السعودية والحرب على الإصلاح

 د. مضاوي الرشيد

 نعم.. جاءت حملة الاعتقالات المتوقعة، فبعد اكثر من ثلاثة اشهر علي تقديم عريضة الاصلاح والتي دعت الي تغييرات شاملة في السعودية، منها تأسيس ملكية دستورية، والتي وقعها اكثر من مئة شخص من النخب ذات التوجهات المتعددة.. قامت الدولة يوم الثلاثاء 16/3/04 بعمل تعسفي ضد مجموعة صغيرة ربما هي نواة الموقعين على العريضة تلك. بهذا العمل كرست الدولة اسلوبها المعتاد الذي يمهل ولا يهمل، فها هي تزج بأكثر من سبعة اشخاص من ذوي العلم والثقافة والجرأة في السجن، وجريمتهم الوحيدة هي المطالبة بانشاء جمعية اهلية لحقوق الانسان بعد ان اعلنت انها قد اسست جمعية لهذا الغرض. علينا اليوم ان نقدر جرأة هؤلاء المصلحين، ونحيي مبادرتهم الأخيرة تلك والتي نظرت لها الدولة على انها خطيئة لا تغتفر، لأنها تشكل تحديا لمبادرتها هي.

ذلك ان جمعية اهلية لحقوق الانسان قد تسلط الضوء على امور تفضل الدولة ان تبقي في الظلام. فجمعية الدولة هي مبادرتها وستبقى تحت سلطتها وقد تم اختيار اعضائها ورئيسها ممن تثق بولائهم، وتأتي هذه المبادرة الحكومية كخطوة للتصدير الخارجي واسكات الرأي العالمي والداخلي باصلاحات سطحية.

المتابع للشأن السعودي يري بوضوح كيف ان الدولة تشن حربا علي الاصلاح رغم مقولتها التي ترددها دوما حين تعلن نيتها بالاصلاح ورغبتها في التغيير. للدولة في حربها على الاصلاح خططها واستراتيجيتها الخاصة بها وكذلك جنودها وعتادها. والاعتقال هذا والذي وصفته الصحف الموالية على انه استدعاء للاستجواب.. هو من الاستراتيجيات الفاشلة التي لا يلجأ لها سوي من نفد صبره وفقد وعيه وطفح كيله واصابته حالة من التخبط وعدم القدرة على التفكير، فهل الحالة يا ترى سيئة الي هذه الدرجة؟ هل فقدت السلطة بالفعل قدرتها على التجاوب مع المطالب الشعبية والتي تزداد جرأة وحدة يوما بعد يوم. هل فقدت الدولة اليوم ثقتها بمجنديها السابقين الذين تدربوا علي فن التمجيد والتقديس والتبرؤ من كل ما ينسب لها من تقصير وفساد واستبداد؟ هل عدمت الدولة في هذه اللحظات من يدافع عنها في الحلبات المعروفة ام ان المدافع السابق قد فضل اليوم الكتمان، وتقوقع خلف اسوار بيته خوفا من غضب الشعب وألسنته السليطة، والتي تستطرد في شبكات الحوار الالكترونية حيث يتقنع الرجل والمرأة بقناع الاسماء المستعارة ليسلط قلمه على الابواق التي هي في طريقها للانسداد، واقلامها التي بدأ حبرها يجف.

قد يعود لجوء الدولة للاعتقال في حربها على الاصلاح الى عدم ثقتها بامبراطوريتها الاعلامية من صحف مكتوبة وقنوات سمعية ومرئية والتي كانت منذ تأسيسها قنوات تنشر التمويه وتزيف الحقائق بطريقة سردية وسطحية تخلو من الحس التحليلي والنقد البناء، رغم انها تدعي اسلوب الحوار، وتصرف الملايين على برامج الوعظ السياسي الذي يكرس الهيمنة والاستبداد.

وقد تكون الدولة في حربها علي الاصلاح قد استهلكت الخطاب الديني لدرجة انه لم يعد من الممكن اعادة استعماله وتجديده وبث الروح فيه بعد ان جفت ينابيعه ويبست اعواده وماتت وسائل اعلامه. لقد سئمنا سماع المقولات التي تعتبر حقوق الانسان ليست من الدين، والانتخابات يحرمها الشرع، وعمل المرأة مرفوض من باب سد الذرائع، وحرية الرأي تطاول على مباديء الاسلام، وحق التجمع مرفوض خاصة في المساجد، والنصيحة للحاكم مخالفة للنص الديني، خاصة اذا تسربت الي الصحافة، والاعتصامات والمظاهرات فتنة للمسلمين، والديمقراطية بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل داعية للاصلاح مرتد يقوض المصلحة العامة، وكل من تكلم بالشأن العام يطمع لمنصب ما، او تراوده غريزة الشهرة وحب النفس.

تصف الحكومة المطالب بالاصلاح بأنه من اهل البدع الليبرالية، فهو يستورد الافكار الغربية، وهو علماني او شيوعي سابق او قومي يروج افكار دول مجاورة لا تتلاءم مع خصوصية البلد ودينه. اما داعية الاصلاح من اهل الاسلام فهو ـ بنظر السلطة ـ مرتد ينادي بالاصلاح لغاية في نفسه، وهو يتطاول على اولي الامر والعلماء، ويخرج عن اجماع الامة، ويحرض على الفتنة تحت شعار الاسلام المستورد ربما ايضا من دول مجاورة.

بالاضافة الى استخدام الصحافة الموالية والدين كسلاح فعال في الحرب على الاصلاح نجد الدولة تجند طائفة اخرى من اصحاب العلم والمهارات، اي الخبراء الذين ربطوا مصيرهم بالامراء. على سبيل المثال، وصل الاسبوع الماضي الى لندن مجموعة من اعضاء مجلس الشورى في زيارة هدفها المعلن ـ حسب قول احدهم ـ الاستفادة من تجربة بريطانيا في الديمقراطية والحوار والحياة البرلمانية، ورتبت للمجموعة لقاءات صحافية وثقافية وسياسية لاتاحة الفرص لتبادل الاراء.

وبالفعل كان احد اللقاءات الصحافية مع صحافي من جريدة الغارديان كتب بعدها هذا الصحافي وبالخط العريض: المرأة السعودية ستعطي حق التصويت في الانتخابات القادمة، واشار الى ان هذه الخطوة جريئة رغم انها حسب قوله مبهمة بعض الشيء، لان التصريح جاء بطريقة خاصة، فالمرأة ستصوت لأنه لا توجد اي عقبة في وجهها!

وفي اطار حواري آخر اعلن احد اعضاء الوفد لحشد من الصحافيين والسياسيين والاكاديميين انه تم تشكيل لجنة لدراسة موضوع مكافحة الفساد، وبعد ان اثنينا على هذه الخطوة الجيدة تقدمنا بالسؤال التالي: من اين ستبدأ الحملة على الفساد؟ من رأس الهرم ام من اخمص القدمين؟ تفضل علينا العضو بالرد وقال: ان اللجنة ستبدأ عملها بأقرب وقت وستنظر لكل الفساد بدءا من الفساد البيروقراطي! نحن هنا بصدد ضرب البيروقراطي بالبيروقراطي والخبير بالخبير، وليس بصدد محاربة الفساد الحقيقي الذي يتجاوز المخيلة والتصور، وقد وقع العضو هذا بالفخ الذي نصب له، وكان من الافضل له ان يعترف اعترافا قطعيا بصغر حيز عمله وتقلص صلاحياته بدلا من الغوص في امور عويصة تفقده احترام الحضور.

وقال خبير آخر ان تجربة الشورى كانت غير منقطعة خلال العقود السابقة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا اذن اسس مجلس الشورى هذا عام 1992 وصرفت عليه الاموال الطائلة اذا كانت الشورى قائمة وضاربة اطنابها في البلد؟ وتحدث عضو اخر عن ظاهرة محمودة الا وهي حرية الصحافة التي زعم انها اليوم مستشرية في الصحافة المحلية، ونسي ان حرية الصحافة المزعومة هدفها ضرب اعلام الاصلاح على اختلاف توجهاته والوانه، غرضه تسليط اقلام الاسلامي على الليبرالي والعكس، وبعد ذلك يصرف الاهتمام لامور البطالة والمجاري والفقر دون معالجة الاطار السياسي الذي تترعرع فيه هذه المشاكل.

اليوم بعد ان تم تجنيد العلماء والصحافيين والخبراء في الحرب علي الاصلاح وتسلحت الدولة بقدسية النص وقلم الصحافي وهيبة العالم واختصاص الخبير.. نراها اعلنت افلاسها عندما زجت بدعاة الاصلاح في السجن. ان المسألة ليست مسألة بيان او ملكية دستورية او لجنة حقوق انسان. ان مشكلة الدولة مع المسجونين هؤلاء مشكلة ابعد من هذا بكثير. فالحرب على الاصلاح سببها الوحيد والحقيقي هو ضرب تيار جديد يصعب على الدولة تفكيكه بالطرق المعروفة، المقصود بالتيار هو التحالف بين قوي وطنية مختلفة الاتجاهات.

كان من السهل في الماضي ضرب الليبرالي بالاسلامي والعكس صحيح. ولكن الاصلاح اليوم مطلب يجمع تحت رايته ليس فقط من يشترك في الرأي، بل اولئك اصحاب الاتجاهات المتناقضة او المتعارضة بعضها مع بعض. لقد حصل هذا التحالف بالفعل عندما قدمت وثيقة ديسمبر الاصلاحية والتي وقعها رجال ونساء من مختلف التيارات الاصلاحية. لقد ايقنت الدولة ان ضرب هذا التيار ليس بالامر السهل، لذلك لجأت الى الاعتقال كحل اخير في حربها علي الاصلاح. ولكنها لن تنجح طالما انها تحارب علي جبهتين في وقت واحد. لن تستطيع الدولة بوضعها الحالي ان تنتصر في حربها علي الارهاب وحربها علي الاصلاح.

 

عن القدس العربي، 18/3/2004