حقوق الانسان والتفسير الديني.. مزاوجة سعودية خاصة

 ناجي حسن عبد الرزاق

بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي شارك فيها 15  مواطناً سعودياً، بدأت الحكومة السعودية بسلسلة حملات  علاقات عامة بهدف تحسين صورتها لدى الرأي العام العالمي. ويأتي عقد مؤتمر لحقوق الإنسان في السلم والحرب في  العاصمة السعودية الرياض خلال يومي 14 و15 أكتوبر 2003 أو عقد مؤتمر عالمي حول موقف الاسلام من الإرهاب في  جامعة الإمام محمد بن سعود ضمن هذه السلسلة الدعائية  لإظهار العربية السعودية كدولة حريصة على حماية هذه الحقوق وعلى محاربة الإرهاب وثقافة. إلا أن المشكلة   الرئيسية التي تجعل هذا الحرص مجرد مناورة هي أن نظام  الحكم السعودي لا يزال متشبث ببُنية سياسية وأيديولوجية  عاجزة عن التكيف مع متطلبات التحديث الداخلي السياسي  والاقتصادي والثقافي والاجتماعي والحقوقي.

فبالنظر إلى نظام الحكم السعودي الذي لم يكن منذ تأسيسه حتى الآن كافلاً لحقوق المواطنين، نجده في الوقت نفسه  يتناغم مع الوهابية كأيديولوجيا التي أسست لثقافة متشددة هدفها تعضيد قرارات هذا النظام وقمعه لمعارضيه. لذلك من الصعوبة بمكان أن يتخلى النظام السعودي بتركيبته الحالية  عن بنيته السياسية والدينية الوهابية واستبدالها ببُنية أخرى تكفل الإقرار بتنفيذ بنود حقوق الإنسان بما يعطي للمواطنين حق التعبير عن الرأي وانتخاب ممثليهم ومساءلة السلطة التنفيذية ومراقبتها، كما يكفل لهم نظام قضائي مستقل ونزيه.

إن الجدية التي تدعيها الحكومة السعودية لتأسيس ثقافة حقوقية مناهضة للعنف والإرهاب فاقدة للمصداقية. فالحكومة رفضت دعوة منظمة العفو الدولية وهيمان رايت ووتش لحضور المؤتمر المذكور، وقمعت بشدة المعتصمين الذين طالبوا بحقوقهم السياسية والاقتصادية، ولا زالت تماطل في إقرار لجان لحقوق الإنسان بل لم ترد حتى الآن على مطالب شعبية لتأسيس لجان لهذه الحقوق. كما لم تستجب الحكومة السعودية أيضا للمطالب الإصلاحية التي تضمنتها عرائض وبيانات شعبية إلا بقدر ضئيل جداً منها وهي الإقرار بانتخاب نصف أعضاء مجالس بلدية من الذكور فقط حارمين بذلك حق المرأة في التصويت. فالتصريحات التي يدلي بها بعض الأمراء السعوديين حول حقوق الإنسان لا تعدو أن تكون مجرد طريقة لتحسين الصورة السعودية التي بدت أكثر قبحا ًبعد 11 سبتمبر.

 المزاوجة بين الوهابية وحقوق الإنسان مهمة مستحيلة..

 كلما مضى الوقت تحولت الوهابية إلى مشكلة أكثر استعصاء، ومع ذلك يصر نظام الحكم في السعودية على أن تبقى الوهابية جزء من آليته. إن ردع الإرهاب واقتلاع جذوره الأيديولوجية يبدو مستحيلاً ببقاء الوهابية كمذهب وحيد يحتكر فهم الإسلام في البلاد. وما دامت السلطة السعودية متشبثة بالمنطلقات الوهابية لفهم الإسلام، فإن إدعاءاتها بمحاربة الإرهاب وثقافته ليس إلا محاولة للدفاع عن النفس بخطاب ظاهره الاعتدال وباطنه التطرف.

إذا كانت ثقافة حقوق الإنسان مطلب ضروري لتنمية المجتمع السلمي والمدني، فإن التخلي عن الثقافة الوهابية مطلب أكثر ضرورة لجعل هذه التنمية حقيقة. فالتحديث الحقوقي في البلاد لن يُكتب له النجاح في ظل الهيمنة الدينية الوهابية التي تدعمها السلطة السعودية. إن تبني هذه السلطة للخطاب الوهابي العقائدي السلفي كارثةً على حقوق المواطنين، لأنه خطاب يعمل باستمرار على تصعيد الكراهية وتنمية العداوات مع المجتمعات في العالم. لذلك من غير المبرر أن تتبنى الحكومة السعودية الخطاب الوهابي السلفي كجزء من آلية حكمها. فتبنيها له يشير إلى تصميمها على إقصاء حقوق منْ لا يتفقون مع المنطق الوهابي الديني.

وحتى الآن لا تعارض هذه الحكومة ما يطرحه الوهابيون من آراء متطرفة إزاء المذاهب الأخرى. فهي تسمح عملياً بظهور إعلامي وهابي يمارس عنصريته المذهبية عبر برامج دينية يبثها الإعلام السعودي المرئي والمسموع والمقروء يومياً بدون أن يكون للمخالفين مذهبياً أدنى مساحة للتعبير عن آرائهم المذهبية لتوضيح وجهات نظرهم. بل لا يقتصر الأمر على احتكار الخطاب الديني الوهابي لوسائل الإعلام الرسمية فقط بل يُسمح له بالتعبير عن آرائه المذهبية ضد قناعات المواطنين وغير المواطنين المذهبية والأيديولوجية المخالفة. أذكر في هذا الصدد أمثلة: قبل مؤتمر حقوق الإنسان في السلم والحرب بأسبوعين تقريباً، صدرت (مجلة الدعوة)، وهي مجلة سلفية معروفة وتضمنت تحقيقاً استضافت فيه علماء ودعاة وهابيين أجمعوا على أن الاحتفالات بليلة النصف من شعبان من البدع المحرمة ومن الانحرافات(1). علماً بأن المواطنين الشيعة في العربية السعودية يحتفلون بهذه الليلة ويعتبرونها ليلة ميلاد الإمام المهدي (ع) الإمام الثاني عشر في المذهب الشيعي الجعفري، وهو ما يعني أن هؤلاء المواطنين يمارسون البدع والإنحراف من وجهة نظر هؤلاء العلماء والدعاة. ولاحقاً، صدر عدد آخر من نفس المجلة بعد المؤتمر بعشرة أيام تقريباً شمل لقاء مع الشيخ عبد الله بن خلف السبت الذي بدا عنصريا ومحرضاً على كراهية المذاهب الإسلامية الأخرى ورافضاً التقريب بينها. فهو يقول:(كانت الفرق المنحرفة عقائدياً تعيش في عزلة ولم تستطع الإندماج في المجتمعات الإسلامية، وقد كانت الأمة تسير على منهاج السلف وتظهر عقيدة أهل السنة والجماعة، ولما يأس أرباب الفرق من الإندماج في مجتمعات أهل السنة سعوا إلى طرح فكرة التقريب، وهذا التقريب الذي تورط فيه كثير من الإسلاميين المعاصرين، إنما هو دعوة أهل السنة إلى ترك السنة والسكوت عن الفرق وأهلها.. وعليه فإن  الدعوة إلى التقارب إنما هي دعوة لإدخال عنصر فاسد في وسط الأمة المسلمة..ولذا فإنا نرى الدعوة للتقارب.. تؤدي إلى إضعاف الإسلام وتشوه جماله..وقد وقف دعاة الدعوة السلفية، عبر تاريخهم الطويل محذرين الأمة من هذا التقارب وهذه الخديعة، كاشفين زيفها وبطلانها، وإنا لندعوا كل أتباع هذه الجماعة أن يوقفوا هذا الانزلاق)(2).

إن مثل هذه الأفكار والمواقف الدينية العنصرية المعلنة رسمياً لا تمثل موقفاً شخصياً لدى كل شيخ وهابي فقط بل تمثل رأي المؤسسة الدينية الرسمية التي ترعاها مؤسسة الحكم سعودي التي تزعم أنها تنهج المنهج الوسط.

فما يردده الوهابيون المدعومون من الأمراء السعوديين في خطابهم الديني يسير وفق أجندته العنصرية التقليدية التي لا تعترف بحقوق للإنسان سواء في داخل السعودية أو خارجها. فمنذ عام تقريباً تطرقت مجلة شؤون سعودية(3) للجوانب العنصرية الدينية التي أكد عليها كتاب التوحيد للصف الأول ثانوي للعام الدراسي 2001 و2002. إلا أنه بسبب العنصرية الوهابية المكشوفة في هذا الكتاب، وبسبب الضغوط الخارجية جرى تغيير معظم محتوياته حتى لا تبدو الحكومة السعودية حاضنة للثقافة الإرهابية ومشجعة عليها. ومع ذلك تضمن هذا المقرر موقفاً معادياً من الفلاسفة باعتبارهم أعداء الرسل(4)، ما يعني أن الدراسات الفلسفية من المحرمات التي لا يجب أن يدرسها الطلاب. فهو حجر ووصاية تنم عن جوهر المذهب الوهابي المعادي للعلم والفكر المستنير. كما وردت في هذا المقرر أيضا بعض الملامح العنصرية ضد فرق إسلامية كالمعتزلة والأشاعرة لأن لهم موقف عقائدي من أسماء الله وصفاته مختلف عن الموقف الوهابي. فلهذه الفرق أصول شركية كما يعتقد الوهابيون، فبئس السلف لبئس الخلف(5). ولأن بقية الكتب المدرسية الأخرى في التعليم الثانوي لم تُسلط عليها الأضواء الكاشفة لتغلغل العنصرية المذهبية الوهابية فيها، فإن السلطة السعودية تجاهلت تغييرها. فلو تتبعنا الخطاب العنصري المحرض على الإرهاب في ثنايا هذه الكتب للعام الدراسي الحالي 2003 / 2004 والتي أقرتها وزارة التربية والتعليم بناء على تعميم أرسل لجميع المدارس السعودية بتاريخ 11/ 7/ 1424هـ ورقم 497/44 نجدها تتضمن انتهاكات واضحة لحقوق الإنسان الفكرية وذلك بوجود عبارات محرضة على كراهية الآخرين وتشويه معتقداتهم. فعلى سبيل المثال ورد في كتاب التوحيد للصف الثاني ثانوي توصيفات عنصرية للفرق الإسلامية الأخرى. فالأشاعرة والمعتزلة فرق ضالة ومنحرفة. بل ورد اسم النصارى أو المسيحيين باعتبارهم فئة منحرفة وضالة لأنها تعبد المسيح بن مريم(6). كما يتبنى كتاب التوحيد للصف الثالث الثانوي قسم العلوم الشرعية والعربية(7) تفسيرا خاصا للشرك كمفهوم عقائدي يُدرّس حاليا في المدارس السعودية من منطلق الفهم الوهابي المتطرف للشرك. وهذا يعني أن هذا المفهوم يساهم في تأسيس رأي عقائدي متطرف ومحدد وثابت يجعل التعايش بين المواطنين مهمة مشكوك في نجاحها أو مستحيلة بل يصنف أصحاب الديانات الأخرى بحسب هذا التفسير في فئة المشركين أو شبه المشركين. لأن معنى الشرك الذي يُغذى به الطلاب يكوّن موقفاً حذراً ومتشددا أو متطرفا من كل تصرف يصدر من الآخرين لا ينسجم مع هذا المعنى. فعادات الجماعات المذهبية غير الوهابية ستكون – بحسب معنى الشرك وهابيا -  غير مقبولة دينيا لأنها أفعال شركية. فتعليق التمائم وزيارة القبور وتشييد العلامات التذكارية وبناء القبب وممارسة النذر بالذبح وتفريج الكربات عند الأضرحة المبنية على قبور الأولياء والصالحين هي من الشرك(8).

وعليه يتحول المواطنون الشيعة وغير الشيعة الذين يمارسون عاداتهم الثقافية والاجتماعية المتعلقة بقبور أو تماثيل رموزهم الدينية والتاريخية إلى مجرد أناس مشبوهين ومتهمين بالغلو والشرك. أما العلمانيين وأصحاب الأيديولوجيات الأخرى فجرى الحكم عليهم بالكفر(9). فهذا التحريض الممنهج قد دفع بعض المتطرفين للحكم على الكاتب تركي الحمد على سبيل المثال بالقتل بتهمة العلمانية. كما اعتبرت المعتزلة والصوفية (والشيعة وإن لم يسمّهم ) بالمبتدعة باعتبارهم ـ كما يعتقد الوهابيون ـ أصحاب نذور ويطوفون حول القبور تقرباً(10).

إن مثل هذه المواقف المذهبية العنصرية لا تتفق مع نصوص حقوق الإنسان بل أن هذه المواقف الأيديولوجية المتطرفة ضد المذاهب الإسلامية داخل العربية السعودية وخارجها تهىء الشباب اليافعين إلى الانضمام إلى جماعات التطرف والإرهاب في المستقبل. ولو لا التشبث السعودي الرسمي بما جاء به محمد بن عبد الوهاب لما كُتب للثقافة المذهبية الوهابية المتطرفة أن تنموا وتترعرع. فكتاب تاريخ المملكة العربية السعودية الذي يُدرس حاليا لطلاب الصف الثالث ثانوي في المدارس السعودية يعتبر محمد بن عبد الوهاب من الرموز السعودية التاريخية وأحد رموز عقيدة السلف السعودي لأن دعوته هدفت إلى:

1. محارب الشرك والبدع والخرافات.

2. سد الذرائع المؤدية إلى الشرك بنوعيه.

3. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

4. تطبيق الشريعة الإسلامية في كل أمور الحياة.

5. إقامة دولة إسلامية قادرة على حماية الدعوة ومناصرتها، ومحققة لأهدافها(11).

ما يشير إليه كتاب تاريخ المملكة العربية السعودية من تأكيد على الصحة المطلقة لإسلامية دعوة محمد بن عبد الوهاب وعلى صحة أهداف دعوته ينسجم تماماً مع ما تورده المقررات الدينية في مدارس المرحلة الثانوية السعودية للبنين من حيث صحة عقيدة السلف وبطلان المذاهب التي لا تتفق مع هذه العقيدة. بل أن أهداف دعوة محمد بن عبد الوهاب تؤصل دينيا للعنف الذي يهدف إلى إقامة دولة إسلامية قادرة على حماية الدعوة ومناصرتها ومحققة لأهدافها الأخرى كالقضاء على مظاهر الشرك والبدع كما تحددها الآراء الوهابية. لذلك يؤصل هذا الطموح المذهبي الوهابي إلى إقصاء الشيعة والإسماعيلية والصوفية ومعاداة  الأديان الأخرى لأنها مذاهب وأديان شركية ومبتدعة. فهذه الثقافة المذهبية الوهابية العنصرية تقرها السلطة السعودية عبر وزارة التربية والتعليم ووزارة الإعلام، وبحماية وزارة الداخلية الأمر الذي يجعل أي زعم حكومي سعودي فاقد لمعناه الصحيح حينما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان في السعودية أو بحوار وطني يكون الوهابيون (الوسطيون) الطرف المنظر والراعي له أو بعقد مؤتمرات عالمية الطابع لمحاربة الإرهاب وثقافته.  

 

الازدواجية السعودية بين القول والفعل.. 

تحاول الحكومة السعودية تبرئة ساحتها من مفرزات التطرف الوهابي الديني الذي نشأ برعايتها منذ عشرات السنين. وفي نفس الوقت لا تريد التنصل من الوهابية كتفسير ديني للنصوص لأنها جزء من بُنية هذه الحكومة. وللوصول لمعادلة دينية مقبولة داخليا وخارجيا، تبنت خطاباً دينياً تدعي أنه وسطي أو معتدل. وعلى هذا الأساس قرّبت إلى صفوف مؤسستها الدينية او هذا هو مسعاها الآن عددا ممّن يصفون أنفسهم بالوسطيين الدينيين وجميعهم من التوجهات المذهبية  الوهابية. فمثلاً، اعتبر المحرر الثقافي في مجلة الدعوة الآنفة الذكر أن الشيخ عبد الله بن خلف السبت  (أحد رموز التيار السلفي المعروف باعتداله وانطلاقه من النصوص الشرعية دونما تحامل أو تطرف..همه الانشغال ببيان منهج السلف الصالح والدعوة إليه بالحكمة..)(12) ومع ذلك يقر هذا الشيخ السلفي الوهابي (الموصوف بالإعتدال أو الوسطية) بأن التقارب بين المذاهب مفسدة للإسلام وخطر تشكله الفرق المنحرفة والمبتدعة.

بكل تأكيد أجبرت هجمات 11 سبتمبر الحكومة السعودية على دفع المؤسسة الوهابية الرسمية إلى التظاهر بخطاب ديني معتدل للتأكيد على تبرئة الذمة من التطرف الديني وإنقاذا لمؤسستها الدينية من تهمة الإرهاب. فجاء تبني تقريب الحكومة السعودية لعدد من الوهابيين الجدد الذين أطلقوا  على أنفسهم بالمعتدلين او الوسطيين ليجدوا قبولاً داخلياً وخارجياً حتى يكونوا بديلاً مقبولا عن الوهابيين التقليديين. وعليه يتباين الوهابيون في ظاهر خطابهم  حول مسائل عدّة مثل مفهوم حقوق الإنسان والمواطنة والمذهبية.

لكنهم يتفقون في باطنه بدليل رفضهم الفعلي والمطلق لإشراك المواطنين من المذاهب الأخرى في صنع خطاب ديني موحد أو مشترك يعبر عن صيغة تقبلها جميع المذاهب داخل السعودية. فالوهابية الجديدة مثلاً لم تصرح بموقف علني بضرورة إشراك المواطنين الشيعة بكل أصنافهم والصوفية في صياغة رؤية دينية مشتركة تُعتمد وطنيا وتخاطب بها الحكومة المواطنين والمجتمع الإقليمي والدولي. هذا الرفض ينم عن إزدواجية بين ظاهر ومضمون خطاب الوهابية الجديدة التي تدعمها السلطة السعودية من الخلف. فتبني خطاب ديني معتدل (وهابي الصفات) هدفه أن يكون رسالة دعائية للمجتمع الدولي، وخاصة المجتمع الغربي والأمريكي، تفيد بأن السعودية لا ترعى الإرهاب وليست حاضنة ولا مغذية لثقافة الإرهاب وأن الوهابية لا تشكل خطرا على أمن الأفراد والجماعات في العالم. فلو قُبل الخطاب الوهابي الجديد عالمياً، فإنه سيسهل مهمة الحكومة السعودية في أن تكون أكثر قرباً من الرضا الأمريكي لأنه الأساس في حمايتها، كما سيسهل مهمتها في اختزال مطالب المواطنين الإصلاحية إلى أدنى حد كتلك المتعلقة بحقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمذهبية. ولهذا تضطر السلطة إلى تبني موقفين متناقضين: موقف غير معلن مناهض لحقوق الإنسان عبر دعم الوهابية بثوبها الجديد وإنكاره حقوق المواطنين الإنسانية كحق الوجود الفكري المخالف للوهابية،  وموقف آخر معلن يتبنى محاربة الإرهاب ومبرراته الدينية ودعم منطق الاصلاحات بما في ذلك الاصلاح الحقوقي. وعموما إن الزعم السعودي الوهابي بقبول قيم التسامح الديني لا يمثل تغيرا حقيقيا في مضمون البُنية السياسية والدينية السعودية وإنما يعكس موقفا تكتيكيا يخدم بقاء التحالف بين العائلة الحاكمة السعودية والوهابية ولكن بثوب جديد مغلف بخطاب ديني معتدل يضمن التخفيف من غضب الولايات المتحدة الأمريكية أولاً واقناع ثانيا المذاهب في الداخل بتقبل الوهابية كجزء من منظومة الحكم السعودي. ولو استمر هذا التكتيك فسيؤدي من الناحية الفعلية إلى مصادرة حقوق المواطنين السياسية والدينية أو الأيديولوجية، بل ويعيد إنتاج ثقافة إرهابية أشد تدميرا لا تمت لحقوق الإنسان بصلة  ولا للمطالب الشعبية بالاصلاح الشامل. فالإزدواجية بين القول بحقوق الإنسان والفعل المنتهك لهذه الحقوق تنم عن عجز بنيوي في فكر الحكومة السعودي ومؤسستها الدينية.

فمثلاً يقول الأمير نايف أن الدولة السعودية تحترم حقوق الإنسان ومع ذلك يقر بأن حق التظاهر والاعتصام في السعودية (مخالف للنظام)(13) ويأتي الموقف الديني الوهابي الرسمي الذي عبر عنه المفتي العام للسعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ منسجما تماما مع الموقف السياسي السعودي حول حق التظاهر والاعتصام ذلك انه اعتبرها  (أمور منكرة محدثة فلا يجوز القيام بها)(14) علماً بأن هذا الحق قد كفلته بنود حقوق الإنسان العقائدية والسياسية. بطبيعة الحال لا يثير استغرابنا أن يتفق رأي الأمير نايف المناهض لحق التعبير عن الرأي العقائدي والسياسي بالتظاهر أو الاعتصام أو الكلمة مع رأي المؤسسة الدينية الوهابية الرسمية التي تحرم منح المواطنين حقوقهم العقائدية السياسية التي كفلتها لهم جهات حقوقية عالمية.  فهذه المصادرة تسفر عن نفسها كل يوم في العربية السعودية.

ما تمارسه الحكومة السعودية من إجراءات مزدوجة ومخالفة لحقوق الإنسان والمبررة بثقافة دينية وهابية سلفية، ضار بمصداقيتها وكفيل بمضاعفة العنف وتسارع التدهور الاجتماعي والسياسي في البلاد. هذه الممارسة تمثل مشكلة فعلية أمام الاصلاحات الحقيقية وعقبة أمام تحقيق العدالة بين المواطنين. وإن البطء أو التلكؤ في معالجة المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية قد يدفع قوى شعبية إلى اعتماد وسائل أخرى لا توافق عليها الحكومة. أما الاستمرار في آليات القمع التقليدية كما يبشر بها الأمير نايف في أجهزة الإعلام فلن تجدي في إحلال الأمن كما لن تضعف إرادة الجماهير بالمطالبة بالإصلاحات. بل على العكس قد يزيد القمع من احتمال تحول وسائل المطالبة السلمية بالإصلاحات إلى أعمال عنف تُضاف للصراع المسلح الحالي بين جماعات العنف السعودية والحكومة. مما يعني أن فرص السيطرة على الأوضاع الأمنية الداخلية ستفقد جدواها معرضة الأمن الوطني للمزيد من التدهور والخطر. وتكون المحصلة هي أن الحكومة السعودية قد دفعت بشرائح أكبر من الشعب إلى تبني وسائل العنف بدلاً من تبني وسائل سلمية للحصول على الحقوق. فانسداد الأمل في الحصول على الحقوق يذكي جذوة العنف ويبرر استمراره لأن مقدار الحرمان من هذه الحقوق أبلغ أثراً من قدرة الجماهير على الانتظار حتى يرتب الأمراء شؤونهم بالطريقة التي تروق لهم. ولا

يُعتقد بان ما يُكتب في الصحف السعودية حول مسألة الانتخابات البلدية كاف لإيجاد ضوء في نهاية النفق.

فالواقع اليومي المحلي والإقليمي والعالمي لا ينتظر الحركة البطيئة لخطة الإصلاحات المفصلة على قدر الرغبات السعودية. إن الانتقال إلى المجتمع المدني السلمي لا يأتي بوسائل القمع الأمني والديني ولا بمصادرة حقوق الإنسان ولا بالتشبث بالوهابية كأساس للشرعية. فالطريق إلى تأسيس ثقافة حقوق الإنسان تتم عبر الإصلاحات الحقيقة التي طالبت بها العرائض والاعتصامات الشعبية. ولن تتمكن العائلة الحاكمة السعودية من بسط الأمن الداخلي أو الاستقرار الاجتماعي بالوسائل التقليدية في وزارة الداخلية وفي المؤسسة الدينية الوهابية الرسمية لأن هذه الوسائل أصبحت جزءا من مشكلة البلاد الحقوقية وقد تكون سبباً من الأسباب التي تقوض وحدة البلاد وإنهاء نظام الحكم السعودي من الوجود.

 

هوامش

(1) مجلة الدعوة – عدد ( 1912)  2 أكتوبر 2003 من ص 36  إلى ص 41. هذه المجلة تصدر  في السعودية عن مؤسسة الدعوة الإسلامية الصحفية التي أسسها الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ

(2) مجلة الدعوة  عدد ( 1915)  23 أكتوبر 2003 من ص 22 إلى ص23

(3) مجلة شؤون سعودية، العدد الثاني

(4) كتاب التوحيد للصف الأول الثانوي 2003 ص 15

(5) المصدر السابق، من ص66  إلى ص 67

(6) كتاب التوحيد للصف الثاني الثانوي قسم العلوم الشرعية والعربية 2003 ص 37 وص 38. لم يجري أي تغيير على هذا الكتاب بحسب التعميم الوارد للمدارس السعودية بتاريخ 11/7/ 1424هـ ورقم 497/ 44 حيث تعتبر وزارة التربية والتعليم السعودية هذا الكتاب صالحا للتدريس للعام الدراسي 1424/ 1425هـ.

(7) كتاب التوحيد للصف الثالث ثانوي من ص 61  إلى ص65. تعتبر وزارة التربية والتعليم السعودية هذا الكتاب صالحا للتدريس للعام الدراسي 1424/ 1425هـ وفق التعميم المذكور. 

(8) المصدر السابق - كتاب التوحيد للصف الثالث الثانوي، ص 64

(9) المصدر السابق ص 73

(10) المصدر السابق من ص 116 إلى ص 118 وكذلك ص 124

(11) كتاب تاريخ المملكة العربية السعودية للصف الثالث الثانوي – 2003 ص 19. تعتبر وزارة التربية والتعليم السعودية هذا الكتاب صالحا للتدريس للعام الدراسي 1424/1425هـ وفق التعميم المذكور.

(12)  مجلة الدعوة عدد 1915، ص 22

(13)  صحيفة عكاظ –14/10/2003

(14) صحيفة الوطن –27/10/2003