يمينيون حتى النهاية

العائلة المالكة وأزمة (الجمهوريين الجدد)
مهمّة إصلاح السعودية بدأت مع كندي وقد تنجز على يد بوش!

 حمزة الحسن

 لأول مرة في تاريخهم الحديث، يتمنّى الأمراء السعوديون فوز الديمقراطيين في الإنتخابات الأميركية القادمة. فالأصل ـ كما قال أحد الأمراء ذات مرة ـ أن أمراء العائلة المالكة جمهوريون، محافظون، ولكن بلباس ملكي!

يمكن اختزال الموقف السياسي السعودي العام بالقول أنه موقف يميني محافظ، همّه إبقاء الأوضاع السياسية سواء في المملكة أو في المنطقة أو في العالم كله، على ما هي عليه. فنزعة الديمقراطيين الأميركيين الغالبة ـ منذ التسينيات على الأقل، تميل الى فرض بعض التغيير السياسي في الدول الحليفة للولايات المتحدة الأميركية، كإحدى وسائل التحصين من الشيوعية. تنقلب الصورة اليوم، حين نجد أن المحافظين الجدد وكأنهم اختطفوا مشروع الديمقراطيين، بل وزادوا عليه كثيراً. فالديمقراطيون يميلون الى النصح والتحذير، أما المحافظون الجدد، فكما نراهم اليوم يهددون بالعصا الغليظة، بالتقسيم، بإسقاط العائلة المالكة إن لم تلبّ التوصيات الأميركية.

كان الأمراء السعوديون يجدون ملاذاً لدى المحافظين القدامى من (تهورات) الديمقراطيين، ولم يكن الملوك السعوديون يجدون صعوبة كبرى في تحمّل الديمقراطيين مادامت المؤسسة الأميركية عامة تميل الى المحافظة وجني المكاسب الإقتصادية ـ التي يقدمها السعوديون على طبق من ذهب ـ على حساب حقوق الإنسان والعلاقات المتوازنة والإصلاحات السياسية. وفي حال تزايد الضغط، يلجأ السعوديون الى اللوبي الذي صنعوه في خدمتهم، من آلاف الشركات المستفيدة، والشخصيات المنتفعة التي يدفع لها المال بسخاء لمجرد اتقاء شرّها، او لكسب دعمها. ولهذا كان الديمقراطيون وهم على رأس السلطة، يجدون صعوبة في تطبيق مشروعاتهم، خاصة ما يتعلق منها بالشق السياسي المرتبط بالتغيير في السعودية.

والملوك السعوديون اعتبروا معركة المحافظة مقابل الديمقراطية والتغيير معركة عالمية، لم تبدأ اليوم، بل هي من صميم الفعل السياسي والنشاط الخارجي للمملكة. إنها معركة تدور رحاها على كامل الكرة الأرضية. فالسعوديون حريصون على أن لا يطوقوا إقليمياً ولا عربيا ولا دولياً بأنظمة (تغيير). ولذلك كنتَ، الى ما قبل وصول بوش الإبن، تجدهم في اميركا جمهوريين مقابل الديمقراطيين، وفي بريطانيا هم محافظون مقابل العمال، وفي فرنسا يفضلون الجمهوريين الديغوليين على الإشتراكيين، وفي إيطاليا كانوا يمولون حملات انتخابية يمينية تضعف فرص الحزب الشيوعي الذي كان قوياً هناك من الوصول الى السلطة، وفعلوا ذات الأمر في اليونان ومع مصر السادات وسياد بري الصومال، كما رفضوا التغييرات السياسية الإصلاحية في البحرين والكويت في منتصف السبعينيات والتي ادت الى إغلاق البرلمان البحريني، وتضعضع شقيقه الكويتي اكثر من مرة، الخ.

باختصار.. هم يمينيون أينما وجد اليمين واليسار، رغم تذرعهم بسلوك الجادة الوسطى، جادّة الإسلام. أما إذا كان الخيار بين اليمين والوسط، فقد يزايدون بانتهاج يمين اليمين! أي اليمين المتطرف.

غير أن انتخابات كل الدنيا لا تعادل في أهميتها ـ بالنسبة للأمراء السعوديين وربما غيرهم أيضاً من مسؤولي الدول ـ انتخابات الولايات المتحدة الأميركية. فالمملكة تنظر الى تلك الإنتخابات وكأنها شأن محلّي، يعادل في أهميته التحولات الكبرى التي تجري في البلاد نفسها على قلتها. خاصة هذه الإنتخابات القادمة التي تتطاير منها نُذُر التهديد والشرّ!

تأتي الإنتخابات الأميركية في ظل توجّس سعودي لم نرَ له مثيلاً.. إنه الخوف على المصير، وليس على مجرد تغيير شكلي في أوضاع الدولة والقائمين عليها. ولَئنْ نجحت الخارجية الأميركية في اختطاف بعض السلطة من رموز التطرف اليميني، وأقنعتهم باستعمال (السياسة والضغط) بدل (السلاح والمفرقعات) في سبيل تغيير أوضاع الشرق الأوسط، فإن المسؤولين السعوديين الذين لم يخفوا ارتياحهم مما جرى ـ رغم أنه ليس ثابتاً استمراره ـ فإنهم من جهة أخرى يدركون أن عصا التهديد لازالت مرفوعة بيد المحافظين، وكأن حمائم الخارجية مجرد (حاصد) لسياسة التهديد، التي ما إن تفشل في مهمتها، حتى يعود صاحب العصا ليقرع بها الرؤوس.

المملكة اليوم ودول عربية وإسلامية أخرى تحاول ان تواجه بتحدّ المشروع الديمقراطي الأميركي المسوق لدى الأوروبيين، والذي تجلى في مبادرة الشرق الأوسط الكبير. والمملكة التي لا تستطيع المقاومة وحدها، تبذل جهداً مع الآخرين (تجلّى في زيارة حسني مبارك للرياض في 24 فبراير الماضي) من أجل صدّ تلك الدعوات المشفوعة بالعصا. وكانت الحجّة كما عبر عنها مبارك مكرورة: إن العالم العربي لا يقبل ان يفرض عليه شيء من الخارج! وان المجتمعات العربية ترفض ذلك، وأن الديمقراطية بناء داخلي رهين بتحولات داخلية، الخ.

الحقيقة هي أن القيادات العربية خاصة السعودية لديها من الإستعداد للتنازل عن السيادة والكرامة والخيرات من أجل البقاء في السلطة، وهم إنما يفعلون ذلك حتى لا تكون هناك منغصات للجالس على الكرسي، اما اذا تحول الأمر الى التغيير فإنهم يرفضون، وأنى لهم القبول؟! حينها تظهر دعاواهم الكاذبة بشأن السيادة المخروقة منذ زمان والإستقلال المنتهك في كل آن، والخصوصية المفتعلة، والنوايا المراوغة.

 تحولات التاريخ والحاضر

 لا يريد السعوديون اليوم أن ينتصر بوش، وهم يعتقدون أن التحول في سياسة اميركا تجاه الشرق الأوسط والذي حدث في أعقاب 11 سبتمبر كان مجرد تحوّل آني، مرهون برجاله، وليس تحوّل مؤسسة. غير أن المسألة ليست هكذا، فكما كان الديمقراطيون عاجزين عن تغيير الموقف السعودي بسبب المؤسسة المحافظة في واشنطن، فإن الديمقراطيين أنفسهم لن يتخلّوا عمّا أتى به بوش فيما لو انتصروا عليه، ذلك ان تحولاً عميقاً طرأ على مؤسسة الحكم في الولايات المتحدة الأميركية، بل في الغرب بمجمله. ولا ينتظر أن تكون سياسات الديمقراطيين نسخة مختلفة عن نظرائهم الجمهوريين، بل قد يفاجأ السعوديون في حال فوز الديمقراطيين بأن الأخيرين أشدّ إلحاحاً على إجراء التغييرات الداخلية. وكما يُنظر الى الإنتخابات الأميركية وكأنها شأن سعودي، فإن الأوضاع السعودية ـ من وجهة نظر واشنطن ـ أصبحت بعد 11/9 شأناً أميركياً!

كان الأمراء يتمنون من القلب فوز بوش الإبن على كلينتون، ليس لسبب أنه يهتم بالشأن الخارجي، أو لأن موقفه أكثر صلابة من الديمقراطيين تجاه اسرائيل، فهذا الموضوع لا يشغل بالهم كثيراً في ذلك الظرف كما هذا الظرف. لقد فضّلوه على كلينتون لجرأته في استخدام القوة والعضلات ـ كما أبيه في الكويت ـ لحماية حلفائه، وتلك كانت سياسة الحزب الجمهوري، لم تبدأ بريغان ولكن لتنتهي عند أعتاب (غزوة مانهاتن)! في حين كان كلينتون وضمن برامج سياسته الخارجية (تشجيع مسيرة الديمقراطية والتحرر الإقتصادي) وهو امرٌ لم يكن ليعجب السعوديين، خاصة وأن الديمقراطيين شكلوا لجاناً لتشجيع الديمقراطية في حال فوزهم، سبق لها أنها كانت عديمة الفاعلية بسبب أن المؤسسة الحاكمة لم تكن في هذا الإتجاه، وكانت ترى أن الديمقراطية ستأتي بالإسلاميين وبالإرهاب.

ومع أن الديمقراطيين كانوا واعين بأن (النظم الديمقراطية قلما تتحارب فيما بينها أو تدعم الإرهاب) كما كتب كلينتون ذات مرة، إلا أن من وضع النقاط على الحروف هو جورج بوش الإبن. فهذا الحاكم يرى أن تغيير السعودية من الداخل كما مصر وسوريا وإيران، يدخل في صلب الأمن القومي الأميركي، مثلما كان عكس ذلك في عهد كارتر الذي كان ينظر الى التهديد الخارجي للسعودية الذي نتج عن سقوط الشاه، خطراً على الأمن القومي الأميركي، وقد قال حينها بأن (الحفاظ على السعودية جزء من الأمن القومي الأميركي).

والحقيقة ان تجربة السعوديين مع الديمقراطيين كانت غير مريحة. فكارتر الذي جاء بمشروع الدفاع عن حقوق الإنسان، فرّط ـ من وجهة نظر اليمينيين الأميركيين كما السعوديين ـ بأعزّ حلفاء اميركا في المنطقة. والسعوديون اليوم يستعيدون تجربة جون كندي الديمقراطي في الستينيات، ويأملون من جورج بوش الإبن ان ينتهجها: الضغط الهادئ بتعديل مسار السياسات بشكل سطحي قشري. مع ان تلك التجربة كانت بداية تحول مهم في السعودية نفسها.

فكندي مارس ضغطاً شديداً على ولي العهد السعودي فيصل، والذي كان يومها يقوم بتصريف الحكم بالنيابة عن أخيه الملك سعود قبل ان يزاح هذا الأخير نهائياً في 1964. كانت الظروف السياسية في المنطقة قلقة للغاية بفعل الثورات والإنقلابات خاصة في اليمن والتي راكمت الحاجة الى تعديل في النظام السياسي السعودي. كان فيصل في زيارة لنيويورك في منتصف سبتمبر 1962 لحضور اجتماع الأمم المتحدة، وقبل ان ينهي زيارته وقع انقلاب عبد الله السلال في اليمن وألغى الملكية المتوكلية وأعلن قيام النظام الجمهوري. ورغم ان العائلتين الحاكمتين في اليمن والسعودية لم تكونا طيلة التاريخ الذي سبق الإنقلاب على علاقة حسنة، إلا أن الإنقلاب كان صاعق التأثير في البلاط السعودي.

على عجل رتّب فيصل لقاءً مع كندي، فزار البيت الأبيض في 5 اكتوبر 1962، توصل الطرفان خلاله الى تفاهم مشترك، بحيث يدعم كندي الأمير فيصل في صراعه مع أخيه سعود الضعيف، الذي أساء في أواخر أيامه الى العلاقات بين الرياض وواشنطن، مقابل أن يقوم فيصل نفسه ـ في سبيل مكافحة المدّ الثوري التغييري الذي يحيط بالمملكة من معظم الإتجاهات ـ أن يقوم بتعديل الأوضاع السعودية الداخلية كإحدى وسائل الحماية والمواجهة للمخاطر. وفرض كندي على فيصل أن يبدأ برنامجاً إصلاحياً ينزع فتيل عدم الإستقرار، كما انتزع كندي من فيصل تعهداً بذلك، مقابل تعهد اميركي بحماية العائلة المالكة وسلامة اراضيها من التهديدات الخارجية.

عاد فيصل لتلحقه برقية من كندي يقول له فيها: (ذكرت لكم وأود أن أكرر أن البلاد العربية السعودية تستطيع أن تعتمد على صداقة الولايات المتحدة وتعاونها في تصريف المهام العديدة التي تمثل امام بلادكم في الأيام القادمة. وإن للولايات المتحدة اهتماماً عميقاً باستقرار البلاد العربية السعودية وتقدمها). وربط كندي موضوع (التطوير العصري والإًصلاح) بحماية أميركا وتعهدها بسلامة الأراضي السعودية (وفي اتباعكم هذا السبيل لكم ان تكونوا على ثقة من مؤازرة الولايات المتحدة الأميركية مؤازرة كلية في الحفاظ على سلامة كيان المملكة العربية السعودية). وأضاف مشيراً الى الأجواء الإقليمية المتوترة (التي تعرقل خطتكم لتعزيز الجهاز الحكومي والكيان الإجتماعي في البلاد السعودية): (وكما أبلغتكم في واشنطن، فإن الولايات المتحدة راغبة في ان تكون ذات عون على ايجاد وسائل تخفيف التوتر). وأوضح كندي بصراحة بالغة، بأن نمط العلاقات القائمة في السابق بين المملكة واميركا يجب أن يُبنى على أسس جديدة. ليس المصالح المطلقة، بل المصالح المرتبطة بالتزام المملكة بما يمكن تسميته اليوم بموضوع حقوق الإنسان والحريات العامة، والتي بدأت إشاراتها الواضحة تترى وكانت نهايتها المبادرة لدمقرطة المنطقة والمدعومة من الإتحاد الأوروبي. يقول كندي: (والذي أراه لبلدينا في المستقبل، ليس هو مجرد الإستمرار في العلاقات الودية التي بدأت تلك البداية الخيرة في عهد والدكم الراحل الملك عبد العزيز بل إنني أترقب افتتاح فصل من العلاقات السعودية ـ الأميركية، تكون فيه العروة التي تربط بيننا، من تعهد كل منا لمصالحه، تعهداً مستنيراً، وثيقاً بولائنا المشترك لما للإنسان من حقوق راسخة في تحقيق الذات والتقدم والحرية).

رد فيصل على كندي بأن أشار الى اجتماع واشنطن والى برقية كندي آنفة الذكر، فقال (بأن المملكة تستطيع الإعتماد على صداقة الولايات المتحدة في اضطلاعها بمختلف الأعباء التي قد تواجهها في مستقبل الأيام) كما أشار الى ثقة الرئيس الأميركي (بأن الحكومة التي أرأسها ستمضي قدماً في الأخذ بالنظم العصرية والإصلاحات التي هي ضالتنا المنشودة). وقال فيصل في رده: (إنكم تشاطرونني القلق بالنسبة لحالة التوتر التي تحيط بالمنطقة، والتي من شأنها تعطيل ما عقدنا عليه العزم من تقوية نظام الحكم في بلادنا والسير بمجتمعنا في مدارج التقدم) وأكد (بأن تكون الرابطة التي تربط البلدين قائمة على تعهد كل منا لمصالحه تعهداً مستنيراً على أساس من الإيمان الراسخ بما لبني الإنسان من حقوق أكيدة في أن يحقق قابلياتهم في الرقي والحرية). وتابع: (ونحن من جانبنا، لا ندخر أي جهد في سبيل إقامة العلاقات على أساس من الإدراك الواعي للمصالح الحقيقية لكل من البلدين لخيرهما المشترك، ومن أجل هذه الغاية، ستمضي حكومتي نحو توثيق علاقات الصداقة والمودة التقليدية، ونحو زيادة التعاون المثمر في كافة الميادين بين البلدين).

الأكثر من هذا أشار فيصل ليس فقط الى الإصلاحات بصورتها العامة وتقوية نظام الحكم بل وإلى (مؤسسات ديمقراطية) والى حرية الشعب في التعبير عن ذاتيته وأمانيه. يقول: (ولقد قدرنا لفخامتكم ما يسود المنطقة من توتر وما يشغلها من اتهامات ومشاحنات عنيفة لا تؤدي في تقديرنا لغير بعثرة الجهود البناء المثمرة، ولغير تحويل الإنتباه عن القضايا الحقيقية الأصلية لشعوب هذه المنطقة، وهي مكافحة التخلف ورفع مستوى السكان، واستغلال كافة طاقاتهم وزيادة دخلهم القومي وتزويدهم بمؤسسات ديمقراطية للحكم يستطيعون في ظلها التعبير عن ذاتيتهم وأمانيهم وآمالهم في حرية بناءة تستهدف إدراك قابلياتهم في مختلف الميادين)!

وتعهد الملك فيصل خطياً بعد أن تعهد شفهياً بالتالي: (أياً كان الأمر، فنحن ماضون في تنفيذ ما عقدنا عليه العزم من تزويد بلادنا بمؤسسات حديثة للحكم، تناسب قومنا، وتلتئم مع مزاجها، وينعم المواطن في ظلها، بحقوقه الإنسانية الأساسية، واستخلاص قابلياتها لخيره، وخير المجتمع الذي نعيش فيه، كما نحن ماضون في تنفيذ سياستنا الإصلاحية الشاملة التي يعود نفعها على طبقات الشعب جميعاً.. ولن يثنينا عن المضي في هذه السياسة الإصلاحية الشاملة أية عقبات بالغة ما بلغت مؤملين بإخلاص أن تزول العوامل التي تضطرنا لتكريس قسط كبير من جهودنا ومواردنا للدفاع عن كياننا، ضد ما يوجه الينا من محاولات وحملات للنيل منا، فنوه كل امانينا وطاقاتنا للعمل الإنشائي البناء).

 

ما أشبه اليوم بالبارحة!

 

قام فيصل فعلاً بإصلاح شامل، لكن أمراً واحداً مهماً لم يفعله، وهو أنه لم يقترب من الدمقراطية شبراً. لا مؤسسات ولا حقوق. بل حتى تلك الفسحة القليلة التي ظهرت في عهد سعود ألغاها، وأمم الصحافة من جديد بعد أن وضعها في إطار المؤسسات! بل حتى المؤسسة الدينية ألغى منصب المفتي وضيّع السلطة في هيئة كبار العلماء قبل أن تعود مجدداً في يد المفتي!

بعد نحو 42 عاماً من ذلك التاريخ، نجد أنفسنا اليوم محاصرين بنفس اللغة القديمة، وبنفس العقليات، مع اختلاف الظروف. كانت خشبة الإنقاذ للحكم السعودي هو أن كندي قُتل أولاً، وثانياً كان هناك استمرار للمعارك الخارجية في اطار مكافحة الشيوعية، فتنازل الأميركيون عن موضوع الديمقراطية، لأنه لا يهمهم ولم يكن في مصلحتهم. والسعوديون كما ذكر فيصل كانوا يتحدثون عن أولويات: مكافحة الشيوعية قبل الإصلاح. ومكافحة العدو المتربص عند الحدود المصرية والعراقية واليمنية قبل الديمقراطية. وقبل الإميركيون هذا المنطق.

اليوم، انتهت حرب اليمن، وانتهى اليمن الشيوعي، وانتهى التهديد الإيراني الفزّاعة، وانتهى صدام حسين هو الآخر، ولم تعد مصر ناصرية مهددة، ولا سوريا بعثيّة مخيفة. لا أعذار إقليمية تستدعي التأجيل! حتى حرب اسرائيل تخلّى العرب عنها منذ زمن وظهرت مبادرات الواحدة منها أسوأ من الأخرى: ابتداءً بمبادرة الملك فهد في فاس، التي اعترفت باسرائيل، وانتهاءً بمبادرة الأمير عبد الله في ابريل ما قبل الماضي في بيروت التي تطرح اعترافاً جماعياً عربياً مقابل حدود 1967م. عوضاً عن هذا، نرى المتخاصمين بالأمس، يقفون مجتمعين اليوم لصدّ الدعوات الديمقراطية، فلا يجدون إلا المزاعم المكررة القديمة، بأن الشعوب ليست مهيئة، وأنها لا تقبل بما يفرض من الخارج!

الأمراء السعوديون يكررون اللعبة القديمة: سنقوم وسنفعل كذا وكذا! ولكن وفق ثوابتنا! وفق خصوصياتنا! فإذا ما وجدوا منفذاً للهرب هربوا، ووضعوا دعاة الإصلاح في السجون كما فعلوا مراراً.

أين هي المؤسسات الديمقراطية التي وعد بها فيصل كندي؟ وأين هي المؤسسات الحديثة (التي تناسب قومنا وتلتئم مع مزاجها)؟! لم نرَ شيئاً، فالمزاج المحلي كان فيصل يقصد منه اصلاحاً جزئياً، وحتى هذا لم يتم الى هذا اليوم! مع ما نراه من دعوات وعرائض تطالب بالحريات الأساسية والدستور والمشاركة الشعبية وحقوق الإنسان!

لقد جرت تحولات دولية وإقليمية لم يستفد منها صانع القرار السعودي، ولذا تراه يسعى لأن يبدأ من الصفر مرّة أخرى. من بين تلك التحولات: سقوط الشيوعية، واضمحلال اهمية الدور السعودي، وتحول عدد من الدول المجاورة الى الخيار الشعبي، لكن الأمراء السعوديين بقوا على حالهم، بالنظر الى ان سياسة اميركا لم تتغير. الآن ـ حيث بدت إرهاصات التغيير الجادّ في تلك السياسة ـ لم يجد السعوديون وهم في خضم المشاكل الداخلية إلا انتهاج وسائل الدفاع البدائي، الذي يستبطن رفض التغيير والذي قد يؤدي الى انهيار الدولة والنظام معاً لا بالفعل الأميركي وحده، بل لأن الخيار الديمقراطي الغربي يتقاطع مع الرغبات الشعبية.

إن الضغط القديم ـ الجديد الذي مارسه الديمقراطيون الأميركيون على النظام السعودي لم يسبق ان فعله الجمهوريون او آمنوا بأهميته وضرورته. فقد كانت وجهة نظرهم تجاه الإصلاح السياسي في المملكة تتلخص في التالي:

ـ العائلة السعودية المالكة أمينة في الحفاظ على المصالح الأميركية الحيوية، وليس هناك بديل عنها.

ـ المصالح الأميركية لن تتأثر بغياب الإصلاح السياسي في السعودية على المدى المنظور.

ـ الضغط من أجل إحداث بعض الإصلاحات في السعودية قد يؤثر على العلاقة بين الطرفين ويضرّ بالمصالح الأميركية.

ـ الإصلاح السياسي غير ملحّ، وقد يكون غير ضروري، أو حتى خطير، لأنه يأتي برموز التطرف الديني الى السلطة (يلاحظ ان الرموز الدينية السلفية جزء من السلطة السياسية والنظام القائم منذ قيام الدولة، وبالتالي فهم ليسوا دخلاء عليه بل أحد صانعي النظام والسياسة).

لسوء حظ الجمهوريين، ربما، أن أحداث سبتمبر وقعت بعد فترة وجيزة من تسلم بوش الإبن للسلطة، مترافقاً مع قلق بالغ حول مستقبل المملكة السياسي، حيث تنامي المدّ الأصولي ـ بنظرهم ـ وحيث الأوضاع الإقتصادية المتدنيّة، وحيث الإنشقاق في المؤسسة الحاكمة بين الديني والسياسي بل وفي داخل العائلة المالكة نفسها، إضافة الى سجل المملكة الأسود فيما يتعلق بالحريات والأقليات والمرأة والذي صار مدعاة للتدخل. كل هذا حرّك الجمهوريين باتجاه سياسة عالمية جديدة تشمل الحلفاء قبل الأعداء، وفي مقدمتهم المملكة السعودية.

يبدو أن هناك مهمة لم تكتمل، وهي إصلاح البيت السعودي أو تدميره كلياً وإعادة بنائه. قد يقوم بذلك الجمهوريون إن فازوا، ولن يتخلّى عنه الديمقراطيون وإن فشلوا!

هذه رسالة الإنتخابات الأميركية: أصلحوا أنفسكم أو فابتعدوا عن صناعة القرار!