تمخض الجبل فأولد...

حول نظام المجالس البلدية

عبد الله الطائي

 في الثالث عشر من أكتوبر 2003 صدر قرار مجلس الوزراء في بلادنا بالموافقة على نظام المجالس البلدية الذي أقر الانتخاب الجزئي لنصف أعضاء هذه المجالس. والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح بعد صدور هذا القرار هو: كيف نقيم هذه الخطوة؟ وما هي دلالاتها؟ وهل يمكن الاستنتاج من خلال ذلك أن السلطة صاحبة القرار السياسي تمتلك فعلاً نية أو إرادة الإصلاح؟

 هذا النظام الذي كان يُدرَس من حوالي عامين ضمن أعمال اللجنة الوزارية للتنظيم الإداري برئاسة الأمير سلطان بن عبد العزيز على أن تخرج الأنظمة بتفاصيلها والبدء بعملية التطبيق بعد عام كامل من صدور القرار. هذا ما خرجت به السلطة في بلادنا بعد طول انتظار (لتوسيع نطاق المشاركة الشعبية والتأكيد على إستمرار الدولة في طريق الإصلاح السياسي والإداري) كما جاء في ديباجة قرار مجلس الوزراء. هذا مع العلم أن المجالس البلدية للمدن وحتى القرى الصغيرة كانت تنتخب منذ عهد الملك عبد العزيز وحتى الستينات من القرن الماضي بالكامل تقريباً. إذا كنا متفقين أن هناك أزمة معترف بها تحتاج إلى معالجة (إصلاح) فلا بد إذن من تشخيص الأزمة (المرض) لنتمكن بعد ذلك من وصف العلاج المناسب للحالة المرضية فلا يمكن علاج السل مثلا بحبة أسبرين لندّعي أن هناك اعترافاً بالمرض وقد أعطي العلاج لأن ذلك لن يمنع الموت عن ذلك المريض، أليس كذلك؟!

ولتشخيص الحالة التي تمر بها بلادنا لابد لنا من معرفة و دراسة الجسم بكامله وفي هذه الحالة الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية والسياسية الداخلية وكذلك الظروف المحيطة بهذا الجسم وفي هذه الحالة الظروف الإقليمية وأوضاع الجو العام وفي هذه الحالة الوضع العالمي. ولألا نتيه في تحليلات هذا الوضع الذي يحتاج إلى أكثر من مقال بل ربما أكثر من كتاب، نطرح هنا باختصار تلك الأوضاع لنرى ونلتمس إن كان هذا العلاج المناسب أم لا ليمكن لنا تقييمه.

فالأوضاع الاقتصادية وباعتراف الجميع بما فيها السلطة ذاتها، متردية وتتزايد سنة بعد سنة أخرى بل يوما بعد الآخر كما في مثال أعداد العاطلين عن العمل، حيث أصبحت نسبة البطالة من أعلى نسب البطالة في العالم 30-35%، الى جانب تفشي ظاهرة الفساد الإداري والمالي ونهب المال العام وتزايد عجز الميزانية سنوياً بحيث أصبح يشكل أزمة ليس لجيلنا الحالي فحسب بل لأجيالنا القادمة، وهذا العجز لا يخص الدولة وحدها بل يمتد ليطال الفئات العاملة التي تعتمد في معيشتها وحياتها على القروض البنكية للأفراد التي أصبحت خيالية بكل معنى الكلمة. وفي الجانب الاجتماعي تتفاقم مشاكل التعليم الأساسي والجامعي لتشمل كل شيء من المباني المدرسية ومرورًا بالمناهج التي تعج بكل أصناف الحشو والنصوص التي تغذي التطرف والإقصاء والتكفير وانتهاء بالمعلمين والإداريين، وفي التعليم الجامعي يواجه الناس جميعا مشكلة حقيقية في الحصول على المقعد الدراسي والتخصصات المطلوبة. وكل هذه الإشكالات تنطبق على المجال الصحي المتردي في كل جوانبه بدءًا بالمباني إن وجدت و انتهاء بالأدوات والأجهزة والأطباء.

وبالإضافة إلى كل ذلك تفشي الجريمة والسرقات وعمليات السطو وانتشار المخدرات، وكل ذلك أصبح ظاهرة اجتماعية لا يمكن إخفاءها والتقليل من شأنها. وفي الجانب السياسي وبقراءة واضحة للمشهد السياسي يتضح مدى التعقيد والاضطراب وغياب الأمن والاستقرار حيث يمكن تقسيم المشهد السياسي إلى خمسة أقسام رئيسية ، أولها: القوى الإرهابية والعنفية التي تتوالى أخبار المصادمات والمواجهات بينها وبين السلطة وتتوالى أخبار انكشاف مخابئ الأسلحة والتفجيرات بشكل دائم وهذه القوى تطرح بوضوح إقصاء السلطة ذاتها والبحث عن تشكيل حكومتها ربما (الطالبانية) على واقعنا.

والثاني: قوى إسلامية إصلاحية برزت على السطح ووصلت إلى طرح بدائلها وأخذت شيئا فشيئاً تنزل إلى الشارع على شكل اعتصامات ومظاهرات وأخذت السلطة تتعامل معها بالعنف والاعتقالات مما يؤهلها هي الأخرى إلى السير في طريق العنف في المستقبل القريب.

وثالثها: حركات الأقليات التي طالبت وطرحت حقوقها على شكل عرائض ومطالب قدمت للسلطة وقدمت لها الوعود التي لم تنفذ  (الشيعة- الإسماعيلية- الصوفية..الخ)، وهذه القوى لا يمكن لها أن تفهم هذا التلكؤ والمماطلة في تنفيذ مطالبها المشروعة باعتبارهم مواطنين كبقية المواطنين.

ورابعها: الحركة الديمقراطية التي هي الأخرى سطَّرت مطالبها عبر العرائض وطالبت بمطالب واضحة ومحددة ذات مضمون ديمقراطي عام بدءاً من (وثيقة الرؤية)  وانتهاء بوثيقة (دفاعاً عن الوطن) وهذه القوى طرحت العديد من المطالب التي لو قدر لها أن تنفذ أو تنشر كمشروع للتنفيذ من قبل السلطة لأعطت الجميع دون استثناء حقوقهم العامة ووفق منطق سلمي لا عنفي يحافظ على الدولة والمجتمع معاً من التحديات الداخلية والخارجية. والخامس هو الأغلبية الصامتة أو التي قد تبدو كذلك والتي يمنعها تاريخ الاستبداد والعنف  والتخويف من المشاركة في الخارطة السياسية لكنها بالتأكيد لا يمكن أن تخرج عن الإطارات الأربعة السابقة.

هذه هي الخارطة السياسية الداخلية التي يعلو فيها صوت العنف والسلاح والتهديد باستخدامه وهذا يعني وبكل بساطة أن الاضطراب والعنف والاهتزاز في صورة الأمن والاستقرار هو السمة السائدة في مضمونه. أما الوضع الإقليمي والدولي وخصوصاً بعد 11سبتمبر ومن ثم احتلال العراق فهو أكثر اضطراباً وأكثر مدعاةً للقلق حيث تتصارع قوى التطرف والأصولية والإقصاء مع بعضها، وهذا يشمل بقايا النظام الصدّامي السابق والقوى الإسلامية المتطرفة وكذلك الولايات المتحدة ذاتها حيث تقودها قوى التطرف والإقصاء، وفي هذا التحدي تضطرب المنطقة بالكامل وتتصارع الدول المحيطة أيضاً على أرض العراق وتتزايد احتمالات الاحتراب الداخلي الذي سيجعل المنطقة كلها على كف عفريت ، لكن الانتصار في النهاية سيكون للأقوى وهو هنا بلا شك الولايات المتحدة بعددها وعدتها وتصميمها على البقاء كقطب أوحد على الساحة العالمية. وهي تطرح بوضوح قضية (مكافحة الإرهاب) و(دمقرطة المجتمعات العربية) كشعارات أساسية لها. هذا باختصار مقتضب وشديد هو تشخيص الحالة الراهنة لبلادنا ومحاولة تلمّس أزمتها الداخلية والخارجية، فهل يمكن القول بعد كل ذلك أن إنتخابات جزئية لنصف أعضاء المجالس البلدية يحل أو يمكن أن يحل المعضلة؟!

لا اعتقد أن هناك من يستطيع القول، حتى أولئك المطبلون لهذا القرار أن حبة الأسبرين هذه يمكن حتى أن تساهم في العلاج، ذلك أن المجالس البلدية التي ستكون مرتبطة بوزارة الشؤون البلدية و القروية وليس لها علاقة بالأراضي التي هي مرتع النهب والسرقات من قبل الأمراء وأعوانهم والمتنفذين في أجهزة الدولة ولها إرتباط بحالة المدن (شوارع وأحياء  ومجاري..الخ) هذه المجالس ينتخب نصف أعضاءها وبعد عام كامل إلا تعبيراً عن اللامبالاة والاستخفاف وعدم الجدية من قبل صانع القرار السياسي بما يجري على الأرض .

والأهم من كل ذلك هو عنصر الزمن الذي هو في غير صالح الدولة والمجتمع معاً، ذلك أن دورة العنف لا تنتج غير العنف والعنف المضاد في الداخل مما يجعل مجتمعنا مقبلاً على احتراب داخلي قد يعصف بالدولة والمجتمع معاً. يضاف الى ذلك أن الأوضاع الإقليمية والدولية يمكن أن تصل إلى ذرى أعلى من العنف حيث يمكن أن تتدخل إسرائيل لتصبح المنطقة كلها في دوامة من القتال تجعل من مجتمعنا المتقسم أصلاً، والهش والمحروم من المشاركة يدخل هو الآخر في هذه الدوامة التي لن تبقي ولن تذر.

ومع كل ذلك لا زلنا نأمل من بعض أطراف السلطة الذين يقرؤون هذا الواقع بشكل أفضل ويعون ويتلمسون المخاطر الحقيقية التي يواجهها مجتمعنا من أن يمارسوا دورهم في الضغط على الحرس القديم من أجل الشروع الحقيقي في عملية الإصلاح بشكل يجعل مجتمعنا وشعبنا يقف على قدميه بشكل متحد ومتراص في مواجهة الأعداء الداخليين والخارجيين. فبدون حل مشكلة البطالة حلاًًّ جذريًّا، ووقف نهب المال العام، والقضاء على الفساد المالي والإداري، وتوزيع الثروة بشكل عادل، وإطلاق الحريات الإعلامية والحقوقية وحق تشكيل النقابات والجمعيات إن لم يكن الأحزاب، وسن دستور عصري يفصل بين السلطات الثلاث وسن كافة التشريعات التي تعامل المواطنين على أساس من المساواة واحترام حقوق الإنسان والإصلاح الفوري والجذري لوضع التعليم الأساسي منه والجامعي، وكذلك الوضع الصحي، والشروع في انتخابات كاملة وليست جزئية للمجالس البلدية والمناطقية وصولاً إلى مجلس تشريعي منتخب.

يصبح الحديث عن إصلاح و (توسيع نطاق المشاركة الشعبية) هذراً فارغاً ليس له علاقة بالواقع وتشخيصه. حيث أن الدواء لا بد أن يعالج الداء المستشري في كل جسم الوطن وما حوله، وإلا أصبح جزءًا من المناورة والتمطيط واللاجدية. المطلوب يكمن في برنامج متكامل ومبرمج زمنيًّا لخطوات الإصلاح، والإعلان عن هذا المشروع ليطمئن الناس والشارع السعودي لخطوات الإصلاح والبدء الفوري بتنفيذ مطالب الأقليات وكل ما يمكن تنفيذه من البرنامج الإصلاحي، وبدون ذلك تصبح هذه الخطوة غير ذات جدوى، فهل نرى ذلك؟؟!