درس في الوطنية

عبدالعزيز الصاعدي

 

لا يعني اللهاج اللغوي بمفردات المواطنة والوطنية ونحوها من المفردات أنها قوية ومتجذرة وصحيحة وصحية ومتحققة دلالاتها ومتفق على دالّها، بل ربما كان ذلك الاستهلاك اللغوي الجائر دليلاً على قلة الجرعات وضعف التركيز وفقدان التأثير لهذه المعاني التي تحملها تلك المفردات اللغوية لأنها مفرغة من محتواها الدلالي الصحيح ومضمنة دالاً نفسياً بل ربما كان ذلك اللّهاج اللغوي المتسارع إحساساً خفيا بفقدان المعنى وضعفه ومن ثم محاولة التعويض عن هذا الافتقار بالتعبير اللغوي استسعافاً به باعتسافه ظاهرياً لمعالجة وهنٍ مزمن وبتكراره.

في المجتمعات الناشئة أو الغضة أو المتأخرة يتنامى هذا الحقل الدلالي اللغوي المتصحر وبالتالي يقل الطرف المعادل له وهو الممارسة الفعلية للمواطنة جوهراً وسلوكاً وعملاً حيث لا تحاسب هذه المجتمعات على الأفعال والسلوكيات الممثلة للوطنية ولكنها تحاسب على الألفاظ والمصطلحات والتعابير مما يجعلها مجنّاً يتمترس به أفرادها ضد التخوين والخيانة. إن شيوع المحاسبة والمحاكمة على الوطنية وهي أساس فطري في كل مخلوق سوي هي شيء غير سوي وبالتالي هي نتاج أوضاع غير سوية. لأن الحقيقة أن المواطنة طبع لا تطبع وقناعة لا صنعة ولا تصنع وهي سلوك وعمل وجوهر بغض النظر عن العنونة والاصطلاح وليست تعابير مجوفة مفرغة من محتواها. هي شيء يكتسب ولا يمنح وبالتالي لا يسلب شأن كل مُكتسب مستحق مباين للممنوح في طريقة تملكه وفي الحرص عليه. كما هي حق مشاع للجميع وليس لأحدٍ احتكارها وادعاءها ولا احتكار إطلاقها ومن ثم سلبها أو التوصيف بها.

إن المواطنة ولاءٌ طبيعي في سياق طبيعي. ولاءُ الإنسان لأرضه وترابه وقوته وأهله وبيئته هذا أساس أول يتبعه الولاء بعد الرقي الفكري وبناء ذات الإنسان كياناً إلى الكيان، الدولة، النظام مادام معتقداً أن ذلك النظام متوافق معه ومع مصالحه ويرعاه ويحافظ على كيانه وعنوانه وهيئته وصفته الاعتبارية المعنوية والمادية. إن ترتيب المنظومة واستتباعها لحلقاتها والوعي بذلك وعياً سياسياً وحضارياً وفكرياً واجتماعياً معين أول على تجذر الوطنية والمواطنة الصالحة الصحية الصحيحة. لا تعني المواطنة الموافقة الدائمة والمسايرة للرسمي أو الاجتماعي أو العرفي السائد بل إن نقد السائد بصحة وصواب وحدب وحرص هو أرقى أنواع الوطنية وفي أحيان معينة لا يمكن أن تكون الوطنية إلا من خلال هذا الطريق حين يراد رد البوصلة إلى التأشير على المكان الصحيح والطريق الذي ينبغي أن يسلك.

إن كلمة آمين سهلة والمؤمنون كثر ولكن من يسأل ويستفصل ويستوقف لماذا؟ وكيف وأين؟ قد يبين الضلال والخطأ عن طريق مشاغبات (أحدهم) وأسئلته وقد يدل على الأصوب والأحسن ولكن في هذه الأجواء ينبغي ألا يبادر لتخوينه وسلبه وطنيته ومواطنته الصالحة. وقد سادت هذه الأجواء الصحية المتفهمة خلال العامين الماضيين في الطرح الصحفي خاصة من بين وسائل الإعلام وإن كان يؤمل أمران، أحدهما شيوع هذه النزعة وتعميقها وشموليتها في مختلف مناحي التعبير والتأثير، والآخر عدم نكوص المجتمع عنها وأن يغرس في وجدانه أن هذا الحس النقدي أحد أهم مسالك التعبير عن الوطنية على الرغم من كل ما يقوله المتعجلون من عدم تأثر المجتمع بالنقد وبطء استجابته للإصلاح ولكن عمر المجتمع ليس كعمر الفرد ويكفي أن يغرس في الوعي واللاوعي حتى يمكن أن تخلق قناعات توفر قوة دفع صالحة نحو وطنية الأفعال والجوهر لا الأقوال والتعابير وأن الثقة في الجميع وليس هناك من هو ثقة ومن هو ليس ثقة وأن الثقة كالمواطنة تؤخذ ولا تمنح ولا تسلب.

إن تجذير المواطنة وتوسيع آفاق الوطنية والعمل على جوهرها وبثها كسلوك وعمل خير من المحاسبة عليها ومماحكاتها اللفظية وأن هذه نقطة ينبغي تجاوزها وما الكتابة حولها إلا مؤشر سلبي ينبئ عن أين يقف المجتمع وأين ينبغي أن يذهب حتى يباين هذه السلبية.

(الوطن 8/2/2004)