رسالة من الحاضر دائماً رغم ظلمة القبر:

الأنظمة القمعية مصيرها العزلة والسقوط

  عبد الرحمن منيف

 في عام 1993 كتب الروائي الراحل عبد الرحمن منيف رسالة لمؤتمر حقوق الإنسان المنعقد في فيينا، أوضح فيها ما يعانيه من انتهاك لأبسط حقوقه كمواطن سعودي. نعيد هنا ما كتبه، حتى لا يقتل بيننا مبدعون آخرون وحتى لا يرفع الجهل والتطرف والإستبداد رايات النصر على أجسادنا.

 يطيب لي أن أتوجه إلى مؤتمركم بهذه الرسالة المفتوحة، بصفتي روائياً عربياً تعنيني بصورة كبيرة هموم شعبي، وأيضاً بصفتي أحد قدامى ضحايا حقوق الإنسان.

لا أكتمكم، بداية، أنني ترددت طويلاً في توجيه هذه الرسالة، لقناعتي أن قضايا الأفراد لا تعني الكثير إزاء الخروقات والانتهاكات الفظة المتزايدة التي تقع على مجموعات كبيرة، وحتى على بلدان بأكملها، في جو من التجاهل ومن تواطؤ البعض، ولكن قررت في النهاية، ورغم التأخر أن أحسم التردد، وأن أتوجه إليكم بهذه الرسالة، معتبراً وصولها متأخرة خير من أن لا تصل أبداً، لأن موضوعها بمقدار ما هو خاص فأنه عام في نفس الوقت ويعني الكثيرين.

اسمحو لي، في البداية، أن أحيي مؤتمركم، وأن أعبر عن الاستبشار، والثقة بمستقبل حقوق الإنسان، إذ مجرد انعقاد مؤتمر عالمي لمناقشة هذه الحقوق، والتأكد في الالتزام بها، يلاقي ترحيباً واهتماماً كبيرين، فالحدث، بحد ذاته، دليل على ما يستشعره المجتمع الدولي في وجود كم هائل من تجاوز الحكومات على حقوق الأفراد والجماعات، ويشير إلى ضرورة الوصول إلى صيغ عملية ومراقبة فعالة لكي لا تستمر هذه التجاوزات ومعالجة القائمة منها.

والمؤتمر أيضاً، الآن وفي المستقبل، يفترض أن يكون المكان الملائم الذي يلتقي فيه الذين سلبت حقوقهم وأولئك الذين سلبوها، لتجري المساءلة والمحاسبة عن الأسباب والدوافع التي أدت إلى وجود هذه الحالة غير القانونية وغير المنطقية، خاصة وأن استمرارها يشكل تهديداً للمجتمعات ويستنزف طاقاتها، كما ويعرض الأنظمة، مهما بدت قوية، إلى العزلة فالنقمة فالسقوط، لأن الحكومات التي لا تحترم شعوبها، ولا تعترف لمواطنيها بالحقوق الأساسية، لا يمكن أن تقابل إلا بالمثل، فالمواطن يمتثل لمن يصون كرامته، ويدافع عن حقه، ويعمل على حمايته في الداخل والخارج، وييسر له حرية الحياة والعمل والتعبير، أما إذا حرم المواطن من هذه الحقوق الأساسية، وتعرض إلى الاضطهاد والأذى فعندئذ لا يمكن أن تطلب منه أداء الواجبات والدفاع عن النظام، والاستمرار في الصمت أيضا!

وبداية الوصول إلى صيغة بين طرفي العلاقة، أي بين الحكومات والمواطنين، أن يكون هناك قانون، وأن يمتثل الجميع لهذا القانون. والقانون هو النظام الأساسي الذي يحدد الحقوق والواجبات، وهو الذي يحدد طبيعة العلاقة بين الطرفين، ولذلك لابد أن تراعى في وضعه وإقراره إرادة ورغبات ومصالح الذين سيمتثلون له ويرضون به. ولذلك فإن البلد الذي يفتقر إلى مثل هذا القانون، مطلوب منه كخطوة أولى وأساسية أن يشرعه ويجب أن يتم ذلك من خلال صيغة يرتضيها المواطنون، وأن يساهموا فيها.

والبلد الذي يعتبر عضواً في الأسرة الدولية وممثلاً في الأمم المتحدة يجب أن يخضع للمواثيق الدولية، وأن يلتزم بالشرائع التي أقرتها الأمم المتحدة، بما فيها الشرعية الدولية لحقوق الإنسان. والبلد الذي يعتبر نفسه مسئولاً مع الآخرين في رخاء واستقرار النظام الدولي، ويرتبط بعلاقات الصداقة والتحالف مع الدول الديموقراطية في العالم، يفترض أن يلائم وضعه مع منطق العصر وضروراته، بحيث يصبح فعلاً جزءاً في المجتمع الدولي بنظامه ومؤسساته والتزاماته، أي أن يتمتع مواطنوه بما يتمتع به مواطنو الدول الديموقراطية، بما في ذلك حق التعبير والانتخاب والاختلاف. ولذلك فعلى مؤتمر فيينا لحقوق الإنسان أن يسأل: من هي الدولة الوحيدة في العالم التي لم توقع، حتى الآن، على الوثيقة الدولية لحقوق الإنسان؟ إن الإجابة على هذا السؤال تضعنا في مواجهة الحقيقة القاسية. وعلى مؤتمر فيينا ألا يكتفي بالسؤال، عليه أن يلزم الذين لم يوقعوا بالتوقيع، وعليه أن يحملهم لتسوية أوضاعهم كي تتماشى مع ميثاق الأمم المتحدة، وعلى مؤتمر فيينا أيضاً أن يشرف ويراقب ويتابع لتصبح حقوق الإنسان حقيقة واقعة وليست مجرد رغبات وأماني أو قيماً أخلاقية فقط. يضاف إلى ذلك أن الديموقراطية أصبحت شعار العصر الذي نعيش فيه، وكانت المدخل للتغيرات الكبيرة التي جرت في إنحاء متعددة من العالم خلال السنين الأخيرة، فإذا افترضنا صحة هذا الشعار، وأيضاً الذي يحدد الموقف من الآخر، فيجب ألا يتجزأ، ويجب ألا يقتصر على دول بذاتها وإعفاء الأخرى، أو غض النظر عن ممارساتها وهذا أحد واجبات مؤتمر فيينا لكي تكتسب قضية حقوق الإنسان مصداقيتها وفعاليتها.

بعد هذا العرض الذي لاشك أن مؤتمر فيينا على دراية به، أنتقل في العام إلى الخاص لكي أقدم نموذجاً:

لقد حملت جنسية العربية السعودية منذ مولدي باعتبار أن أبوي من المتمتعين بها، وحصلت على جواز السفر السعودي حين بدأت دراستي، وظللت أحمل هذا الجواز سنوات طويلة، وفي صيف عام 1963، أي قبل ثلاثين سنة تماماً، حين طلبت تجديد الجواز في السفارة السعودية بدمشق، سحب مني بناء لتعليمات من مراجع عليا، كما أبلغت، ولم يعد إلي رغم مطالباتي المتكررة، مما الحق بي أذى كبيراً ومستمراً منذ ذلك الوقت وحتى الآن. وإذا كان الأذى قد اقتصر علي في المرحلة الأولى، فقد طال أولادي فيما بعد، الأمر الذي يعتبر خرقاً فظاً ومتعسفاً لحقوق الإنسان، وانتهاكاً لحق طبيعي لا يجوز المس به بأي حال من الأحوال. إن جنسية المواطن، أي مواطن، حق طبيعي وليست منحة تعطى وتحجب، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يسلب هذا الحق أو أن يمنعه.

لقد مضت هذه الفترة الطويلة دون أن تبادر حكومة العربية السعودية لإصلاح هذا الخطأ، وبنفس الوقت لم ألجأ إلى التشهير، وإنما واصلت المطالبة بحقي. وإذا كان سحب جواز السفر قد حدث دون سبب واضح أو معلن، فإن كتاباتي الروائية أصبحت، لاحقاً، الحجة لهذا الأجراء، علماً بأن أياً من رواياتي لم يأخذ طريقه إلى النشر إلا بعد عدة سنوات من سحب الجواز، ولا حاجة للإشارة هنا أن الرواية، أية رواية، عبارة عن عالم يتخيله الروائي ويبنيه وفقاً لشروط فنية، وبالتالي يجب ألا يفسر بشكل متعسف أو يسقط على حالة بذاتها، وبالتالي يعتبر سبباً للمساءلة ثم الإدانة: إن حرية التعبير حق معترف به في جميع دساتير العالم، واستناداً لهذا الحق يستطيع الإنسان أن يختلف وأن يعترض وأن يرفض، ومع ذلك يكون أميناً على حياته ومتمتعاً بجميع حقوقه، هذا في الشأن السياسي المباشر، فماذا لو أقتصر التعبير على الخيال الروائي؟ وكيف يعاقب الإنسان على النوايا وليس على الأفعال؟ وإذا اعتمدنا على النصوص القانونية البحتة التي تؤكد أن لا عقوبة إلا بنص، وأن النصوص في تاريخ وضعها ولا تمتد إلى ما قبلها، فكيف توقع العقوبة دون نص، وتمتد إلى فترات سابقة؟ ليس ذلك فقط، أن في جملة القواعد القانونية الثابتة أن الجريمة، على فرض وقوعها، تبقى شخصية، أي لا تتجاوز مرتكبها إلى آخرين لا علاقة لهم بها، فكيف تصبح جماعية وتطال آخرين ليسوا طرفاً فيها؟

إن الحالة التي أعرضها أمام مؤتمركم نموذج لتجاوزات كثيرة وقعت ولا تزال تقع حتى الآن، وأية محاولة للاعتراض عليها، لكشفها.. لوقفها، تعرض من يقوم بذلك إلى الأذى، بما في ذلك حجز الحرية والمنع من العمل أو السفر، وربما أمور أخرى، والمثل القريب البارز ما حصل في الشهر الفائت، شهر أيار 1993، إذ تعرضت اللجنة التي تكونت في العربية السعودية من أجل تقصي الحقائق في انتهاكات حقوق الإنسان إلى الملاحقة والعقاب.

إنني إذ أعرض أمام مؤتمركم هذه القضية، أضعها في الإطار العام لمحنة حقوق الإنسان في بلدي، راجياً أن يتولى مؤتمركم التدقيق في الحالات الكثيرة المتشابهة، وأن يعمل على وضع حد للتجاوزات، وأن يحمل الحكومة المعنية وقفها.

إن مؤتمركم يمثل أملاً للكثيرين، ويشكل ملاذاً لمن وقعت عليهم التجاوزات ونالهم الأذى، ولاشك أبداً في أنكم ستبذلون أقصى الجهد من أجل الدفاع عن الإنسان وحريته وكرامته.

وتقبلوا فائق التقدير، متمنياً لمؤتمركم النجاح في مهمته الإنسانية والحضارية.