دور العامل الديني في التحول الديمقراطي في السعودية

إجـتـمـاع الأضـداد *

 فؤاد ابراهيم

 إن الانقطاع المفاجىء للتيار السياسي بعد الاعلان عن الانظمة الثلاثة في مارس 1992 ومتوالياته لم يخمد الوعي بضرورة التغيير بقدر ما جمّد الفعل الناتج عنه، وهذا ما يفسّر الانتقال العاجل من لحظة فعل الى آخر غير منتسب اليه من حيث تسلسل الفعل التاريخي، ولكنه بالتأكيد عاكس دقيق لتحولات الوعي، التي تطمح الى إنجاز حركة أفعال موازية.  

ورغم ذلك، يبقى لبلادنا (خصوصية) فريدة حتى في التناظرات الايديولوجية تماماً كفرادتها في الجمود السياسي والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والامنية الخاطفة. وتنبىء حركة الافكار المتدفقة وسط أطياف سياسية وفكرية متنوعة في السنوات الأخيرة عن أن تدشينات سريعة قد وضعت لمرحلة تناظرات ايديولوجية حامية قادمة، وهي غالباً ما تكون تمهيدات ضرورية في التغيير السياسي والاجتماعي. وبطبيعة الحال، فإن دورة الجدل تجذب اليها ليس فقط الموضوعات الاشد ارتباطاً بموضوع التغيير، بل والقوى الفاعلة والمستفيدة أو المتضررة في أي تحول داخلي شكلي أو جوهري.

وإذا كانت إعادة إحياء المخزون الايديولوجي لدى القوى السياسية والاجتماعية بكل السفسطائية المندغمة فيه تفضي الى تحريك الجدل حول موضوعات ستكون جزءا حميمياً من الثقافة السياسية في مرحلة لاحقة، وأيضاً الى استرداد جزء من عافية الخيارات المؤجلة لدى الدولة وكثير من قطاعات المجتمع في الوصول الى مرحلة يكون الاصلاح السياسي بعناوينه ومضامينه المتشابكة قاعدة انطلاق جماعي فإن الانتاج الردىء للنقاشات المتوارثة حول قائمة الثنائيات الجدلية بين الدين ومنتجات الحداثة وإمكانية أو استحالة اللقاء بينها، قد يفسّر جزئياً على الاقل بوصفه تبديداً للوقت الأصلي والاضافي لعملية التحول والانتقال الى المرحلة النهائية من دورة الاصلاح السياسي التي لم يتقرر موعد نهايتها الحاسمة. ولكن، مهما يكن، ستفتح المرحلة القادمة الباب على حمى نشاط جدلي واسع النطاق وعميق حول موضوعات مستخرجة من المخزونات الايديولوجية لدى الطيف الواسع من القوى السياسية والاجتماعية في المملكة. ولا شك أن موضوعة الديمقراطية من حيث التعالق بينها وبين الثقافة السائدة إما نفياً أو إثباتاً تمثل واحدة من الموضوعات الجدلية في حركة أفكار بلادنا اليوم والغد القريب، مع التذكير بأن طبيعة المقاربات لهذا الموضوع ستختلف كلياً عن الكليشيات الرسمية المكرورة، والتي يراد منها الاحتفاظ بموقع دفاعي متقدم عن السلطة السياسية، والتي ترى في الاسلام نقيضاً أيديولوجياً وعملياً للديمقراطية، درءا لاهتزازات محتملة في مشروعية التأسيس الديني للدولة.

ليس هناك حاجة للقول بأن الاسلام يمثل دين الدولة الرسمي وهو الدين الذي يعتنقه ويمارسه الغالبية المطلقة من المجتمع. فالاسلام يمثل المرشد للافراد في كافة جوانب الحياة تقريباً، وبالتالي فإن المعيار الديني يحكم سلوك ومواقف الافراد والجماعات. لا ينفي ذلك وجود قوى الحداثة التي تصدر عن منهجية ليبرالية وتحقق وجودها وانتشارها وسط مساحة اجتماعية محدودة. إن هذا التكثيف الشديد والعام للخارطة الاجتماعية على خلفية دينية وايديولوجية يتطلب فصلاً دقيقاً بين المواقف الايديولوجية سيما حين يصبح الحديث عن تفسيرات متباينة للنص الديني، وبالتالي مرجعيات دينية تؤول في نهاية المطاف الى انفراز أشكال متعددة للاسلام، ليس في الدائرة الاسلامية الكلية فحسب، بل داخل الدوائر المذهبية الفرعية. وهذا يعني نفي إمكانية إعتماد (الاسلام المعياري) في التعبير عن الموقف الشعبي العام، أو تمثيل الرؤية الدينية الكلية، وبالتالي فنحن نتعامل هنا مع تصورات دينية حيال قضايا ذات طبيعة اشكالية أو خاضعة للجدل حين تكون في مورد منافسة ومقارنة، كما في مثال الديمقراطية.

هذه المقدمة التمهيدية تنقلنا الى صلب موضوعة العلاقة الاشكالية بين الثقافة السائدة والديمقراطية، ففي المستوى العام، مازال الجدل النمطي حول الاسلام يدور حول إمكانية وفرص توافقيته أو تعارضه مع الديمقراطية. في الغرب يقدّم الاسلام، كباقي الاديان، باعتباره نقيضاً موضوعياً ومعوّقاً لمفهوم الديمقراطية، وفي المقابل تقدّم الرسمية السعودية الديمقراطية باعتبارها نقيضاً عقدياً للإسلام ولـ (خصوصيات) المجتمع. وبالتأكيد فإن هذين الموقفين لا يعكسان أكثر من نصف الحقيقة أو النصف المطلوب استعلانه، لأننا ندرك تماماًَ بأن النصف الآخر يخفي سر الموقف.

 الغرب وديمقراطية المصلحة

 لاشك أن موقف الغرب من الاسلام يأتي جزئياً وفي منظوره التاريخي والايديولوجي كاستدعاء لتجربة الصراع بين الكنيسة والدولة بحمولتها العلمانية، والتي أسفرت عن فصل نهائي بينهما لصالح الدولة ذات السيادة الشعبية فيما تمت إزاحة الكنيسة والدين عموماً الى خارج الشأن العام وحصره في الشأن الفردي. هذا الموقف النمطي لا يقلل، ومازال الكلام عن الموقف الغربي من الاسلام، من تأثير القراءات المباشرة للنص الديني أو تفسيراته المنسوبة الى مدارس فكرية تحظى بتأثير شعبي واسع، كما لا يمكن استبعاد دور العامل السياسي في تشكيل مواقف ذات صفة ايديولوجية. فقد لحظنا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية التسعينيات كيف تحوّل الموقف الغربي من الاسلام في شكله التقليدي السعودي من وصفه سلاحاً ايديولوجياً فاعلاً يحارب جنباً الى جنب الرأسمالية ضد الايديولوجية الشيوعية والمعسكر الشرقي عموماً، الى ادراجه في رأس قائمة الخصوم الايديولوجيين والحضاريين للغرب. وفي سياق إعداد الترتيبات الايديولوجية الخصامية ضد الاسلام، كان الموقف من دمقرطة الشرق الاوسط خصامياً هو الآخر، سيما مع نجاح الجماعات الاسلامية في الانتخابات البرلمانية في الجزائر والنقابية في مصر عام 1992 حيث بدأ يتبلور موقف غربي من الاسلام بنزعة شبه شوفينية، يقوم على إعتبار الشعوب الاسلامية غير مؤهلة لمرحلة الديمقراطية لأنها ستسيء استخدامها، ولذلك فإن تصدير الديمقراطية الى شعوب غير ديمقراطية تكويناً أي (ديمقراطية بلا ديمقراطيين) كما عنوّن ذلك وزير الثقافة والمفكر السياسي اللبناني كتاباً بتحريره، سيفضي الى تمكين قوى التشدد من إدارة فوهة المدفع نحو الغرب بطريقة ديمقراطية.

لقد ظل الغرب، وبوجه خاص الادارة الاميركية، متردداً في تشجيع الديمقراطية في السعودية بسبب الخوف من اختطاف الديمقراطية من قبل جماعات دينية متطرفة، ستهدد المصالح الغربية. ومن سوء حظ بلادنا أنها كانت النموذج الاكثف استعمالاً في حظر تصدير البضاعة الديمقراطية على خلفيات ايديولوجية وسياسية واقتصادية واستراتيجية. فقد رفعت مراكز البحث الاستراتيجي المتخصصة في الشرق الاوسط توصياتها الى مطبخ القرار في الادارة الاميركية تحذر من أن السعودية ودولاً عربية أخرى تعتبر مناطق غير مأمونة ديمقراطياً، بسبب وجود تيارات دينية متشددة مؤهلة شعبياً لسرقة التجربة الديمقراطية وتحويلها الى وسيلة لاقتناص السلطة وفرض نظام ديكتاتوري مناهض للمصالح الغربية. وقد حظيت تلك التوصيات بإهتمام خاص لدى الادارة الاميركية بوجهيها الجمهوري والديمقراطي، ولذلك قابلت الدعوات الاصلاحية في بلادنا بقدر كبير من الاهمال وأحياناً المعارضة، كما ساهمت مراكز البحث الاكاديمي في تعزيز النظرة السلبية تجاه دمقرطة الشرق الاوسط بنفس الذريعة، أي أن الديمقراطية ستمنح الجماعات الدينية المتشددة فرصة ذهبية للوصول السريع الى السلطة وتالياً تهديد المصالح الغربية الاستراتيجية في المنطقة. ولكن، ومن سوء طالع الغرب أن يأتيه التهديد هذه المرة في عقر الدار وعلى يد أفراد الجماعات ذاتها التي تلقت تدريبات في معسكرات كان الغرب يشرف عليها منذ حملات الجهاد ضد الاحتلال السوفييتي لأفغانستان عام 1979. فقد أدّت موجة الطائرات الانتحارية في الحادي عشر من سبتمبر 2001 الى تبديل المشهد الكوني سياسياً واستراتيجياً، وكان الضالعون ممن تدربوا على يد جنرالات في الجيش الأميركي ووكالة الاستخبارات المركزية. إن المفاجأة الكبرى غير السارة للولايات المتحدة، كشفت عن أن معارضة الديمقراطية في دول محافظة خشية تهديد مصالحها الاستراتيجية قد حققت نتائج عكسية، فقد جاء التهديد من باطن هذه الدول، بل وتحديداً من الدولة الحليفة التي وصفت بأنها (وكر الارهاب)، الامر الذي أدى الى تصديع الذريعة القائلة بأن الديمقراطية تمثل مكافأة مجانية للتيارات الراديكالية في المناطق المصنّفه في قائمة الاعداء للديمقراطية وللغرب عموماً.

إن تحوّلاً حذراً بدأ في الموقف الغربي من مشروع الدمقرطة في الشرق الأوسط، وتحديداً  قبيل الاحتلال الاميركي للعراق، حيث بدأ الحديث عن خارطة جديدة للشرق الاوسط تقوم على مبدأ الشراكة، وتؤكد على خيار الاصلاحات السياسية والاقتصادية والمؤسساتية في عدد من دول المنطقة. وقد لحظنا تحوّلاً في اللهجة السياسية الاميركية والغربية عموماً حيال موضوع الديمقراطية، الذي بات يطرح مفصولاً عن إشكالية التعارض أو التوافق مع الاسلام، وإنما تم إدراجه ضمن الرؤية الاستراتيجية الاميركية في المرحلة القادمة، بعد إعادة ترتيب الوضع الاقليمي وإعادة إنتاج للمركزة الغربية في منطقة الخليج.

لقد كشفت أحداث ما بعد الحادي عشر من سبتمبر بأن تأجيل خيار تشجيع الديمقراطية في الشرق الأوسط كبّد الغرب خسائر فادحة، كونه وضع نفسه أمام خيار مزدوج وإنتقائي كان يشجعه في مجاله الجغرافي وينبذه في مجال مصالحه الاستراتيجية، ولكنه في نهاية المطاف وجد نفسه أمام حقائق على الارض ولم يعد هناك مهرب نجاة سوى بالاعتراف بها والتعامل الجاد معها. إن دعم التيارات الاصلاحية في المناطق المحظورة ديمقراطياً وإن لم يكن ناشئاً عن موقف مبدئي لدى الغرب الا أن متغيرات الواقع السياسي في منطقة المصالح الاستراتيجية تفرض تغييراً في الموقف لصالح التيارات الاصلاحية المدعومة شعبياً.

يتحدث كثير من المسؤولين الأميركيين وبخاصة القريبين من الشأن السياسي السعودي بأنهم كانوا غير قادرين على تشجيع الديمقراطية في السعودية بذريعة عدم وجود قوى سياسية فاعلة في هذا البلد تناصر المشروع الديمقراطي، ولكنهم اليوم في حالة مواجهة مع موقف تاريخي لابد أن تلتزم به الادارة الاميركية، حتى لا تكرر الخطأ الفادح في التجربة الايرانية، فهناك تيارات سياسية متنامية في السعودية تتبنى الخيار الديمقراطي ولابد من إسنادها ضمن خطة محاربة الارهاب.

 الحكومة وديمقراطية الضرورة

 لقد شهد الموقف الرسمي من الديمقراطية تطوّراً لايزال حتى الآن شكلياً الى حد ما بالنظر الى التغييرات السطحية في الوضع السياسي العام، ولكن مؤشرات عديدة تفيد بأن التغيير سيطال الجوهر السياسي وربما الايديولوجي للدولة.  ويعود الموقف الرسمي من الديمقراطية أساساً الى عهد الملك فيصل من خلال تصريحه المشهور (دستورنا هو القرآن) والصادر في غمرة المماحكات الايديولوجية بين النظامين الناصري والسعودي وتنامي النبرة الدينية في الخطاب السياسي السعودي. نتذكر ايضاً انشقاق جماعة الامراء الاحراء من البيت السعودي الحاكم في عهد الملك سعود، وتقديم مقترح دستور جديد للمملكة من قبل الأمير طلال والذي نشر على هيئة كرّاس بعنوان (رسالة الى مواطن)، وتصنيف السعودية في أدبيات الاحزاب القومية العربية (الناصرية والبعثية والاشتراكية)  كمثال للرجعية الدينية، اضافة الى التقارير الصحافية المتوالية من قبل الاعلام الاجنبي بعد استعمال النفط كسلاح سياسي عام 1973 والتي عرّضت بالنظام السياسي في المملكة ووصفته بالتخلف. أحداث متوالية ساهمت في تصليب الموقف الرسمي من التغيير السياسي وعززت الميول المحافظة لدى القيادة السياسية، وبالتالي أوقفت عجلة الاصلاح في جهاز الدولة.

لقد أعاد الملك فهد استعمال ذات الكليشه في تصريحات ومقابلات صحافية عديدة، ولعل آخرها كانت لصحيفة (السياسة) الكويتيه عام 1992، في سياق محاولة بائسة لاحتواء ردود الفعل الناشئة عن الاحباط الواسع لدى القوى السياسية والاجتماعية في الداخل من المضامين الهزيلة للانظمة الثلاثة. إن اجترار مقولة (دستورنا القرآن) من قبل بعض الامراء والسفراء لا تعدو أكثر من استهلاك لبضاعة بعد انتهاء مدة الصلاحية بفترة طويلة، بالنظر الى أن مثل هذه التصريحات تستهدف في الأساس الدفاع عن قضية ضعيفة.

يستدعي هذا تسليط الضوء على دور العامل الديني الحاسم في عملية التحديث التي مرّت بها المملكة طيلة عقود التنمية وتحديداً منذ بدء الخطط الخمسية عام 1970، حيث لجأت الدولة الى إستعمال المؤسسة الدينية بأذرعها المتنوعة لجهة احتواء المؤثرات الثقافية والسياسية المصاحبة لبرامج التحديث. بكلمات أخرى، لقد ألحّت الحكومة بشدة على تحييد المفاهيم الديمقراطية ووقف انتشارها جنباً الى جنب عملية التحيدث التي شهدتها البلاد منذ منتصف السبعينيات، ولذلك منحت رجال الدين تفويضاً مفتوحاً من أجل ملاحقة الظواهر الاجتماعية الجديدة، وبلغت حد التدخل في خصوصيات الافراد من قصات الشعر ونوع اللبس الى سوق الناس الى المساجد بالعصا، وصولاً الى حظر الانشطة السياسية والثقافية واعتقال اعضاء في احزاب قومية ويسارية واخضاعهم لموجات تعذيب قاسية. لقد نجحت الدولة الى حد بعيد في إحتواء التأثيرات الفكرية والسياسية لموجة التحديث، وعلى حد وزير سعودي سابق (إننا نجحنا في استيراد التكنولوجيا بدون أيديولوجيا).

ولكن التحوّلات الاجتماعية الداخلية وهكذا المتغيرات الاقليمية والدولية لعبت دوراً مركزياً في الدفع باتجاه كسر الجمود السياسي الداخلي وتغيير الخطاب، في ظل تفاقم أوضاع داخلية اقتصادية وأمنية وسياسية لم تعد تحتمل تدليكاً لفظياً ومعالجات سطحية عابرة.

لا يبدو الآن أن هناك من داخل العائلة المالكة من يرغب في وضع الاسلام كجزء من لعبة لفظية ليس الغرض منها سوى تحقيق مكسب سياسي محض. ولكن بالتأكيد هناك أغلبية حاكمة ترى في الديمقراطية خطراً مؤكداً على مستقبل الحكم في السعودية، ولابد من الاستعمال الكثيف للخطاب الديني من أجل ازالة الخطر وآثاره المستقبلية. ولكن يبقى أن ثمة متحوّلات داخلية تفرض إحداث تغييرات جوهرية في الخطاب السياسي للدولة، إذ لم يعد الحديث يدور الآن حول (خيارات) بل عن (ضرورات) تملي نفسها على الدولة ولابد من تبنيها طوعاً أو كرهاً، فالأزمة تعصف بأوضاع البلاد في اتجاهات مختلفة وأن حفنة الخيارات التقليدية المستعملة فقدت مفعولها الترويضي، وبدأ الجميع يفسح الطريق أمام الاصلاح السياسي بمضمونه الديمقراطي للدخول من منافذ الدولة التقليدية وغير التقليدية. ولابد أن خطاباً سياسياً حديثاً يتخطى الرقاب ليستقبل القادم الجديد، فثمة قرار إصلاحي لا يقبل الارجاء، وأنه يتسلل الى الفضاء المعتم بالرغم من كل محاولات الممانعة، فمفردات الاصلاح باتت جزءا أساسياً من نسيج اللغة السياسية اليومية الرسمية والشعبية على السواء.

 الخيار الشعبي

 ثمة جبهة ثالثة باتت جاهزة الآن للمشاركة في المداولات الفكرية والسياسية حول الديمقراطية، حيث يتصاعد الجدل حول الموضوع وبوتيرة عالية وسط أطياف سياسية متنوعة، في سياق التدافع الجماعي نحو الخطوط الامامية للاصلاح السياسي في بلادنا.

في المستوى العام يمكن القول بأن كثيراً من الجماعات السياسية في السعودية تناصر البديل الديمقراطي بكونه ضرورة للدولة والمجتمع من اجل تسوية الازمة المتنامية في مجالات عديدة. يمكن ملاحظة ذلك بوضوح في الصحافة المحلية، والنقاشات الدائرة في مواقع الحوار على الانترنت، وفي العرائض التي رفعت الى ولي العهد منذ يناير العام الماضي، والتي ضمت أسماء عدد كبير من الاسلاميين. إنه مؤشر معبّر أن يكون مناصرو الديمقراطية في حالة تزايد سريع، وينبّه الى تحوّلات فكرية وسياسية عميقة في المجتمع والدولة.

إن استفحال الأزمة الشاملة والرغبة الجامحة نحو العثور على خيارات حل حاسمة لها قد يسدل بصورة مؤقتة ستاراً على الجانب الايديولوجي منها، ولكن هذه الخيارات مهما تكن طبيعتها لا تنيم الميول الفكرية لدى القوى السياسية والاجتماعية. فالديمقراطية اليوم ينظر اليها كخيار حل لأزمة الدولة، ولكن ما إن تبدأ مرحلة الاستحقاقات فإن مناظرات حامية وواسعة ستبدأ على وقع انفرازات سياسية وايديولوجية. فإن ما يحوز على اجماع القوى السياسية في المملكة لا يترجم اصطفافاً ايديولوجياًَ ولربما كانت وثيقة (الاصلاح الدستوري أولاً) فارزة مبكرة داخل التيار الاصلاحي العام، ولكن هذا الاجماع يعكس الى حد كبير توافقاً على مبدأ الاصلاح الشامل، بصرف النظر عن الدمغة الايديولوجية المسبوغة عليه من قبل عناصر التيار الاصلاحي على تباين توجهاتهم الفكرية والسياسية.

خارج التيار الاصلاحي العام، هناك فئات نابذة للتغيير، مهما كانت درجته وعمقه واتساعه، وهي تنبذ الديمقراطية لا على أساس ايديولوجي فحسب، بل وعلى أساس معادلة المصالح والخسائر، وهناك فئات ترى في الديمقراطية خطراً عقائدياً وفق منطق صراع الحضارات. تجادل الجماعات الدينية المحافظة في المملكة بأن الديمقراطية ستفتح الباب امام القيم الغربية الفاسدة للانتشار في البلاد وقد تستعمل الديمقراطية كذريعة للغرب من اجل احتلال المملكة، الارض الأكثر قداسة في الارض. وهذا الجدل يخفي في جانب منه خوفاً مشروعاً بالنظر الى تجربة الاحتلال الاميركي في العراق والصورة النمطية المرسومة عن الحضارة الغربية، ولكن الجزء الآخر هو الخوف من الخسارة في ظل التجربة الديمقراطية التي تفرض توزيعاً للأدوار وتخفيضاً لقوى مهيمنة لصالح قوى أخرى حديثة أو منافسة.

وعلى أية حال، فإن الفئات التقليدية تفقد كثيراً من رصيدها الشعبي والسياسي حين تقارن بالانثيال المتعاظم من قبل فئات اجتماعية عديدة على الخيار الاصلاحي الديمقراطي. ومن المرشح تآكل الرصيد الشعبي للقوى التقليدية كلما استفحلت المشكلات المباشرة للافراد فيما لا خيار سوى التمسك بخيارات حل حاسمة ليست من متبنيات هذه القوى، وهذا ما يعطي الخيار الديمقراطي فرصة أكبر لنيل مصداقية أكبر لدى الأغلبية المتضررة.

 

مستدركات في الجدل الديمقراطي

 

ثمة ملاحظتان ضروريتان في فهم معيقات الديمقراطية يمكن إيجازهما على النحو التالي:

ـ إن قراءة الديمقراطية تتم الآن في مناخ إقليمي شديد الاضطراب، فقد أصبحت الديمقراطية في الادراك السياسي العام وعلى المستوى الاقليمي والعربي وربما الدولي لصيقة الى حد كبير بتجربة الاحتلال الاميركي للعراق والى حد ما أفغانستان. ولذلك، فإن التبشير بالديمقراطية وتشجيعها يُدرج حالياً ضمن أجندة سياسية أميركية لتغيير خارطة الشرق الأوسط، سيما وأن تجربة الاحتلال الاميركي في العراق مازالت تبعث على القلق الشديد وأن القرار بإقامة دولة ديمقراطية نموذجية يتم تعميمها على الجوار يثير تحفظات عديدة بالنظر الى الفوضى السياسية والأمنية التي يعيشها العراق منذ سقوط الدولة الى جانب سياسات الهيمنة التي اتبعتها قوات التحالف، وبالتالي فإن الوقت مازال مبكراً للحديث عن تجربة ديمقراطية في العراق تكون مقدمة لازالة الاحتلال وآثاره، وتفتح الباب أمام تعددية سياسية وحكومة تمثيلية وحريات عامة ولبرلة اقتصادية متوازنة. إن الرهان على نجاح التجربة الديمقراطية هو بلاشك رهان كبير، ولذلك هناك من يسعى الى تخريبها في المهد، وإبقاء حالة الفوضى سائدة، لأن نجاحها سيعكس تأثيرات قوية على الجوار الاقليمي، وسيمهّد الى نقل وتعميم التجربة الى دول اخرى. 

 ـ إن الديمقراطية بوصفها مفهوما حديثا تعتبر قادماً جديداً الى الفضاء السياسي السعودي، وكان ينظر اليها بوصفها جسماً غريباً تم رفضه من قبل جماعات عديدة ومازال مرفوضاً من قبل القوى التقليدية. وتلزم  الاشارة هنا الى أن الديمقراطية، شأن كثير من المفاهيم الحديثة، كانت تقدّم في لغة خصامية للمعتقدات الدينية وهذا جعلها موضع ازدراء ورفض من قبل جماعات عديدة. بكلمات أخرى، إن أولئك الذين ناصروا الفكرة الديمقراطية في الشرق الاوسط أكّدوا على أن الديمقراطية لن تكون ممكنة بدون علمنة والتي ستؤدي بلا مناص الى الفصل بين الدين والدولة.

ولكن بحسب متابعتنا المباشرة نلحظ بأن السنوات الاخيرة أنتجت فهماً وتفسيراً للديمقراطية جعلها أكثر قبولاً، بمعنى أن الديمقراطية باتت مدركة من قبل جماعات عديدة بوصفها نظاماً ومشروع ممارسة يمكن تطبيقه على ثقافات ومجتمعات مختلفة بصرف النظر عن المعتقدات الدينية. إن انتزاع المصل الايديولوجي من الديمقراطية كان ضرورياً من أجل تحويلها الى وصفة إنسانية متصالحة مع ثقافات وحضارات شعوب العالم، ومن أجل ايضاً تشكيلها وفق متطلبات وظروف متغيرة.

 

* (الكلمة التي أُلقيت في مؤتمر مستقبل الديمقراطية في السعودي بلندن في 22 يناير 2004)