الحراك الاصلاحي.. تحدي الذات

فؤاد إبراهيم

 هناك هواجس وآمال تحوم في أرجاء حركتنا نحو الاصلاح الشامل والفوري وربما سنحتاج الى وقت إضافي كيما نضيء الجوانب المغفول عنها في تفكيرنا الاصلاحي. ففي سياق هروبنا الجماعي للأمام يمكننا أن نحتسب تلك الهواجس والآمال عناصر مشعة في الطريق، خصوصاً تلك المندسّة في ثنايا الافكار المكبوتة.

هواجسنا من إختطاف جماعات العنف لمنجز إصلاحي مأمول ووشيك، وإنزلاق المجتمع والدولة الى المنحدر الدموي، وإختطاف مجهود أو إستقالة التيار الاصلاحي الوطني المعتدل.. كلها هواجس تبطن في ظاهرها وهناً وانحناءً لمواجهة نفترض بأننا، أعني أصحاب الخيار السلمي في الاصلاح السياسي، عاجزون عن انتاج أدوات الفعل المؤثر في السياسة الداخلية، فالعنف يقفل كافة المنافذ ويسوق الجميع نحو خيار واحد: تكلم السيف فاسكت أيها القلم.

في الوقت ذاته تنبّه هذه الهواجس الى منطقة الفراغ الكبرى في تفكيرنا الاصلاحي، أعني تحديداً وعي شروط التحولات الكبرى في تاريخ المجتمعات، إذ ما تزال هناك بعض أشكال عدم التناسق الأصيل بين الثقافة الاصلاحية المشاعة والشروط الموضوعية والعلمية للتحول الاجتماعي، رغم أن جمعاً أولياً بين العمل الجوهري والابتكاري داخل الفعل الاصلاحي الحالي يجب الاشارة اليه.

هناك حالياً شيء من الممارسة ذات الصفات المعاصرة والتنوع، ولكن يجب أن نضع هذه الممارسة ونحددها في إطار التكيف مع قوانين التغيير الاجتماعي. فبين نبرة الحنين الى الماضي والنزعة الحداثوية المسلوبة نقف على قارعة خيارات حائرة، بين إعادة الانتاج المعاصرة لفترات منتقاة من الماضي، وبين التماهي في نموذج الدولة العالمية كما بشّر به الحلفاء الجديد (الولايات المتحدة وبريطانيا).

ورغم وجود اجراءات أكثر كفاءة من الناحية التقنية حالياً في الاتصال بالجماهير، الا أن ذلك لا يعني سهولة نقل المجتمعات من حال الى آخر، فالسياجات العازلة للمجتمعات قد جرفتها سيول العولمة بنزوعها الكولونيالي، ولم يعد هناك سيطرة تامة على داخل يهب عليه الاعصار من كافة الأرجاء.

تكويناتنا المعقّدة اثنياً وأيديولوجياً تهدي الى درجات الاستجابة المتفاوتة لنداء الاصلاح، ولكنها لا تنفصل بحال عن قوى وظروف التغيير في الداخل والخارج. فنحن هنا لا ندير عالمنا بصورة منفردة ومستقلة عما يجري حوله من خضّات ثقافية وسياسية. فالتكييف المريح لعالمنا مع خارجه بات تطلعاً محفوفاً بالاخفاق الذريع، خصوصاً حين يكون حجم استثمارنا في المشروع الاصلاحي متوقفاً على الفائض الاضافي من الوقت والجهد.

من جهة ثانية، إن الدول كما المجتمعات لا تتحول بعريضة ومقالة حذرة، فيما الانجرافات العنيفة تهدم كل حدودنا وسدودنا. وتكفينا تجارب الجوار مؤونة التدليل على الاستثمارات الضخمة التي أودعها دعاة الاصلاح في مشاريع التغيير.. من أمنهم، ومالهم، وأحياناً مصيرهم. فماذا أودعنا نحن في مشروع اصلاحنا؟

فيما يتعلق بالهم الإصلاحي، أظن بأن هدماً بين الداخل والخارج ضروري حتى لا نخضع لامتحان النوايا وكشوفات الحساب السياسي. فنحن نتحاور داخل حدود الوطن وليس خارجه، المعنى الايديولوجي والجيوبوليتيكي، وهذا يمنحنا العذر في أن نقول عن الوطن مقولتنا دونما ابتذال ومزايدة.

أتفق مع القائلين بأن هناك غياباً لثقافة اصلاحية متجذرة بتعبيراتها الوطنية الجامعة. والسبب في تقديري يعود الى أن الوطن ظل غائباً في السياسة فغاب تبعاً له في الفكر، والأدب، والشعر.. فالوطن منتج أمة والدولة مولود منها، وحين تشكل المولود خارج رحمه أضعف معه الاحساس بأصول نشاته. ولكن هل بتنا الآن جاهزين لاعادة تشكيل وطن يحمل صفاتنا الوراثية، وينقلنا الى الدولة الوطنية المكتملة التكوين؟ أعتقد بأن ذلك ممكن بشرط أن نكون مؤهلين ثقافياً ونفسياً للقبول بمتطلبات الوطن بكل شروطه وخصائصه كما يخبرنا بها فلاسفة السياسة وعلماء الاجتماع السياسي.

الكل يبحث عن وطن تسري فيه روح عامة، يتقاسم فيه الرغيف والهم والمصير، ويقع فيه الافراد متوحدين على أرضه، ويشترك الجميع في غنمه وغرمه، ويتبادل فرحته وحزنه. ما كتب حتى الآن عن الوطن هو النزر اليسير، لأن الاحساس به ضيئل، ولكن حين يكثر الباحثون عنه سيزداد الحديث عنه. فالوطن يؤسس بنيانه في المشاعر قبل التراب. ولا بد أن يفصل الوطن عن مترادفاته في البيان السياسي الرسمي، لأن الوطن لم يستكمل البناء في المشاعر حتى يتحول الى سلوك، وأجندة سياسية، واستراتيجية عمل وطني.

هناك مهمة منتظرة من النخبة الاصلاحية كيما تؤسس لثقافة وطنية قادرة على تعميق الوعي بالوطن لا كما يراد منه أن يتحوّل الى وثيقة إتهام في الولاءات، بل كما ينبغي أن يتحول الى قاعدة إجماع وانطلاق للمشروع الاصلاحي.