بمناسبة رحيل الروائي المبدع

صورة بالشماغ لعبد الرحمن منيف

 

محمد العباس*

 

كرنفال المرحوم عبدالرحمن منيف الاعلامي ليس إلا دلالة على أنه غير معفي من "السعودة". فهنالك من يؤكد بأغلظ الأيمان الصحفية أنه صالح بلاده قبل موته، استنادا الى معلومات وثيقة، وتأكيدات شخصية رفيعة المستوى.

الكل يتسابق لتأكيد هذا التنازل الموقع من الروائي الكبير في دائرة أحوال الوهم بشهادة وتزكية شلة من الأميين.. ولكن لا أحد يمتلك الدليل.

ولأن الحقيقة تنام مع الأموات أحيانا، لن نعرف رقم السجل المدني للروائي الذي لم يفسح له الرقيب هنا، في موطنه سوى رواية "النهايات".

يوم موته تفننت الصحافة الصفراء والخضراء والبنفسجية وحتى الوامضة الكترونيا في تأكيد مواطنيته! وما دمنا في زمن الاختطاف، فقد قيل بعد الحادي عشر من سبتمبر أن الاسلام قد اختطف مثلا.

لننتبه الى محاولات اختطاف منيف من سياقه الانساني.. وحتى لغمزات التأكيد على قوميته أو بعثيته. فهكذا يتم إعدام الشهداء المرة تلو الأخرى.

هنالك من يحاول سعودته ببلاهة أو قسرية أو مكر. كل الصحف استماتت في البحث عن صورة له بالشماغ لتؤكد هذا الانتماء، ولكن محاولاتها باءت بالفشل.

قد يلجأ البعض الى معجزة "الفوتو شوب". ولكن أظن أن أديبا ببراعة منيف؛ وإنسانا بهذا المنسوب من الآدمية عصيّ على الإختطاف.

لدي اقتراح بمناسبة دفنه هناك وهو أن نمارس شيئا من سريالية موت ناظم حكمت؛ فهذا الشاعر الذي دفن بعيدا عن تركيا يوم كانت السلطات العسكرية تتحداه وتتنصل منه، انتبهت على مشارف القرن الحالي الى فداحة جريمتها، فأرادت استعادة رفاته. ولما لم يعد الأمر ممكنا، فقد بات هذا الشاعر شرفا للمكان الموارى فيه. أخذت شجرة من تركيا وغرست بجانب قبره ليكون الوطن كله بجانبه.

فمن يحمل اليوم "برحية" ويغرسها بحب ووفاء الى جانب الإنسان عبدالرحمن منيف؟!

 

***

 

أتتذكرون "معتوق" في نسخته الحياتية؟ قبل أن يدخل "شرق المتوسط" كائنا مروياً؟

أتتذكرون عندما كنا نتأمله خارج الرواية وداخل الحياة؟ أتتذكرون مسودة عذاباته مبعقة ببصمات أصابعه المرتجفة؟

لقد فعلها منيف وخلّده في رواية. الآن يرتاح "معتوق". خذ دورك خلف جنازته واندب مع مظفر. أظنه سيغادر طاولته في مقهى الهافانا ليشارك في الدفن:

(لقد كنت أحلم وعيا

وفي حلم بالذي سوف يأتي وفاء

ومرت جنازة طفل على حلمي بالعشي

يراد بها ظاهر الشام

قلت: أثانية كربلاء

فقالوا من اللاجئين

كفرت

وهل ثم أرض لجوءا لندفن فيها

وهل في التراب كذلك

مقبرة أغنياء .. ومقبرة فقراء

تلفت في ظاهر الشام

أبحث عن موضع لا يمت لغير منابعه

ندفن الطفل فيه

وقد دبّ فينا المساء

وكان على كل أرض نظام الحوانيت

يتبعنا في الغروب

وكان يشار لنا: غرباء

وحين دنونا لمقبرة ليس من مالكين لها

جعجع الحرس الأموي بنا : فرزت للخليفة

قلت: بل يفرز الخلفاء!

وكان نسيم الطفولة ينضح

مما سقوف الجنازة

بين المخيم والشام

تنصت أين اللقاء؟

جنازة من هذه؟

ولماذا بلا وطن؟

وكلاب الخليفة تنبح من خلفها

والمخيم يحملها راكضا

والشواهد تعرق

قلت: فلتعرقي

واكفر على تلة في البعيد الشتاء

أليست هي الأرض ملك لرب العباد!؟

وهذي الجنازة أصغر من اصبع

فادفنوها).

احتفظوا بنواياكم الحنونة، وحافظوا على طراوة نواة "البرحية". ربما تغرسونها هناك ذات زيارة.

فمثله تشدّ الرحال إليه.

لسنا هناك ويا للأسى.

سيقوم "مرزوق" بمهمة مواراته الثرى. أما "متعب الهذال" فأظنه بعد غيابه الملتبس سيراقب المشهد متخفيا من على مدرجات جبل "قاسيون".

 

***

 

الكبار هم من نشعر بعظمتنا عندما ننادمهم. هكذا أحس عندما أقرأ منيف. أحس أني أقرب الى الشرف والنقاء والآدمية. عندما أقرأه أشعر بأن لي معنى، وأن هنالك مهمة متوجبة ينبغي انجازها. ذات حوار عبقري، قال أحد أبطاله لرفيقه: هل ستعترف عندما تعتقل؟

فأجاب: كلا

فرد عليه: هذا السؤال لا يمكنك الاجابة عليه الا عندما تلسعك أول جلدة

فكر منيف هو الأهم. ألم يتنازل في تأصيله للفعل الروائي عن البطولة الفردية لصالح الناس؟

هكذا زرع مكبرات الصوت في حناجر أبطاله ليغنوا معا وبشكل اوركسترالي أنشودة الحياة.

المدهش في أعماله ذلك الديالكتيك الانساني المحير.. الحرية التي رددها حتى صارت أغنيته؛ والفن الرفيع الذي يدعوك أحيانا الى خلع نعليك عند غلاف روايته وشرب القهوة مع أبطاله، أو اصطحاب أحدهم معك الى مقهاك.

 

***

 

عندما ترجمت روايته "تقاسيم الليل والنهار" الى الانجليزية، استعان الناشر بمجموعة من المتخصصين في مفردات الحياة الشعبية. ليتهم استعانوا بي لأبين ما خفي عنهم من اللاشعور في كتاباته، وما لا يمكن لمترجم أن يلتقطه. أزعم أن هنالك هسهسات خفية في نصه الروائي لا يدركها الا من عبر برازخه، واعتنق كتابه كعقيدة. كانوا بحاجة الى من يفسر الفرق بين "اغتيال الأشجار" وكيف "الأشجار تموت واقفة".

"المنيفية" كما أسمي فعله الروائي يشبه من ناحية الأثر "المحفوظية" عربيا بل و "الكافكوية" أوروبياً. أظنه الآن اندس بروعة المنتصر في مقبرة الدحداح، في منطقة السادات وسط دمشق.

 

***

 

يبدو أنه عام رمادي. أتمنى ألا تستبدل الصبايا بكلاتهن وشرائطهن الملونة بوشاحات السواد.. المهم أن ينتبه الوطن الى أبنائه قبل أن يتذكرهم بعد فوات الأوان، ولا يبقى الا النعي.

أمة لا تقدر مبدعيها هي أمة ملعونة.

 

***

 

لا نتفق مع كل ما قاله منيف، وقد أعطانا بأريحيته حق الاختلاف معه. دعوا عنكم الذين يديرون عجلة التاريخ الى الخلف. أوليست الرواية هي "فن التلفت الى الوراء" كما أطّرها ميلان كونديرا؟

هكذا كان يتلفت منيف على الدوام لكنه يسير بنا ومعنا الى الأمام. لم يطلق رصاصة واحدة على الماضي، كما أوصاه امبرتو اكو، ليكسب حقيقة المستقبل.

 

***

 

لا كرامة لنبي في قومه. لكن ما يحدث هنا اليوم هو أن أغلفة روايات منيف تنافس أشرطة محمد عبده. إنه كرنفال حقيقي. تتذكرون بالتأكيد الأفلام الهندية عندما يكتشف الأب ابنه بعد سنوات، وبعد أربع ساعات من الدموع والمغامرات والميلودراما!

هناك من يريد اقناعنا اليوم بفيلم "عودة الابن الضال" ولكن تحت عنوان آخر "استعادة الابن الضال"!

لم يعد منيف نكرة. وقد بات عصيا على (السعودة)! كما تمرد أصلا على شرنقة العوربة.

لا أظن أن شماغا يمكن أن يحتوي رأسه العنيد. روائي يترجم الى كل اللغات يريدون العودة به الى أزقة منفوحة.

الحمد لله أنه لم يتسعود والا لحشروه في المقررات المدرسية في كتاب المحفوظات!

منيف الذي تقاسم مع جبرا "شارع الأميرات" ومراسم الفنانين والمقاهي، وحتى الحبر والأنفاس في رواية مشتركة، أيمكنه أن يرضى بوصايا الرؤساء الأبديين للأندية الأدبية؟!

أظن أن وصية أمل دنقل "لا تصالح" نزلت فيه. أنبهكم الى أن المستثقفين وأنصاف المثقفين سيظهرون بعد أيام صورهم التي التقطوها معه لفضول السياح، وأظن أن من الأولى أن نفهم ما الذي أراد منيف أن يقوله. لا ينبغي أن نقوّله، ولكن لا بأس أن نؤوله. فكل حياته حمولات. ولي سؤال: أرأيتم مثقفا عربيا حقيقيا لا ينطبق عليه وصف معتقل سابق؟

وترى كم هي المسافة بين المثقف الحقيقي والسياسي الفاعل؟

 

* كاتب وناقد سعودي

(نقلا عن منتدى طوى)