درس آخر

الغطاء السياسي للطائفية

 منذ أكثر من عقدين جرى تشكيل صورة نمطية عن الشيعة في العالم في ظل أجواء التوتر الناشئة عن التحوّل السياسي الكبير في ايران عام 1979. وقد شاركت في تشكيل تلك الصورة أنظمة سياسية عربية ودولية، ومراكز أكاديمية غربية، ومؤسسات إعلامية محلية واجنبية. وهذه الصورة تلخّصت في قولبة الشيعة عموماً ضمن الامتداد الايراني المندفع نحو (تصدير الثورة)، بما يوحي بتحوّل المجتمعات الشيعية الى (طابور خامس) يعمل لتنفيد ممليات القيادة الايرانية وربما أجهزة الاستخبارات التابعة لها. ولا ريب أن متطلبات الصراع السياسي بين الغرب وايران أفضت الى العبث السافر بالحقائق التاريخية والجغرافية، الأمر الذي أدى الى رسم صوّرة عن الشيعة ينتجها السياسي أكثر مما تنتجها التيولوجيا أو إنثروبولوجيا الاديان أو حتى تاريخ الفرق. إن هذه الصورة التي تمحو الجذور التاريخية للمجتمعات الشيعية في مواطن النشأة، تقذف بهم في (المربع الفارسي) كما يشاء البعض تسميته تلبية لأغراض أجندة سياسية محضة لدى أقطاب الصراع والمصالح.

وفق تلك الصورة المتخيلة، سار الركب السياسي الاقليمي المكفول أميركياً نحو الحافات النهائية في الصراع، كما جهدت دوائر الاختصاص في الصراعات الاثنية في تخصيب أنوية الكراهية على أساس ديني، ولكنها في الأصل خلف مسوّغات سياسية. وقد نشا عن تلك الأنوية نزعة تكاد من فرط ضرواتها تصل الى حد البدء باقتلاع منتظم لجذور الشيعة من التراب الذي ولدوا فيه وتناسلوا عليه، ومع ذلك فقد أفضت تلك النزعة في حدّها المباشر وشبه المعلن الى  سياسة تمييز ظالمة على مستوى التمثيل السياسي، وتوزيع الثروة، وحريات التعبير والمعتقد، وكان نصيب عدد كبير من المجاهرين بألم الاضطهاد الجماعي إما السجن أو المنفى أو القتل. هذا المشهد الذي يكاد يتواطىء كثيرون اليوم على إسدال ستار سميك عليه من أجل فبركة صورة نمطية أخرى، لتسويغ مشروع إضطهاد من نوع آخر، لابد أن يعاد إحضاره من إزالة كل مصادر التعمية عنه، لأن ثمة إتجاهاً لاعقلانياً بات يتشكل الآن بغرض إعادة إخضاع ضحايا الأمس الى دورة إضطهاد أخرى.

بالأمس القريب، كان الشيعة مصنّفين على اللائحة الأميركية والغربية عموماً بوصفهم العدو رقم واحد، لكون إنهدام أحد (العمودين المتساندين)، أي ايران قد يؤول الى انهدام الآخر على الضفة الغربية من الخليج، أي السعودية. وقد وفّرت الولايات المتحدة والغرب عموماً غطاءً قانونياً وأمنياً وعسكرياً للنظام الاقليمي العربي المحكوم زعماً بقيادات سنية من أجل تنفيذ سياسة اضطهاد طائفي منظّمة ضد مواطنيهم الشيعة، وكان يتم ذلك بذريعة تماهي المجتمعات الشيعية في المشروع الايراني الأممي. في المقابل وفي هذا الوقت بالذات كانت قوافل المجاهدين تنطلق من كل أرجاء العالم (السني) الى افغانستان لتأهيل المحاربين في معسكرات أميركية قبل الدخول في مشروع الجهاد ضد الاحتلال السوفييتي، وكان التأمرك مصاهراً للأسلمة المحافظة لمواجهة المد الأحمر، وكانت اميركا أشبه ما تكون بـ (الاستعمار المسكوت عنه) لأنها متصالحة سياسياً مع نظام الحكم العربي.

لقد شغلت الماكينة الدعائية الغربية والعربية الرأي العام عن سوءة التعالق الحميم بين النظام العربي وامريكا وبين الأخيرة ومشروع الجهاد الافغاني بكل متوالياته، بموجة دعائية مكثفة حول التطلعات الايرانية التي ستتحقق على يد أهل دعوتها في العراق ومنطقة الخليج.

وحقيقة الأمر، أن الاحزاب والتنظيمات الشيعية العربية الكبرى لم تكن ولادة إيرانية وإن كانت ظروف التحوّل الداخلي في ايران بعد الثورة قد وفّّرت أرضاً لعمل كثير من حركات التحرر في العالم على التراب الايراني بما في ذلك منظمات كبرى وعريقة مثل منظمة التحرير الفلسطينية بعد أن ضاق عليها أفق الحاضن الافتراضي الأرحب والممتد من المحيط الى الخليج، ولكن تلك الوجودات لم تكن تعمل وفق أجندة سياسية ايرانية ولم يطلب منها ذلك وهذا يفسّر لجوء الحرس الثوري الايراني الى تأسيس امتدادات له في الخارج بعيداً عن اطار حركات التحرر التي كانت متمسكة باستقلاليتها، ولأن الحافز الذي جاء بها الى ايران هو الشعارات المناصرة لقضايا التحرر، في وقت كان العالم العربي خاضعاً بصورة شبه كاملة تحت تأثير النفوذ الاميركي.

ولكن مع انتقال ايران من مرحلة الثورة الى مرحلة الدولة في نهاية الثمانينات، وخصوصاً بعد تصفية الجناح الثوري الذي كان يقوده السيد مهدي هاشمي رئيس مكتب حركات التحرر، ايذاناً ببدء صفحة جديدة في العلاقات الدولية وفك الطوق المفروض على ايران من قبل الغرب قررت أغلب التنظيمات السياسية العربية الشيعية والسنية على السواء مغادرة ايران إما رغبة في عدم إحراج القيادة السياسية الساعية الى إعادة ترتيب أوراقها السياسية وترميم علاقاتها على المستويين الاقليمي والدولي، وإما مرغمة بفعل تبدّل ظروف العمل السياسي من الساحة الايرانية.

وعلى أية حال، فقد تكشّفت بجلاء حقيقة أن الحياكة السياسية لرواية إندغام الشيعة العرب في المشروع الايراني لم تكن سوى حياكة متهافته، وقد تنبّه من شاركوا فيها الى أن وراء الأكمة تكمن حقيقة أخرى لم يرد الفات الانتباه اليها سابقاً بسبب الاستقطاب الحاد على المستوى الاقليمي أو جرى التعتيم عليها لتمرير الخدعة. فقد تبددت الصورة النمطية عن الشيعة، وصار ينظر اليهم بوصفهم مجتمعات متعددة لكل منه خصوصيات فارقة، وكيانات ذات شخصية مستقلة عن بعضها، وتطلعات وهموم قد تتقاسمها في الاضطهاد العام والعناوين العريضة للأزمة التي صنعها غيرهم، ولكن تتباين في طرق المعالجة.

 

العراق.. والطائفية هاجساً

 

قبيل وبعد انطلاق قوات التحالف الاميركي ـ البريطاني للحرب على العراق في مارس 2003 انفجرت المسألة الطائفية بوتيرة متسارعة ومقلقة، فقد صوّر كل من المتهاجسين بالطائفية المذهبية والسياسية الحرب في العراق وكأنها مؤامرة أميركية ـ شيعية للاطاحة بحكومة سنيّة يرأسها صدام حسين، بناء على المشاعر المختلطة لدى الشيعة في العراق والى حد كبير في خارجه، وهي مشاعر تشكّلت في ظرف بالغ التعقيد. فمن جهة كان زوال كابوس الطاغية قد خلق إبتهاجاً عارماً وسط الأغلبية المضطهدة التي شعرت بأن أملاً جديداً في حياة كريمة قد بدأ بعد سقوط الصنم، وهذا يعكس عمق المأساة الانسانية التي كشفت عنها سجون البعث، وسجّلتها ملفات أجهزة الأمن، وفضحتها المقابر الجماعية، والصور الصادمة لمعاناة الانسان العراقي على كافة المستويات، ومن جهة أخرى قضية الاحتلال الأميركي للعراق بما هي مقدمة لتغيير خارطة الشرق الأوسط. وبطبيعة الحال، فإن وضعاً مربكاً كهذا بكل متضاداته قد أقحم الشيعة في تناقضات المعادلة السياسية الجديدة بوصفهم الأكثرية المستفيدة من التغيير السياسي في العراق بعد أن كانت فيما تمثل الأكثرية المحرومة. وفيما يغمض كثير من المتضررين الجدد عيونه عن حقيقة المعاناة التي عاشها الشيعة طيلة ثلاثة عقود في ظل نظام بلغ فيه الاستهتار بالقيم الانسانية حد ابتكار وسائل في الابادة الجماعية، ينزع هؤلاء الى رؤية المشهد الحالي مفصولاً عن خلفياته والعوامل الضالعة في تشكيل الموقف الراهن لدى الشيعة والأكراد وباقي الجماعات المضطهدة في العراق. فهل يعني إبتهاج المحرومين بسقوط الطاغية إلتحاماً في المشروع الأميركي؟ وهل اختار الشعب العراقي أن يكون زوال الطاغية على اليد الأميركية في الأصل؟  أم أن أميركا إعتنقت التشيع مما فرض عليها تكليفاً شرعياً بدفع الموت عن أهل دعوتها وشركائها في المعتقد؟

 هذه الاسئلة يجب أن توضع في سياق أسئلة أخرى مقابلة: هل كانت أميركا سنيّة حين كانت تملأ ركاب صدام بكافة أنواع أسلحة الدمار في حربه ضد إيران طيلة ثمان سنوات وحصدت مليون ونصف المليون من البشر؟، أم أن أميركا كانت على مذهب أهل السنة والجماعة حين باركت بالصمت أو المجاهرة مسرحية القتل الساخر والمقابر الجماعية في صفوف شيعة العراق طيلة أكثر من عقدين من الزمن؟. ولماذا لم ينظر قادة الاحزاب الشيعية العراقية الى النظام الدموي البائد بوصفه ممثلاً للسنة، بالرغم من التأييد الأميركي المفتوح له، حتى ينظر بعض عقلاء السنة فضلاً عن بعض المتشددين منهم الى ما يجري الآن على أنه تواطىء أميركي ـ شيعي في العراق؟.

ومما يثير الدهشة أن التاريخ القريب يطوى سريعاً حين يخضع للحساب السياسي الراهن، وكأن خزي الماضي يراد غسله بماء حاضر لم يطمئن بعد الى طهارته. فقد حمّل الشيعة تبعات مخطط أميركي قد جرى إعداده حين كانوا خصوماً لدودين ومحاربين في أصقاع العالم من قبل أنظمة مصنّفة زعماً على السنة. فمالذي جرى وتبدّل الآن حتى يُرتد الى الخاصرة الأضعف في الجسد المهترىء ليعيد بعض المتطيفين إحياء أوهام العلقمي والطوسي مستأنسين لنظرية مؤامرة ليس لها نصيب من الحقيقة الا ما بصمته الهزيمة على جدران المدينة المتهدمة.

يؤسفنا انجرار بعض عقلاء الماضي الى منزلق الطائفية وهم يعملون القلم لكتابة تاريخ لم يقع، وعن تواطىء شيعي أميركي لم يتم، مغفلين عن عمد وسابق إصرار حقائق كانوا أنفسهم شاهدين عليها، من قبيل أن الشيعة ليسوا وحدة مجتمعية متوحدة، وأن السياسات الطائفية التي فرضت عليهم من قبل حكومات سنيّة زعماً مدعومة من قبل الولايات المتحدة والغرب عموماً طيلة عقود كانت من القسوة والوحشية ألجأت بعضهم للاعتراض ولكن لم تسلك بهم مسلك التورط في علاقات مشبوهة مع الغرب، بالطريقة التي كان ومازال عليها حال أغلب قادة الانظمة العربية وشيوخ المجاهدين.

ومن المؤسف أيضاً أن يعاد إنتاج الصورة النمطية عن الشيعة بالطريقة التي كانت عليها بعد الثورة الايرانية، فهناك كان ينظر الى الشيعة باعتبارهم (طابور خامس) لايران، أما الآن وبعد الحرب على العراق فصار ينظر اليهم وكأنهم (عملاء لأمريكا)، استناداً على متغيرات منفصلة على بقع جغرافية تقطنها أغلبية شيعية، فيما لا صلة مؤكدة للمجتمعات الشيعية الأخرى. ومن المفارقات المهملة لدى الكثيرين خارج الإطار الشيعي أن ثمة مؤاخذات يفصح عنها الشارع الشيعي في العراق إزاء موقف الاتجاه الشيعي العام في الخارج من المسألة العراقية حالياً. فالبيانات التي تبث على شاشة محطّات فضائية تابعة لبعض الجهات الشيعية تنبىء بوضوح عن موقف شديد العداوة للاحتلال الأميركي للعراق، بل وللمؤسسات السياسية الناشئة في ظل الاحتلال.

الى جانب ذلك، أن تجربة المقاومة في لبنان لا تدع مجالاً للشك بأن هناك موقفاً شيعياً مختلفاً عن فرضية الموقف الشيعي الممالىء في العراق. وبعيداً عن ضحالة التحليلات السياسية التي تقوم على تسويد صحيفة أعمال الآخر من موقع المختلف مذهبياً، فإن تجربة المقاومة التي قادها حزب الله في الجنوب تمثل نصراً حقيقياً وبارقة أمل في مناخ إنهزامي عربي، ويكفيهم تحرير الارض وعدد كبير من الأسرى، ويزيد قيادته شرفاً أنها دافعت عن الاسرى الفلسطينيين والعرب في وقت يشتغل فيه البعض بانتزاع أحكام بالتكفير ضد الشيعة، تماماً كما تفعل محطة فضائية عربية باتت الطائفية تأكل من رصيدها ومصداقيتها.

وثمة كلمة يجب أن تقال قبل أن يوقض البعض الطائفية من رقادها، أن من حسن الصدف في بلادنا بدء مشروع اللقاء الفكري على خلفية مذهبية، سعياً وراء إحباط المفعولات الكارثية للتمذهب. في الماضي كان تصدير الطائفية يتم من بلادنا أما اليوم فنخشى أن تعاد نفس البضاعة الطائفية المصدّرة الى الداخل، سيما وأن هناك من لازال يرى بأن تحقيق الذات والمصداقية يتم عبر مخاصمة الآخر مذهبياً.

ولابد أن يقال أيضاً بأن الحصاد السياسي للطائفية كان دائماً لصالح غير المتورطين فيها، كما أن الطائفية تظل الوصفة السحرية لكثير من الطامعين في تحقيق مصالح سياسية، ومن لا يتعلم من التاريخ يخسر الجغرافيا.

(التحرير)