لا مفرّ من التغيير

مطالب الإصلاح لم تأخذها الحكومة بجديّة

جعفر الشايب

بعض المحللين السياسيين يرون بأن التغيير الإجتماعي ـ السياسي أصبح أمرا لا بد منه في السعودية ليس فقط بسبب ما جرى ويجري من أحداث وتفاعلات داخلية وخارجية قد تساهم في الإسراع بعملية التغيير، ولكن أيضا بسبب التطور الطبيعي للمجتمع الذي نتج عن تفاعلات الطفرة النفطية منذ السبعينات وتفكك أطر التنظيم الإجتماعي التقليدية وعدم انتظام أطر أهلية بديلة عنها. ويستندون في ذلك إلى نماذج عديدة من التغيرات التي حدثت على صعيد المجتمع وساهمت بشكل أو بآخر في إعطاء أفراده المزيد من المرونة والحرية النسبية. ومع التطور الإجتماعي والإنفتاح الإعلامي الحالي، فإن مسيرة التغيير تتجه إلى القبول ببعض ما لدى الآخرين والتعاطي معه بصورة من الصور. وينتهي من يرون هذا الرأي إلى أن هذه الصيرورة الطبيعية التي هي إفراز حتمي للتنمية الإقتصادية والإجتماعية ستؤدي في النهاية إلى إتخاذ خطوات إصلاحية ـ ولو جزئية ـ على الصعيد السياسي تتماشى مع هذا التطور، وخاصة مع تبلور طبقة من الفاعليات والقوى الإقتصادية والإجتماعية ذات الطموح السياسي. كما أن المتغيرات السياسية والظروف الإقليمية والدولية ـ وخاصة بعد أحداث 11 أيلول ـ ستساهم في التسريع بخطوات التغيير القادمة، حيث أن هنالك شواهد عديدة ومعروفة تشير إلى أن الأيام القادمة حبلى بتغيير ما.

المطلوب: مشروع إصلاحي شامل نابع من إرادة شعبية أو سياسية تقف خلفه ويحمل مضمونا تغييريا نحو الأفضل بهدف زيادة مستوى المشاركة الشعبية وتحسين أداء النظام السياسي عبر إجراءات دستورية وقانونية متفق عليها. أي أن الإصلاح يتطلب مشروعا واضحا وجهة ذات إرادة للقيام به وبرنامجا زمنيا لتنفيذه.

 بين المطالب الشعبية والإرادة السياسية

 من أجل أن يحقق الإصلاح مقاصده وأهدافه، لا بد وأن يتوافر في مشروع الإصلاح السياسي حالة من التوافق بين مطالب المجتمع وبين إرادة القيادة السياسية حتى لا يأتي من فراغ ولا يؤدي إلى خيبة أمل وشعور بالإحباط. وهذان البعدان الأساسيان (المطالب الشعبية والإرادة السياسية) متلازمان لأن كل منهما يكمل دور الآخر ويدعم مشروعه.

ففي جانب المجتمع، تعمل النخب السياسية والثقافية على تطوير آليات العمل السياسي والنقابي وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية وتطوير مؤسسات المجتمع المدني بما يتلاءم والوضع الإجتماعي القائم، وعليها العمل على تنمية سبل مشاركة أبناء الوطن في إدارة الشأن العام وصناعة القرار. وذلك يتطلب جهودا كبيرة وعملا جادا يشتمل على توعية سياسية وحقوقية خاصة في مجتمع ابتعد عن ممارسة العمل السياسي والمشاركة فيه منذ فترة ليست بالقليلة. كما تمارس هذه النخب دورا إيجابيا في طرح مشاريع وأفكار عملية لدفع عجلة التنمية الإجتماعية والإصلاح السياسي وبلورة حلول ومقترحات لمواجهة الأزمات السياسية الراهنة.

وفي مقابل ذلك يفترض أن تكون هناك إرادة سياسية تتبنى مشروعا إصلاحيا متكاملا يطبق ضمن برنامج زمني واضح ومحدد يراعي الأولويات وتنظيم الأسس والنظم التشريعية والدستورية التي تجعل من مثل هذا المشروع إنجازا سياسيا يدعم حالة الإستقرار والتنمية.

وبغض النظر عن المبررات التي ينطلق منها مشروع الإصلاح، فإنه ينبغي أن يوفر مجالا رحبا لتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية، وتنظيم مسارات التمثيل الشعبي عبر الهيئات والجمعيات المنتخبة، وتهيئة الفرصة لمختلف الفئات الإجتماعية لضمان مشاركتها وتفاعلها مع المشروع.

من الطبيعي أن يتطلب المشروع الإصلاحي التنازل عن بعض المكاسب والامتيازات من أجل إشراك القطاع الأكبر من أبناء الوطن في هذا المشروع، ولكنه إستثمار طويل الأجل حيث يؤمل أن ينتج عنه فيما بعد مزيد من الرضا والإستقرار الإجتماعي والتنمية السياسية. ومثل هذا الرهان قد حقق نتائجه الإيجابية الكبيرة في العديد من دول الجوار وفي فترات زمنية قياسية جدا.

لا بد من الإقرار بأن الظروف السياسية الحالية يمكن أن تلعب دورا مهما في الإسراع بولادة مثل هذا المشروع، فالضغوط الخارجية النابعة من مصالح مؤقتة تدفع باتجاه مثل هذا المشروع بحيث يسخر لخدمة أغراضها واستهدافاتها المحددة. ولكنه في نفس الوقت مطلب شعبي يساهم بكل تأكيد في معالجة الأزمات السياسية والإجتماعية القائمة. ومن أجل أن يتطور ويستمر دولاب الإصلاح ينبغي أن يأتي ضمن إرادة محلية واعية وفهم دقيق للمرحلة ومتطلباتها وليس كرد فعل مؤقت للأحداث والتفاعلات الخارجية مهما كانت مبرراتها وظروفها، كما ينبغي حمايته دستوريا لأنه يعتبر إنجازاً تاريخياً لأبناء هذا الوطن قادة ومواطنين.

 

مطالب الإصلاح

 

المتابعون لما يجري على الساحة الداخلية يدركون أن هنالك مطالب إصلاحية محددة تم التعبير عنها من قبل النخب المثقفة بعدة طرق أبرزها اللقاءات مع كبار المسئولين وقادة البلاد وكتابة المذكرات والبيانات المختلفة. وقد حددت هذه المطالب الإصلاحات في بعدين إثنين. الأول يتعلق بضرورة اتخاذ إجراءات فورية وعاجلة لمعالجة الأزمات الكبيرة التي يمر بها الوطن من ارتفاع مستوى البطالة وتفشي حالة الفساد الإداري وضعف النظام التعليمي وسبل مواجهة حالات العنف والإرهاب المادي والمعنوي وما إلى ذلك من أزمات حادة يجب العمل على معالجتها بصورة جادة وحاسمة وضمن خطط مدروسة ومنهجية واضحة.

أما البعد الثاني فيتعلق بما يطمح إليه أبناء هذا الوطن من تطوير في البنية الأساسية في النظام السياسي بحيث يمكن أن يستوعب التحولات والتغيرات التي تمر بها المنطقة والعالم بشكل عام وبما يضمن مستقبلا أكثر استقرارا من الناحية الإجتماعية ومشاركة شعبية في صناعة القرار. كما ويشمل الإنفتاح أكثر على مختلف القوى الإجتماعية وإعطائها الفرصة للتعبير عن وجوداتها وتوسيع دائرة التسامح الديني والفكري وتنمية مؤسسات المجتمع المدني وغير ذلك مما يساهم في تفعيل طاقات أبناء الوطن وإشراكها في مشروع الإصلاح.

هذه الوثائق والبيانات المتعددة والتي عبرت عن مطالب أطياف وطنية ذات إتجاهات فكرية وسياسية ومذهبية متعددة إستطاعت أن تبلور صيغة مطلبية متوازنة تقر بالأمر الواقع وتعترف بالنظام السياسي والإجتماعي القائم، ولكنها تدفع باتجاه المزيد من الإعتراف بالحقوق المشروعة للمواطنين وتبنيها بصيغ أكثر تطورا من الناحية الدستورية والتعاقدية. وقد حققت هذه الأنشطة تقاربا فكريا وتوافقا سياسيا غير معهود على صعيد النخب المثقفة في المملكة التي كانت وإلى عهد قريب تعيش حالة من التباعد وعدم الألفة.

وعلى الصعيد الشعبي استطاعت هذه الوثائق والمذكرات أن تعبر عن جزء كبير من الرأي العام وتخلق إجماعا كبيرا على مطالبها التي أعتبرت ممثلة لمطالب مختلف الفئات الإجتماعية. مع أن بعض التيارات تحفظت على مثل هذه المشاريع باعتبار أنها دعوة إلى مزيد من الإنفتاح وإطلاق الحريات العامة حيث ترى فيها تعارضا مع توجهاتها الخاصة، وتقليصا لدورها.

أما على الصعيد الرسمي، فقد تم التعاطي مع هذه المذكرات ابتداءً بروح إيجابية حيث تم إستقبال الموقعين عليها والتعاطي معهم فيما قدموه من أفكار ومقترحات بل وتبني بعضها بصورة أو بأخرى. ولكن تبقى الكثير من المطالب المهمة فيها لم يتم أخذها بصورة جدية وحثيثة. ما ورد في هذه المذكرات والوثائق ينبغي أن يتحول إلى مشاريع عمل تشارك فيها النخب المثقفة في البلاد عبر تبني المقترحات الواردة فيها وبلورتها بصورة تساهم في تعزيز أواصر التواصل والتعاون بين مختلف الأطراف. وكذلك ينبغي العمل على إيصال مثل هذه الرؤى والأفكار وتبادلها مع أوسع شريحة ممكنة من أصحاب القرار والذين يشاركون في تحمل المسئوليات العامة وذلك من أجل تدويرها وتفعيل ما ورد فيها.

أما فيما يتعلق بنخبوية العرائض، فينبغي الإعتراف بأن المشروع الإصلاحي لا يزال نخبويا بالرغم من أن الحضور الجماهيري المؤيد لمطالب العرائض. هناك استجابة شعبية نلحظها في توقيع الكثيرين على المذكرات واستعدادهم للتعبير عن مطالبهم في المظاهرات السلمية وما يكتب في الصحافة والمشاركات المستمرة على صفحات الشبكة العنكبوتية والإتصالات بالقنوات الفضائية لطرح وجهات النظر المختلفة.. هذه كلها قد تكون مظاهر للتفاعل مع أطروحات الإصلاح بشكل أو بآخر أو على الأقل هي محاولات لإثبات الوجود وهي أولى خطوات التعبير عن الذات بدلا من الإنسياق مع المجموع. إن الطرح السياسي المتوازن الذي يغلب المصلحة العامة ويتحلى بإحترام جميع الأطراف وإعطائها الحق في التعبير عن آرائها ومطالبها لكفيل بأن يلقى الإستجابة المطلوبة من مختلف الشرائح الإجتماعية ويحقق للجميع ما يصبون إليه.

في نظري أن مبادرات المطالبة بالإصلاح من النخب المثقفة (أو المهتمة بالشأن العام) مع أهميتها وضرورتها لا زالت محدودة الفاعلية والتأثير وليست قادرة حاليا على إحداث حراك مطلبي شعبي عام بإتجاه الإصلاح، مع أن الظروف الموضوعية مهيأة أكثر من أي وقت مضى لذلك. من هنا أراني اتفق مع القائلين بأن رأس المال الذي رصده دعاة الإصلاح لدينا قليل جدا لدرجة أنه لا يغطي الحاجات الأساسية لتحريك عجلة المطالبة، ومن غير المتوقع أن تنطلق هذه العربة من دون حراك فاعل ومستمر.

الحديث عمن يقوم بمبادرة الإصلاح ليس مهما في هذه المرحلة في نظري مع أنه أمر ألفته المجتمعات الشرقية وتعودت عليه. إن مسيرة الإصلاح المنبثقة من الإيمان الكامل بالتغيير السلمي والمنطلقة من الثوابت الوطنية ينبغي أن تنبعث بأية صورة كانت ومن أي طرف كان وبدون وضع عراقيل أو قيود عليها لأن حالة التراخي والسبات هي في حد ذاتها خسارة ندفع جميعا ثمنها غاليا وسترتفع التكلفة كلما تباطأت حركة الإصلاح والتغيير. ومن الطبيعي أن الحركة المطلبية في مراحلها المتقدمة ستكون قادرة على فرز الأنسب من الأفكار والأشخاص الذين يواصلون العمل لها. لذا فمن غير المنطقي أن نضع العصي في عجلة العربة التي بدأت للتو في الحركة بالإتجاه الصحيح. الموضوع ليس شأنا نيابيا أو تمثيليا لعموم المواطنين بمقدار ما هو تصد لعمل وطني يتطلب مقدارا لا بأس به من المصداقية والإستعداد للتضحية والتنازل عن الذات.

هنالك عقبات وعوائق تحول دون التفاعل البيني المطلوب بين الأطراف الموقعة على البيانات والمذكرات ومن ثم التوصل إلى مشروع إصلاحي وطني واضح وشاخص، ولكن يجب أن لا يلقى اللوم على هذه الأطراف فقط، ذلك أن المشكلة أعمق من ذلك، وهي تتمظهر في مختلف زوايا وأركان الأنشطة الإجتماعية المختلفة، فمن العسير أن تلقى مشاريع عمل أهلية ناجحة ومستمرة ساهمت فيها أطراف متعددة واستمرت لفترات طويلة.

العمل المطلبي في هذه المرحلة ينبغي أن يعزز شرعية وجوده من خلال إيجاد آليات حقيقية ومبادرات شجاعة للإعلان عن مؤسسات أهلية مئة بالمئة تقوم فعلا بدور إجتماعي حقيقي وتعزز من فاعلية القوة الإجتماعية. أبناء الوطن يتوقون إلى حدوث تغييرات حقيقية وجادة في مختلف المجالات وأن تتحول الوعود الحكومية إلى أفعال حقيقية. وفي رأيي أن هنالك حاجة ماسة إلى القيام بخطوات متسارعة وتشكيل جهاز خاص استشاري وتنفيذي لموضوع الإصلاح تشارك فيه بعض الكفاءات المخلصة من أبناء الوطن عبر تقديم دراسات وأبحاث حول هذا المشروع.