لا إصـلاح إلا مـن الخـارج

 

جهاد الزين

 

 

يعيش العالم العربي... عموما، ليس فقط بقيادة سلطات دول أساسية فيه، بل أيضا بـ (قيادة) لعدد واسع من مثقفيه ونخبه العاملة في الشأن العام... يعيش داخل "مناورة" سياسية - فكرية ضخمة. انها (مناورة) (وأرجو ان لا يكون مصطلح (مناورة) أفقر من المعنى الذي أريده هنا) يمكن اعتبارها مناورة على الذات كما على الآخرين. ولهذا فهي أكثر... من (مناورة!) تقول "المقولة - المناورة" العربية السائدة ليس فقط منذ سقوط نظام صدام حسين العام المنصرم في بغداد، بل منذ الاعلان الاميركي عن (مشروع اصلاح) للعالم العربي، البادئ ـ للتذكير ـ مع خطاب للوزير كولن باول، تلاه الخطاب الشهير للرئيس جورج دبليو بوش... وتحول لاحقا الى ما أصبح يعرف بـ (مشروع الشرق الاوسط الاكبر..).

تقول هذه (المقولة ـ المناورة) العربية إذن، أن (الاصلاح يجب ان يتم من داخل مجتمعات ودول المنطقة لا من خارجها).

إنها الآن المقولة الدفاعية الأهم في العالم العربي... وتلتقي حولها فئات وأفراد مختلفون ايديولوجيا ولكنهم يرفعون خطابها سواء في تخاطبهم مع محيطهم العربي او مع الخارج... كما (تجتمع) على تأييدها ايضا فئات وأفراد من نوعين: نوع يصدق المقولة اي يؤمن بها، ونوع يقول بها ولا يؤمن بها... لأنه أصلا لا يريد اي اصلاح..

 لن ندخل هنا في مستويات أخرى حول هذه المقولة لا سيما معيار التمييز بين (القادر) على الاصلاح وبين (الراغب) بالاصلاح. فهناك بعض الانظمة السياسية العربية غير قادر على الاصلاح أصلا. لقد سقط صدام حسين وفقد كل شيء ولم يقدم تنازلا واحدا جديا لبعض أفراد من (المعارضة) مدت يد (الصداقة) له. لم يقبل ليس لأنه غبي... على العكس فهو حاكم يعرف كيف يحتفظ بالسلطة طويلا، ولكنه رفض لأنه لا يستطيع ان يغير أو يتغير وكان يعرف ان أول (تنازل) نوعي يقدمه سيعني انهيار النظام بكامله. كذلك لن ندخل هنا في مستوى آخر تتمدد فيه هذه (المقولة) الى (مقولة) أخرى تواكبها عادة ورائجة لدى عدد من المثقفين العرب.. انها التأكيد على أن الاميركيين لا يريدون أصلا أي اصلاح وهم يستخدمون الشعار لمجرد خدمة مصالحهم... وعندما تتحقق المصالح يتخلون نهائيا عن هذا الشعار. ايضا لسنا هنا في مجال التدقيق بمدى التبسيط الذي تنطوي عليه هذه (المقولة المواكبة) والتي استخدمها مع الاسف (مثقفون) و(أكاديميون) ذوو سمعة محترمة عشية حرب العراق وخلالها وبعدها بطريقة كانوا يمالئون فيها حكومات عربية لهم طموحات معها. وقد أساء تبسيطهم كثيرا الى فكرة (الاصلاح) لأنه سهّل الامر على معارضي أي اصلاح بتحويل التهمة السهلة - كالعادة - على (الكذب الاميركي). لن أسمي الآن بعض هذه الاسماء التي لعبت دورا رديئا جدا في هذا المجال، فخدمت في الفترة الاولى (اللوبي الصدامي) والمصالح الفرنسية - الروسية التي كانت مستفيدة من استمراره. ثم بعد سقوطه، خدمت (القوى الرجعية) المعادية لأي تغيير... فخان هؤلاء المثقفون (أكرر ذوو السمعة المحترمة) دورهم الطليعي... لأن النقد، بل المواجهة مع العديد من وجوه السياسة الاميركية في المنطقة، وفي المقدمة السياسة الاميركية مع اسرائيل، لا يجب ان يتحول الى (ورقة) دفاع عن كل ما هو رجعي وفاسد في المنطقة.

لنقف عند المقولة الرائجة: لا اصلاح الا من الداخل. من يؤكد ذلك في عالمنا العربي؟ فالسؤال الجوهري هو ماذا يعني (الداخل) و(الخارج)؟.

 أولاً ماذا يعني على المستوى الثقافي ـ  المعرفي: لا أرى (داخلا)... فثقافياً ومعرفياً ليس هناك داخل بلداننا الا (الخارج) في عالم اليوم. (الخارج) هو نمط الحياة، ووسائل الاتصال والافكار والجامعات والتكنولوجيا... وكلها عناصر في داخل داخلنا... نقيس منذ القرن التاسع عشر (على الاقل) كل مستوى حياتنا العامة (والخاصة) على اساس مدى تمكننا من استيعاب هذا الخارج، عبر استيراده ونأخذ على انفسنا في معايير الاقتصاد مدى تقصيرنا في الاستيراد، ثم حين نريد ان نصعد النقد... نطرح مدى استيعابنا لما نستورد.

لقد قرأت الوثيقة الهامة والجادة التي صدرت عن (مؤتمر الاسكندرية) وسأقول لاحقا باختصار لماذا هي هامة وجادة. الا انني اختلف مع (الطربوش) الذي رفعته الوثيقة في مقدمتها والقائل انه لا اصلاح الا من الداخل..

بكل صراحة لم اجد اي فارق نوعي بين الافكار الاصلاحية التي حملتها (المبادرة الاميركية للاصلاح) والنصوص التي قدمت عنها وبين الافكار الاصلاحية التي حملتها وثيقة الاسكندرية.

دعونا لا نتكاذب... حتى (طربوشياً) أي حتى لو كانت النوايا الاصلاحية جادة جداً كما تنم عنها وثيقة الاسكندرية. الافكار والمقترحات التي تحملها الوثيقة للاصلاح هي (نفسها) جوهريا الافكار الاميركية. فأين هو (الداخل) لا أرى الا خارجاً... في داخلنا تدعو وثيقة الاسكندرية في مجال الاصلاح السياسي الى فصل السلطات، الى وضع سقف زمني لولاية الحكم (اي لرئيس الدولة) الى اطلاق سجناء الرأي، الى الانتخابات، الى اعطاء الحرية لجميع التيارات الفكرية.. أين هي الافكار (الخاصة) غير الخارجية هنا؟ لا ارى...

تدعو الوثيقة الى استقلال وسائل الاعلام عن السلطة والى تعزيز معايير شفافيتها (اي منع فساد الصحافة (المستقلة)، (وهذا مهم جداً) والى ضبط التمويل الاجنبي على أساس معايير الدول المتطورة (اي ليس على اساس معايير الدول المتخلفة وانظمتها الاستبدادية التي ينتمي اليها الموقعون العرب على وثيقة الاسكندرية... وهذا فارق نوعي يعرف قيمته بصورة خاصة كاتبو الوثيقة! ويسجل لصالحها.

كما تدعو الوثيقة في عدد من المقترحات الهامة الى تعزيز (جودة التعليم)، مستواه، نوعيته، وفي مجال الاصلاح الاقتصادي تحمل هم اطلاق آليات السوق ولكنها في آن معا تؤكد على ادراج همّ البطالة وخلق الوظائف في قلب الحساسية الاجتماعية للاصلاح الاقتصادي.

لا ارى داخلاً في كل هذه المقترحات. لا ارى الا خارجاً.

ينبغي إعادة النظر في الاستخدام الببغائي لخطاب الخارج والداخل فكل دواخلنا الاصلاحية مصدرها خارجي. لا داخل في حياتنا الا (المستوى الامني) لتطبيق فكرة السيادة، وهنا تصبح فكرة استبعاد الخارج مقبولة في هذا النطاق الامني للتطبيق السيادي. اما في عالم اليوم، قبل ثورة المعلومات وبعدها، يعاد النظر عميقا بالمجالات العملية للتطبيق (السيادي) للدول. ليس بين عالمنا المتخلف و(الامبراطورية الاميركية) بل بين هذه الامبراطورية ودول متقدمة مثل فرنسا والمانيا... (وكل اوروبا وكندا واليابان).

لا اصلاح الا من الخارج بهذا المعنى الداخلي للخارج. المعنى المحسوم حضاريا وتاريخيا.

وللتذكير: عيب ان نسمي الانتخابات وفصل السلطات وتداولها افكارا (داخلية)!

النهار اللبنانية ـ 31/3/2004