تهمة تفريخ التطرف المزعجة للمملكة

حول علاقات المملكة بالجماعات الإسلامية وأعبائها السياسية

 

تحاول المملكة في هذه الأيام، أن تتخفّف قدرما تمكنها الظروف من إرث الماضي الديني، والذي يشمل علاقاتها ودعمها للمشاريع الإسلامية، بعد أن تحوّل دعمها السابق، واستخدامها السياسي لتلك الجماعات، الى ورقة تهدد نظام الحكم وكيان المملكة بالتذرر. فمنذ أحداث سبتمبر والورقة الدينية بيد اللاعب السياسي السعودي صارت ناراً تحرقه، وتستعدي الخارجي عليه، بل وصل لهيب ذلك الدعم الى حرائق في العاصمة السعودية ومصادمات عنيفة وتفجيرات وأسلحة تستهدف النظام السياسي ورموزه.

الورقة الدينية كانت الفضلى لمدة طويلة. كانت تمنح المشروعية، وتستخدم في الصراع الدولي ضد الشيوعية. وهي اليوم سبّة عار، وموضع اتهام. لهذا تخلت المملكة عن الجماعات الإسلامية، في معظمها، وتخلت عن الكثير من دعمها للنشاطات الدينية، وأجبرت مؤخراً على التخلي عن النشاط الديني الذي تقوم به سفاراتها، وأعادت الكثير ممن يعتقد أنهم ملحقون دينيون الى أراضي المملكة، كما أنها لم تتردد في أن تصطف الى جانب الولايات المتحدة لمتابعة الحسابات المالية لجماعات ترى واشنطن انها تنشر الإرهاب بما في ذلك الجمعيات الخيرية المحلية، والمدعومة من الحكومة، مثلما اعلن مؤخراً عن إغلاق أفرع جمعية الحرمين في عدد من الدول. بل وتحاول المملكة ان تتخفف من المعاهد والمدارس التي أنشاتها ورعتها والتي كانت أداة لترويج مذهبها ورؤيتها الدينية في كل العالم. خاصة بعد أن اتهمت الدول التي تحتضن تلك الأنشطة الحكومة السعودية بأنها تروج وتدعم أفكار وجماعات العنف، ولذا طالبت بإغلاق تلك المؤسسات التعليمية أو بادرت بإغلاقها كما حدث في موريتانيا، وفي بعض الأحيان أجبرت السلطة على اتخاذ اجراءات الإغلاق حتى للمدارس الرسمية وكنموذج على ذلك أكاديمية الملك فهد في برلين.

كل هذا يؤشر الى أن المملكة تتخذ سياسات مناقضة لمنهجها الديني، ولما اعتادت القيام به في الماضي. وهي قد سبق لها التحلل من مسؤليات دعم عدد من الحركات الإسلامية ثبت فيما بعد انها كانت تقوم بأعمال عنف بل وأدارت حروباً داخلية. لقد اتهمت الجزائر وموريتانيا والأردن ـ في عهد الملك حسين ـ وحتى تونس فضلاً عن روسيا وأندونيسيا ومصر وغيرها.. اتهمت السعودية ونشاطاتها بأنها وراء حلقات متعددة من العنف الداخلي. لقد مرت تلك المرحلة، وخرجت السعودية من تلك الإتهامات بقليل من الأضرار الى أن جاءت طامة 11 سبتمبر، فكان عليها أن تنهج نهجاً راديكالياً في شطب نشاطاتها الدينية رغم ما في ذلك من أضرار على سمعتها الدينية، وعلى شرعية نظام الحكم في الداخل.

المملكة اليوم مضطرة لأن تفعل المستحيل لتبييض سجلها الذي صار أسوداً بأحداث نيويورك. وهي مضطرة مرة أخرى بعد أن وتر نشاطها الديني علاقاتها مع أصدقائها العرب والمسلمين كما مع الأجانب. وهي مضطرة ثالثاُ لقناعة ما بأن المدرسة الفكرية والمذهبية التي تبنتها لم تعد صالحة لهذا العصر ولا لشرعنة النظام دينياً بل تحولت الى مهدد لاستقراره ومحرض على العنف الداخلي.

هناك حقائق يجبه التنبيه اليها فيما يتعلق بالروابط والسياسات والغايات التي حكمت علاقات المسؤولين السعوديين بالجماعات الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي:

أولاً ـ إن الإهتمام السعودي بدعم النشاطات الإسلامية بدأ بالتصاعد منذ أواخر الخمسينات الميلادية، وكان الهدف الأساس منه: مقاومة الشيوعية ومنع تسللها الى المنطقة العربية والإسلامية. وكانت فكرة إحياء النشاط الديني قد جاءت من الأميركيين الذين رأوا أن الإسلام قادر على كبح جماح الشيوعية. وكان الجهد السعودي متعاضداً مع الجهد الأميركي للقيام بنشاطات ودعم الجماعات الدينية لغرض أساس هو مكافحة النفوذ السوفياتي. في تلك الفترة كتب المرحوم سيد قطب عما أسماه بـ (الإسلام الأميركي) الذي تروج له واشنطن.

على صعيد آخر، دعت واشنطن حكومة المملكة باعتبارها حليفاً وحاضناً للأماكن المقدسة لإنشاء أحلاف وتجمعات اسلامية تجعل الدول العربية والإسلامية سدّاً امام الروس. ولذا ظهر الحلف الإسلامي في الستينيات في عهد الملك سعود، ثم ظهرت المحافل الإسلامية المعروفة اليوم.

كانت لدى واشنطن أهدافها الخاصة من دعم النشاطات الدينية أنى كانت مسيحية أم إسلامية أم هندوسية أم بوذية.. ولكن السعوديين انتفعوا من تلك النشاطات على طريقتهم: فمن جهة وجدوا أداة فعالة يمكن الإتكاء عليها في محاربة النظم العربية التي يأتي منها التهديد لنظامهم، بدعاوى أن تلك النظم شيوعية، والشيوعية هي وليدة الصهيونية ـ وهي فكرة ابتدعها فيصل، ونسج له خيوطها بعض مستشاريه غير السعوديين ـ وبالتالي كان هناك مبرراً لمحاربة تلك النظم، أو إسقاطها من أعين المواطنين، خاصة نظام عبد الناصر الذي كان يتمتع بشعبية عارمة. ومن جهة اخرى استطاعت المملكة ان تستخدم الإسلام على نحو فعال في سياستها الخارجية، وهو أمر لم تقم به أو تجرّبه من قبل في عهد الملك عبد العزيز وبدايات عهد سعود، رغم أن النظام قام على دعاوى دينية، وأن لديه رسالة تجاه العالم الإسلامي. وقد اتيح للمملكة ان تمارس زعامتها عبر توظيف موقعها الديني والمالي منذ عهد الملك فيصل.

ثانياً ـ الدعم السعودي للنشاطات والجماعات الإسلامية جاء في وقت كانت فيه النشاطات الدينية غير مسيّسة في الغالب، فجاء السعوديون ليعطوها طابعها السياسي في محاربة الشيوعية وامتداداتها السياسية والفكرية في العالم العربي. لم تظهر الأسنان السياسية الحقيقية للحركات والتجمعات إلا في وقت متأخر، بعد نكسة حزيران 1967، وأيضاً في أواخر السبعينيات الميلادية. نعم كان الإخوان المسلمون المصريون بالتحديد مسيسون، ولكن النظام استطاع استخدامهم ضد عبدالناصر في نفس الإتجاه الذي كانوا يرغبون فيه. في حين أن بعضهم طلق السياسة ونشط في الدعوة الدينية وفق المنهج والأجندة السعودية.

وفي المجمل لم يكن الأميركيون او السعوديون يدعمون تلك الجماعات بغرض زعزعة النظم الموالية لهم.. كما لم يخطر ببالهم يوماً ان تتحول هذه التجمعات والحركات ضدهم بشكل صارخ كالذي حدث فيما بعد. كانت التجمعات أشبه ما يكون بالطفل المحتاج الى الرعاية والعناية، قبل ان تنضج شخصيتها وفكرها المستقل وموقفها الواضح النابع من تراثها وبيئتها المحلية.

ثالثاً: طوال عقد الثمانينيات من القرن الماضي، كانت السعودية مترددة في قطع صلتها بالتيارات الدينية المسيسة، فلقد ظهر لها أنها رغم خطرها المتصاعد تجاه الأنظمة الحليفة للسعودية وللغرب، يمكن أن يستفاد منها في الصراع مع ايران وتحويل الهدف من محاربة الشيوعية الى محاربة الشيعة. فأعلنت الحرب الطائفية الشعواء، وترددت كثير من تلك الحركات في خوض غمارها، رغم ان بعضها دخلها مدفوعاً بالحاجة المالية أو بسبب تبنيه الفكر السلفي الوهابي. ولذا نرى في فترة السبعينيات تحولاً عن محاربة الشيوعية الى ايران، ولكن ظهر من جديد الخطر الشيوعي باحتلال افغانستان، فوظفوه ليس فقط ضد الشيوعية وإنما لاستصدار نموذج إسلامي سني مقابل لايران في افغانستان.

رابعاً ـ قبل ان تحتضر الشيوعية كان واضحاً لدى الغربيين أن الخطر القادم سيكون إسلاميا، اصولياً حسب تعبيرهم. ورغم العديد من مظاهر العداء التي ابرزها الغرب تجاه الظاهرة الدينية فإن المملكة لم تكن قادرة على تبرير فك الإرتباط مع الحركات الإسلامية والجماعات التي تتلقى التمويل منها الى أن جاءت أحداث الغزو العراقي للكويت. حينها وجدت المملكة ان تلك الحركات والجماعات في معظمها قد وقفت ضدها وتبنت الموقف العراقي، ووجدتها فرصة للتخلص من إرثها القديم، ففكت عراها معها إلا القليل منها وأبقت شعرة معاوية بغرض عدم الإنقلاب الكلي لتلك الحركات والجماعات ضدها.

خامساً ـ إن الدعم السعودي للنشاطات الإسلامية جاء في معظمه من خلال قنوات شعبية وشبه رسمية ورسمية. ومع انقطاع الدعم الرسمي بقيت القنوات الأخرى قائمة حتى أحداث سبتمبر 2001، وما تبعها من ضغوط أميركية لملاحقة مصادر التمويل.

سادساً: كما استخدمت المملكة في يوم من الأيام التيار الديني لضرب التيار اليساري والقومي بشكل عام، عادت من جديد لتبني بعض الرموز القومية واليسارية والعلمانية لتقف امام التيار الديني الذي أخذ يهددها.

والمحصلة هي ان الحكومة السعودية بصدد التحلل من نشاطها الديني الخارجي ومن تمويلها للنشاطات في الخارج لأسباب امنية وسياسية واقتصادية، ونحن نشهد تحولات جذرية في هذا الإتجاه انعكس جزء قليل منها على النشاط الديني المحلي، الذي قد يتعرض هو الآخر للإضعاف بعد أن كشر عن انيابه ضد السلطة السياسية.