الوجه الإيجابي للإعتقالات في السعودية

 حمزة الحسن

 حدث الإعتقالات في المملكة أمرٌ مؤسف، وضارٌ بمصالح الوطن والمواطنين، بل هو مضرٌّ بصانع القرار نفسه. ولكن في كل الأحداث المهمة، تتكشف وجهات نظر مختلفة في رؤيتها للحدث؛ ومع ان الضرر يبدو وكأنه غالبٌ طاغ على ما عداه، فإن الإعتقالات لرموز الإصلاح في المملكة في 16/3/2004 (محمد سعيد الطيب، ومتروك الفالح، وعبد الله الحمد، وعلي الدميني) لها وجه إيجابي، يجب أن نؤكد عليه، وأن نكشف عنه في قراءة متوازنة لما جرى.

 يمكن تركيز وجوه الإيجابيات في حملة الإعتقالات الأخيرة في النقاط التالية:

أولاً ـ أنها حسمت المواقف ـ على صعيد العائلة المالكة ـ من الإصلاحات. فالخلافات كانت دوماً حول مسألة جوهرية، هل نقوم بالإصلاحات أم لا؟ هل نحن بحاجة اليها أم لا؟ هل يمكن السيطرة عليها أم لا؟ لم يكن الخلاف بين الأمراء حول وجهة الإصلاحات بل في أصل القيام بها وتبنيها. ولأن الخلاف استمر واضحاً لمدة عامين، فكان يجب أن يحسم، ليس لصالح وحدة العائلة المالكة فحسب، بل لصالح البلاد ورجال الإصلاح أيضاً حتى يقرروا وجهة نظرهم.

جاءت الإعتقالات فحسمت الأمور بشكل واضح جليّ، لتقول ان خيار العائلة المالكة ليس مع الإصلاحات؛ وهذا مفيدٌ من جهة تحديد وسائل العمل، ومستهدفاته، ورجاله. فالتعمية على الإصلاحات بالوعود، دون التطبيق، كما لاحظنا خلال الفترة الماضية لم ينتج سوى الجمود في مؤسسات الدولة، وفي الخطوات الواجب اتباعها من قبل الأطراف الإصلاحية حول مسالك الحراك السياسي. حتى الإنتخابات البلدية والتي وعدت بها الدولة، كان هناك التباساً فيما إذا كانت ستقوم ضمن منهج واضح للإصلاح، ام أنها تحريف له، ولم يستطع الإصلاحيون تقرير ذلك، وكان لكل طرف رؤية ومعطيات تؤيد هذه الوجهة او تلك. وقد كان ذاك سبباً في شرخ التيار الإصلاحي، الذي بنى بعض أطرافه آمالاً على السلطة كعامل وحيد للتغيير.

الآن، وبعد الإعتقالات، يقف الإصلاحيون أمام موقف موحد للإمراء، على الأقل ظاهرياً، طالما أنهم قبلوا بالتراجع عن الوعود، وأعلنوا أنه لن تكون هناك انتخابات لمجلس الشورى، وطبيعي أن لا يكون هناك دستور، ولا غيره. الوضوح هذا، يعني النظر الى العائلة المالكة كعائق للإصلاح، الأمر الذي يستلزم معه ـ غير الإقناع ـ ابتداع وسائل جديدة للضغط عليها، واتخاذ الخطوات الكفيلة بتحريك الشارع في سبيل ذلك، وهي خطوات كان عدد من الإصلاحيين مترددين في الخوض فيها، على أمل أن الإصلاح إنما يكون بالتفاهم مع السلطة السياسية المحتكرة بيد العائلة المالكة.

الإصلاح من فوق، كخيار سلمي تدرجي ووحيد، كان يملأ قناعات دعاة الإصلاح. وبحسم العائلة المالكة لموقفها، تصبح صورة الوضع السياسي المحلّي أكثر وضوحاً؛ فقد اتضح الخصم السياسي في أهدافه ووسائله، واتضحت إمكانات الإصلاح من أعلى، وبقي أن يفتش الإصلاحيون حقائبهم من جديد عن خيارات أخرى أكثر نجاعة في في فرض الإصلاح من الأسفل.

ثانياً ـ من إيجابيات حملة الإعتقالات الأخيرة، أنها حلقة في التراكم السياسي الضروري للبناء عليه في التغيير. فكما هو معلوم أن المجتمع السعودي لا يمتلك تراثاً سياسياً غير تراث العائلة المالكة، فكل مفردات الإصلاح ومفاهيم التغيير هي جديدة عليه، كما أن العمل الوطني بقي لزمن طويل محصوراً في فئات تنظيمية ضيقة. وحين بدا ان بوابة الإصلاح ستفتح بعيد الغزو العراقي للكويت، وبدا ان الجمهور قد حُقن بجرعة كبيرة من الوعي، تمّ إغلاق منافذ التغيير ليستفيق الجميع من جديد على أحداث 11/9 ولتفتح البوابة من جديد بزخم وطموحات أوسع مما كان سابقاً. ولكن بقي الحراك الشعبي ضعيفاً، وبدا أن كثيراً من الشخصيات السياسية الوطنية الإصلاحية لا تمتلك فكرة واضحة عن مناهج التغيير وأدواته، بل أن (بعضها) ربما كان يتمتع بسذاجة في فهم ألاعيب السياسة الحكومية، وكانت الطموحات والآمال والروح المخلصة التي انطلقت من نوايا حسنة، تبشّر بما يشبه (التغيير الأبيض) غير المكلف أساساً، بل أن بعض الإصلاحيين توقع ان الإصلاح صار خياراً للعائلة المالكة، وأنها تعلّمت الدرس من الأحداث، وانها بالتالي على استعداد لتقديم التنازلات على طبق من ذهب.

المجتمع في المملكة بحاجة الى كثير من التمحيص، وكثير من الخضّات كيما ينضج، وتنضج معه القوى الوطنية التي غيّبت لعقود طويلة، وهو بحاجة الى تجربة خاصة يستند اليها في حركته نحو التغيير والمستقبل. إن الإعتقالات ستسفر بلا شك عن وعي أكثر بالسياسة المحليّة، سواء بالنسبة للمواطن العادي أو بالنسبة للنخب الوطنية الفاعلة. ستختفي مع الزمن السذاجة السياسية في تحليل القضايا، وسيتعرف المواطنون على مداخل التغيير، وعلى مفاعيل الحركة، وبالتالي يمكن توقع نضوجاً في الطرح السياسي أكثر مما مضى، ونضوجاً في فهم اللعبة السياسية، وفي الوسائل الممكنة لتحقيق الإصلاح المنشود.

ثالثاً ـ يستتبع هذا الأمر، أن الإعتقالات ـ كما قال الدكتور عبد الوهاب أفندي في مقالة له في القدس العربي ـ قد رمّزت قيادات العمل الوطني. ففي بلاد مثل السعودية، قضت العائلة المالكة على كل القيادات التاريخية، سواء كانت عوائل حاكمة، أو أحزاب وطنية، أو قيادات قبلية، أو حتى وجهاء مدن ومشايخ دين او تجار. بل أن العائلة المالكة لم تسمح لأي رمز وطني يخرج من مؤسسات الدولة نفسها، كما لاحظنا ذلك من خلال الإطاحة بالوزراء المتميزين، الذي تتضخم شعبيتهم على حساب الأمراء. الإعتقالات ـ إذن ـ حددت شخصيات معيّنة ـ نتمنى لها الثبات على مواقفها ـ بأنها جديرة لقيادة العمل الوطني من خلال الممارسة والفعل، وتحمّلها التضحية في هذا السبيل، الأمر الذي يفسح المجال مستقبلاً لتشكيل نواة أوسع من نخب الإصلاح تكون مرجعية للعمل الوطني على مستوى المملكة، والقيادة الوطنية الشعبية التي تدشن التغيير وتجبر رموز العائلة المالكة ـ رغم إشهارها لسيفها ـ على التنازل أو الرحيل.

رابعاً ـ من الإيجابيات التي أفرزتها حملة الإعتقالات، هو أن العائلة المالكة فرزت نفسها كخصم شرس لمصالح المواطنين وتطلعاتهم. فالتعمية التي كانت في الماضي تدور حول عبارات مثل: (المسؤول والمواطن في إطار واحد، وأنهما يعملان معاً لخدمة هدف واحد)، هذا الأمر لم يعد له مكان في الذهنية الشعبية. لا شك ان العائلة المالكة وهي إذ تستخدم وسائل العنف لقمع تطلعات المواطنين، فإنها تخسر كثيراً من رصيدها الشعبي ومن شرعيتها المزعومة تاريخياً ودينياً، وهي بفعلها ذاك تزيد الهوة بينها وبين المواطنين، ولتوضح لهم بأن مسارها غير مسارهم، وهمومها غير همومهم، وأهدافها غير أهدافهم، وأنها مجرد عائلة لا تهتم إلا بمصالحها على حساب المجتمع والوطن، وأنها في الوقت الذي تتنازل فيه الى الأجنبي من أجل البقاء في السلطة، لا تقبل بتنازل لمواطنيها يصلح ما أفسدته سياساتها.

إن الهوة بين الطرفين، خطوة أولى لتمييز الموقف الرسمي عن الشعبي، فالفرز مرحلة من مراحل الصراع بين محتكري السلطة والمكتوين بنارها، وإن الفاصلة بين التطلعات الشعبية والتطلعات الأميرية يعكس خيبة أمل وألم، ويحصر شرعية العائلة المالكة في ما تمتلكه من أدوات قمع، لا ينتظر منها أن تقتل التطلعات والطموحات في نفوس المواطنين بل ستجعلهم متحفزين لمواجهتها كلما زاد الشرخ بين الطرفين.

كان واضحاً ان تبريرات الإعتقال بتهديد الوحدة الوطنية، ومخالفة الشريعة، أضعف من أن يتقبلها مواطن يحترم عقله. فالتبرير الصحيح يعرفه الجميع وهو أن العائلة المالكة لا تريد ان تتنازل عن شيء تعتبره ملكاً لها، وهو يعني الوطن بأهله وتراثه وخيراته وحاضره ومستقبله. إن الربط بين مصير العائلة المالكة ومصير الوطن، سيخفّ في المستقبل، وسيتأكد في المخيال الشعبي أنه للحفاظ على الوطن، وعلى مصيره، يجب مواجهة تغوّل العائلة المالكة واستبدادها. وهذا تحوّل مفيد لحركة التغيير المحلية.

خامساً ـ على مستوى العمل الوطني، بدا من خلال الإنفتاح الإعلامي الداخلي أن لا ضرورة للعمل الإعلامي والسياسي من الخارج والذي تقوم به مجموعات وأفراد سعوديون من صحافيين وأكاديميين ودعاة حقوق إنسان الى جانب المعارضين. كما لوحظ خلال الأشهر الأخيرة، أن أهمية العمل في الخارج قد تضاءلت، بقدر ما اتسع الهامش الإعلامي في الداخل، بل كان هناك من تساءل عن أهمية الوجود السياسي الإعلامي الخارجي للعمل الإصلاحي في داخل المملكة، وقد حاول بعض الإصلاحيين أن ينأوا بأنفسهم عن الخارج بأشخاصه وأعماله بشكل مبالغ فيه، تأكيداً منهم على أهمية العمل من الداخل الذي بدا وكأنه سيؤتي ثماره. ورغم أنه لا خلاف مطلقاً على أهمية العمل من الداخل، بل لا قيمة للعمل في الخارج إن لم تكن الأرض الداخلية الشعبية حاضنة له متفاعلة معه، فالأصل في الداخل.. فإن العمل في الخارج يوفّر غطاءً سياسياً، وله مهمات مختلفة.

لقد لوحظ أيضاً خلال الأشهر الماضية أن خطاب الإصلاحيين في الداخل والخارج قد اقتربا بشكل كبير، فالمسألة تعدّت الإتفاق على الأهداف التي حددتها الوثيقة الأم (وثيقة الرؤية) والوثائق التي نسجت على منوالها، الى الإتفاق في تحليل الأوضاع السياسية المحلية، والإتفاق على مستوى الطرح، الى حدّ أنك لا تستطيع التمييز كثيراً بين ما كان يكتب في الإعلام السعودي المختلف خارجياً مع ما يكتب في الداخل. فالفاصلة بين الذهنيتين والتي كانت واضحة عشية أحداث 11/9 كادت أن تنتهي الى ما قبل الإعتقالات الأخيرة في 16/3/2004، الأمر الذي رجّح إضعاف النشاط السياسي والإعلامي الخارجي.

ولكن مع الإعتقالات الأخيرة، وتقلّص منسوب الحريات العامة في الصحافة المحلية، وحالة الخوف التي أصابت بعض النخب، وبعد أن ظهر أن العائلة المالكة لا تريد الإصلاح من أساسه.. ارتفعت أسهم الخارج والعاملين في الخارج، باعتبارهم الوحيدين القادرين على العمل في ظل منسوب معقول من حرية الحركة.

الدرس الذي تقدمه الإعتقالات، بل الإيجابية التي تكشف عنها، هو أن العمل في الخارج مكمل للعمل في الداخل وليس بديلاً له، ولأنه عمل خارج طائلة السيطرة الملكية، فإنه أقدر على الإستمرار. نعم، يمكن القول إن الحاجة الى العمل في الخارج تتقلّص بقدر الإنفتاح الداخلي، وبقدرما هناك تسارع في عملية الإصلاح. ذلك أن المشكلة في الأساس سياسية محلية، وما خروجها الى الخارج إلا لتعذّر حلّها محليّاً؛ والناشطون السعوديون في الخارج، يستطيعون من خلال مواقعهم تشكيل لوبي ضغط إعلامي ـ سياسي، سيساهم بدون أدنى شك في المساهمة في العملية الإصلاحية الكلية، وفي الدفاع عن دعاة الإصلاح.

سادساً ـ ومن إيجابيات الإعتقالات الأخيرة أنها كشفت العائلة المالكة على الصعيد الخارجي؛ فهذه العائلة كانت ولاتزال تروج بأن الشعب غير مهيّأ للإصلاحات، وأنه مجتمع جاهل لا يستحق الإنتخابات (كما قال سلطان وزير الدفاع مؤخراً) وراحت تزايد لدى المؤسسات الإعلامية والسياسية والبحثية الأميركية والغربية بأنها ـ أي العائلة المالكة ـ الوحيدة التي تتوق الى الإصلاح في مجتمع متخلّف. لكن هذه الصورة الكاذبة، رغم بطلانها السابق، انفضحت بشكل لا سابق له حين قامت باعتقال الإصلاحيين. ولما كانت العائلة المالكة تحاول تفادي الضغط الخارجي الأميركي بالترويج لمزاعم الإصلاح، فإنها اليوم تستجلب ذلك الضغط، وقد لا تستطيع مقاومته بالنظر الى تضعضع قاعدة النظام الشعبية، حيث أنها دخلت معركة مع كل الأطراف السياسية والإصلاحية والحقوقية والدينية. إن أي نظام ـ كما هو الحال في المملكة ـ لا يستطيع أن يقاوم ضغوط الخارج بدون تلاحم داخلي، والتلاحم الداخلي لا يمكن أن يقوم إلا على أساس المشاركة في صناعة القرار واحترام الرأي العام المحلي في عملية اصلاحية جذرية. في أي معركة قادمة، إعلامية أو سياسية أو أمنية، ستجد العائلة المالكة نفسها وحيدة تقريباً في الساحة بدون سند أو دعم كبيرين. ستكون مكشوفة أمام الضغوط الأميركية التي تبتزّ البلاد، وستكون مكشوفة أمام أي عنف محلي قادم.