطلة، ولا فائدة من انتخابات وأكثرية المواطنين تعيش مستوى دون حد الفقر، ولا تمتلك معرفة ولا تعليماً يؤهلها من المشاركة الإيجابية. وحسب تساؤل برلين: (بدون توفر الشرائط المناسبة لاستخدام الحرية، ما قيمتها؟).

وعلى هذا الأساس قال هذا الصنف بأن توفير لقمة العيش ورغيف الخبز وقارورة الدواء أولاً. ولكن يؤخذ عليهم دائماً حقيقة أن الفقر والمجاعة والتخلف هي سمة الدول التسلطية، وأن الغنى والرفاه هي سمة الدول الحرة. وهذا يعيدنا الى أصل الجدل، بأن الفقر والأمية والمرض إنما هي ـ في غالب الأحيان ـ نتيجة غياب الحرية، ونتيجة التسلط، وليست ناتجة عن قصور في الأفراد الفقراء، بل بسبب قمعهم وغياب العدالة، كما انها ليست نتيجة محدودية مصادر الثروة بل طريقة إدارتها وتوزيعها (والنموذج السعودي واضح هنا).

بعض رؤساء الأنظمة العربية، كانوا ولازالوا يبررون وبشكل علني وصريح، هذه السياسة، حتى أن رئيساً عربياً راحلاً قال في مقابلة تلفزيونية مع قناة غربية، في جواب على سؤال عن الحريات السياسية والمشاركة الشعبية: إذا وصل شعبنا الى مستوى دخل موازٍ لما عليه المواطن في الغرب، فإن الحريّة ستتحقق حينها.

الصنف الآخر من دعاة التغيير، يميلون الى ما يسمى بالحرية الموجبة Positive Freedom التي تنطوي على دخول الجمهور مباشرة في مسألة المشاركة الشعبية في صناعة القرار، كركن رئيس من أركان تحرره وحصوله على حقوقه المشروعة في العيش الكريم. ويعتمد هؤلاء على فكرة مركزية وهي سيادة الإنسان على نفسه؛ وأن غيبة الجمهور السياسية أو تغييبه القسري هي التي تؤدي الى الفساد والرشوة وسوء الخدمات وتعقيد الأنظمة والقوانين وغيرها.

في المملكة، هاتان الرؤيتان تنطويان على مقاربتين مختلفتين في التغيير. فالصنف الأول لا يحدد الأولويات فقط بالنسبة للمواطن، بل هو يعتقد بأن أقصى غاياته هو توفير العيش المعقول، أما المساهمة في صناعة القرار فهي ليست حقاً له، خاصة اذا ما نجحت الحكومة في تحقيق متطلباته الأولية، أما إذا فشلت، كما هو الحال الآن، فإنهم يطالبون بالإنتظار ريثما تتخلص الحكومة من مشاكلها الملحّة والأساسية. أما إذا حوصروا في الجدال، فيكون النقاش حينها قائماً على أساس ما إذا كان (الشعب السعودي) مهيأ للتغيير! ويدخل المتحاورون في موضوع (الخصوصية السعودية) والنزعات القبلية والمذهبية والمناطقية الطاغية التي يمكن أن تعطل مفاعيل التغيير السياسي المنشود.. ومن ثمّ ـ إذن ـ ليس هناك من مجال إلا البقاء على (المجنون الذي تعرفه) خير من (المجنون الآخر الذي لا تعرفه)! وعموماً فهؤلاء لا يرون بأن هناك ربطاً بين الحرية الفردية وبين تحقق الديمقراطية، ويركزون على كيفية الحكم لا على نوعية الحكومة، فكل الحكومات سواء بالنسبة للفرد من وجهة نظرهم، ولا فرق بين أن يسحق بحكومة شعبية أو بملك أو بأنظمة تعسفية، بل قد يرون أحياناً أن حكومة الفرد أو حكومة الأقلية أهم من الحكومة الديمقراطية وحكومة الشعب التي يعتبرونها ليست حرية أبداً.

أما الصنف الثاني، فيرى أن المملكة بقيادتها الحالية قد أهدرت إمكانات البلاد وأضاعتها دون أن تؤمن مستقبلاً لمواطنيها. وإن غياب الحرية السياسية الموجبة، جرد المواطنين من حرياتهم الفردية وقضى على دولة الرفاه، وأشاع الفساد، ولم يوفر الحريات المدنية التي لا غنى لشعب عنها في أن يعيش حراً مبدعاً وكريماً. ويعتقد هذا الصنف، أن مسألة الخصوصية السعودية مجرد أسطورة وهمية خلقها النظام للتهرّب من استحقاقات الإصلاح، وأن الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية تهيء الشعب للمشاركة في صناعة القرار وإعادة الأمور الى نصابها. وفي موضوع الأولويات، يعتقدون بأن الإصلاح السياسي هو الذي يضمن تحقق العيش الكريم والإصلاحات الأخرى الإدارية والإقتصادية والقانونية. ويؤكدون بأن الدولة لن تنجح في توفير الحدود الدنيا من مسؤولياتها تجاه مواطنيها ما لم تقدم على الإصلاحات السياسية التي ستأتي بالمحاسبة وشرعة القانون وتفرض العدالة ـ ولو بشكل نسبي. أما لو تحققت هذه الأمور بدون اصلاح سياسي، وذلك مستحيل بالنظر للظروف الراهنة، فإن العائلة المالكة لن تقدم على اي نوع من التغيير، مثلما كانت قبل دخول البلاد في محنتها الحالية، يوم كانت أموال النفط تفيض، ولكن دون أن تستثمر الإستثمار الجيد، ودون أن تولّد الحاجة أو الدافع للتغيير.

مشكلة المملكة أنها فاقدة لكلا معنيي الحرية السالبة والموجبة، والعائلة المالكة لا تسير بنجاح في أي منهما. وبالرغم من أهمية مداخل التغيير ودوافعها، إلا أنها تبدو جميعاً مؤثرة في بعضها البعض. إن تحرر المواطن من حياة العوز والفقر، ليست مسألة صعبة من الناحية النظرية، فإمكانات الدولة كبيرة للغاية، خاصة مع تضاعف أسعار النفط، حيث وصلت في بعض الأحيان الى ما يقرب الأربعين دولاراً للبرميل. إن مداخيل المملكة اليوم، تقارب مداخيلها قبل الإنهيار الكبير لأسعار النفط في منتصف الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي، إن لم تزد على ذلك.. ولكن المشكلة، حتى مع احتساب زيادة عدد السكان خلال العشرين سنة الماضية، تكمن في سوء الإدارة والفساد ونهب موارد الدولة الذي يفوق حدود الوصف والعقل. ولو استطاعت الحكومة ضبط الفساد أو حتى التخفيف منه، مع إدارة صحيحة، لأمكنها الحدّ من العنف ومن السخط العام، ومن تسييس الأزمة الإقتصادية التي أقحمت كل المواطنين فيها، ولأمكنها (تأجيل) الإصلاحات السياسية الى حين، وليس إلغاءها، كما تعتقد.

لكن مشكلة الفساد والنهب وسوء الإدارة لازمة للمنهج الحكومي لا تستطيع التخلص منه إلا بالمجازفة بتغيير سياسي كبير في قمة الهرم الذي هو رأس الفساد والنهب. وعليه فإن التغيير السياسي ـ في الوقت الحالي ـ هو أقرب الأطروحات الى الإصلاح العام في الميادين الأخرى، لكن كيف يمكن أن يتحقق ذلك بدون ضغوط سياسية شعبية، وبدون قناعة ولو بإصلاح جزئي بين النخبة الحاكمة؟ وكيف يمكن لهذه النخبة أن تقبل بإصلاح يمسّها في الصميم، وهي لا تأمن شروره بأن تتوسع فتصيب رجاله بأقسى الضرر؟ هنا تأتي المشكلة، وهنا تتوقف العجلة. لا قدرة على التغيير والإصلاح، ولا قدرة على تحقيق إنجاز، ولا قدرة على إيقاف تغوّل الفساد.. وتالياً لا مجال في المدى المنظور لإصلاح سلمي وتدرجي. والبديل هو العنف وتصاعد السخط الى أن يأذن الله بأمره!