محمد سعيد الطيب: تستطيع الآن أن تكتب أفضل!

 طلال سلمان

 لم يتسن لي ان التقي محمد سعيد الطيب غير مرتين، خلال يوم واحد في جدة. كان يومها رئيسا لمجلس ادارة شركة تهامة للاعلانات، وقد زرته بوصفي ناشر جريدة يسعى الى زيادة دخلها الشرعي عبر زيادة المساحة الاعلانية.

في الصباح، وفي مكتبه، وخلال اللقاء مع مجلس الادارة، احسست ان محمد سعيد الطيب مظلوم بموقعه.

اما في المساء، وحين لبيت دعوته لأشهد قبل سفري جانبا من (الثالوث) الذي ينعقد في دارته كل ثلاثاء ويمتد سهرة من الشعر والقصة والحوار الثقافي بين مجموعة من الأدباء والمتأدبين والشعراء والغاوين وكتاب الرواية والنقاد والقراء، قد استمتعت بما لم أكن أتوقعه من جدة وفيها.

كان ثمة كتب جديدة مطروحة للنقاش، على جدول اعمال اللقاء.. وكان الحوار راقيا يليق بمثقفين اصلاء ومهمومين. لم تكن سهرة فرفشة، ولم يكن النقاش ثرثرة او مجرد (ترف فكري) يمارسه بعض الذين اغناهم ذهب النفط عن الاهتمام بما يتعدى اطايب الحياة ومتعة السياحة في بلاد الآخرين.

وسمعت من المنتدين السامرين احاديث في العروبة والقومية، واستذكارا لجمال عبد الناصر (الذي ذهب شهيدا لفلسطين).

كما سمعت عرضا لرواية صدرت حديثا في بريطانيا، وقراءة لقصة قصيرة كتبها اديب مغربي، وتلاوة قصيدة لشاعر مصري، عارضها شاعر سعودي.

وأسفت لاضطراري الى الانصراف والسمر قد طاب متقدما نحو ذروة متعته... ولكنني فرحت بأنني خرجت من بيت محمد سعيد الطيب متأبطا بضعة كتب، اقلها له ومعظمها لآخرين من المشاركين في هذه الأمسية الثقافية التي عرفت ان لها مثيلاتها في اكثر ايام الاسبوع.

وحرصت على متابعة اخبار بعض من عرفت من الادباء في السعودية وبالذات منهم محمد سعيد الطيب، الذي لم يطل به المقام في شركة (تهامة) بعد ذلك اللقاء المشهود.

قبل شهور، توالت الاخبار عن (الحوار) الذي قررت السلطات فتحه مع المثقفين، استباقا لفرض الديموقراطية الاميركية بالدبابات وصواريخ كروز... ثم تابعت حركة الجدل التي ملأت اعمدة في الصحف السعودية، وتصريحات الامراء الذين انقسموا بين دعاة للحوار (المنسجم مع تقاليدنا) و(المنضبط ضمن حدود ما تسمح به ظروفنا) وبين متشددين يرفضون (هذا التدخل الاميركي الفظ في شؤوننا الداخلية)، و(تحريض شعبنا علينا) و(الاستقواء علينا بالتجربة العراقية المريرة).

ذات يوما قرأت بيانا رصينا وقعته مجموعة من المستنيرين في المملكة التي طال انغلاقها على ذاتها، بينهم محمد سعيد الطيب. كان البيان ردا هادئا وموضوعيا على امراء الصمت الابيض الذين يرفضون ان يسمعوا من مواطنيهم الحريصين على سلامة البلاد (ونظامها)، بينما يهددهم (الغازي الاميركي) في نظامهم وفي وحدة بلادهم، بل ويكاد يحاسبهم على سلوكهم الشخصي وثرواتهم ومباذل ابنائهم والاحفاد.

قدرت الشجاعة الادبية لمحمد سعيد الطيب وصحبه، وقدرت اكثر (السماحة) التي بات يتمتع بها اهل الحكم في المملكة التي ذهب التطرف السلفي بالكثير من ارصدتها المعنوية والمادية، والتي تحولت من دار سكينة الى (ولاّدة الارهاب) الدولي ومصدره الاول، والتي كلفتها (المهمة الاميركية) بمكافحة الشيوعية الملحدة والاتحاد السوفياتي الكافر مستفيدة من موقعها الاسلامي الممتاز، استقرارَها الداخلي وثروتها وكادت تذهب بأمنها الداخلي فضلا عن موقعها ذاته.

بعد يومين او ثلاثة جاء الخبر مدويا: اعتقال محمد سعيد الطيب ورفاقه الذين وقعوا معه البيان الرصين والذي كان نشره في تقديرنا شهادة للنظام، فصار الاعتقال توكيدا (للطبيعة القمعية) التي يتركز الاتهام الخارجي عليها.

ولقد اعلن، بعد ايام، خبر الافراج عن محمد سعيد الطيب وبعض رفاقه، ولكن الزجاج الذي كان قد حطم صار صعبا جمع فتاته واعادته الى سويته.

ان اقسى الاتهامات الاميركية للنظام السعودي لا تعادل اعتقال رجل واحد من طينة محمد سعيد الطيب: فلا هو قد اشتهر بالتزمت الاصولي، ولا هو قد دعا في اي يوم او قبل منطق السعي الى التغيير بالعنف، ثم انه (ابن شرعي) للنظام لم يحمل السلاح ضده ولم يعمل او يكتب او يروج لاسقاطه، بل حاول حمايته بترشيده، وحاول تحسين صورته بإظهار سعة صدره في تقبل الآراء المنادية بالاصلاح من الداخل.

الاصلاح من الداخل: تلك هي المعركة. تلك هي القضية.

ان انظمة قامت على افتراض ان الشعب (رعية)، وان سلطتها مستمدة من عند الله سبحانه وتعالى ومستمرة بفضله، لا تقبل في قرارها نقاشا من مواطنيها المؤمنين الصادقين الطيعين، ولا ترد للصديق الكبير (الاجنبي الكافر) طلبا مهما كان فظا وظالما، ان مثل هذه الانظمة لم يعد بإمكانها ان تستمر.

ليس لأي نظام من حام حقيقي الا شعبه.

ومن قبل كان (الامبريالي الاميركي) (يتسامح) مع انظمة تقمع شعوبها لمصلحته، وتشجع التطرف والتعصب لانه الاقدر على توظيفه ضد خصمه (الكافر).

اما اليوم فقد صار هذا (الامبريالي) الذي لم يعرف الايمان يوما، ولا هو اعترف بحق الشعوب في الحرية والاستقلال في اي زمان او مكان، يحاسب الانظمة على دينها ليأخذ منها دنياها... دنيانا.

كيف السبيل الى اقناع هذه الانظمة بأن شعوبها هي مصدر حياتها واستمرارها، وان (كلفة) المصالحة مع شعوبها لا تقاس بالكلفة الباهظة التي ستتكبدها مع (الامبريالي) من دون ان يعفيها دفع هذه الضريبة من السقوط؟!

محمد سعيد الطيب: لقد تأخر اعتقالك زمنا... وتقدم اطلاق سراحك زمنا. حسنا، تستطيع الآن ان تكتب افضل.

السفير ـ 2/4/2004