الحوار الداخلي بين دعاة الإصلاح أولاً

التجذير الثقافي للحركة الإصلاحية في المملكة

  محمد العباس

 هناك رغبة أكيدة وحقيقية لإنضاج ما يمكن اعتباره (حركة وطنية) بيد أنها تركز على المؤثر الخارجي، وعنصر الأصولي، بالاضافة الى شكل الاستقبال الرسمي أو المؤسساتي للفعل الاصلاحي، لكنها لا تتطرق الا بشكل طفيف للحوار المفترض بين مختلف الجهات الفاعلة في الحركة الاصلاحية، بمعنى أن هنالك جملة من الأصوات التي تتحشد في حركة مطلبية دون أن تحدث حوارها الداخلي، وتصل بهذا الحوار كقمة الى مستوى القاعدة، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى يلاحظ، ومنذ ان بدأت تباشير السلم الاجتماعي وتبرعمات المجتمع المدني، اندفاع الحركة الاصلاحية بكل أطيافها الوطنية نحو تسييس الصراع والمطالب، واغفال مسألة (التجذير الثقافي) للحركة، وهو أمر غاية في الأهمية، فالحركة الوطنية ليست وليدة اليوم، وهي غير منبتة عن تاريخ طويل من العطاء الوطني لانسان هذه الأرض، ولكن بعد كل هذه العقود من النضالات المشهودة لا يوجد كتاب حقوقي واحد، ولا أي ملمح لتأسيس مثل ذلك الوعي بالحقوق المتعلقة بشكل الحرية، ومسألة الديمقراطية، والمواطنة الدستورية.

فهل يعقل أن تستمر الحركة بدون عقل، وبدون مرجعيات ثقافية؟ إن أغلب الموقعين على البيانات والعرائض، أو بعضهم، قضى كل عمره في خضم الحركة السياسية، وبعضهم تفوق خبرته السياسية أو على الأقل ممارسته للسياسة، كل وزراء الخارجية العرب وغير العرب! فهل يعقل أن يتصدى للاصلاح من لا ينتج كتابا بهذا الشأن، وتغيب برامجه عنا، فنحن لا نعرف هؤلاء الا كموقعين على عرائض، حتى عندما يكتبون مقالاتهم في الصحف العربية والمحلية، لا يتطرقون الى ما يحدث على أرضنا، فيما نلاحظ أن البحرين على سبيل المثال تنتج مثقفين لديهم القدرة على حرث الأرض بالمسائل الحقوقية وتجذير الوعي الثقافي بالمطالب السياسية.

أظن أننا أمام خلل كبير ينبغي تداركه بسرعة، فهذه الأسماء التي تقف في المقدمة بحاجة الى المساءلة عن كثير من مقاصدها وتصوراتها المستقبلية، وعن الكيفية التي تتم بها قراءة ما كنّاه وما يفترض أن نكونه، وهذا لا يكون الا بالحوار العلني بين مختلف الأطراف لإشاعة (ثقافة الحوار) قبل الحديث عن محاورة الآخر بكل أطيافة وتنوعاته.

كل حركة سياسية يمكن الوقوف على جوهرها من خلال تأمل رموزها ومنتجاتها الفكرية، وعليه أتساءل: أيعقل أن تكون لدينا حركة بكل هذا الطابور العتيد من الأسماء بدون أن تكون محايثة ولو بكتاب واحد يمفهم الحركة في صيرورتها الآنية من الناحية الحقوقية والديمقراطية والاجتماعية والسياسية؟ هنالك بعض التقصير الفاضح في قراءة المنجز الابداعي من هذه الوجهة، أي الوقوف على الصورة التي يتبدى بها الوطن في المنتج الابداعي المحلي، فالمرحوم عبدالعزيز مشري طالما تحسر على أدب بدون سحنة اجتماعية، ومعه حق، خصوصا عند النظر اليوم الى شكل المنتج الابداعي بكل تداعياته الفئوية والطائفية والشللية. أظننا نتشظى بشكل لا يعني التعددية بقدر ما يشير الى الفرقة، فمفاهيم الحرية والأرض والمواطنة والسلم تعني لدى كل طرف فكرة مغايرة، والسبب هو غياب مسألة (التجذير الثقافي).

هنالك حالة من الكفر بالوطن كما يبدو عليه الآن، فما الذي تعنيه هذه الأصوات الشعرية عندما يقول أولهم: وطن له رائحة قبر، ويتبعه الثاني: أدر نجمة الصبح.. صب لنا وطنا في الكؤوس.. يدير الرؤوس؟ وينادمهم الثالث: فقولي زكية ما تفهمين اذا رطن الناس باسم الوطن؟ لا أشك أبدا أن كل هؤلاء يحبون الوطن، ولكن بأي كيفية، لنقترب من وعيهم ولاوعيهم، لنحدث بعض التماس الثقافي مع أحلامهم بشيء من الثقافة التي هي عصب كل حراك الى المستقبل، وأظنها الرهان الأمثل على كل هذا السياسي الذي يؤدّى بحب ومثابرة.

 حركة (عرائض)

 لئلا ندخل في لعبة العناوين والهيكليات والترسيمات المضللة، نعيد مقولة الجنرالات تذكيرا: ترى كم يمتلك البابا من المدافع؟! فالتاريخ لا يتغير بالنيات، والعالم ـ جغراسيا ـ تنرسم معالمه وخرائطه كل حين من الدهر على دوي المدافع. أظن أن الأمر بحاجة الى بعض التفكيك فمؤشر التقدم في سقف المطالب التي حوتها العرائض يكاد لا يذكر، ومستوى الاستجابة الحكومية لا يذكر، بدليل استبعاد الوطنيين من مشاريع الحوار أو تأخير دخولهم لركنهم على هامش التخطيط والتغيير وتدبير شكل الوطن القادم، وبدليل جر القضية في متاهات التجادل أو التسالم الفئوي والطائفي، وكأن الدمار الذي يحيق بالوطن أصله خلاف بين طوائف وفئات وليس مرده سياسات خاطئة هي التي ربت هذه الوحوش واستنبتت ذلك العنف اللانمطي.

وبدليل الاستمرار في سياسة ايقاف الصحفيين حتى من المعتدلين؛ وبدليل قدرة المؤسسات على تلميع وإعادة انتاج طابور من المستتابين من التيار الأصولي وفرضهم على الساحة كوسطاء وبائعي أوهام ورأس مال رمزي بائت، مقابل تهميش واضح لجملة من الأسماء ذات التاريخ الوطني.

وبدليل الاستمراء في تضليل المجتمع بعناوين الاعتدال والوسطية الى آخر متوالية الدهاء السياسي؛ وبدليل الاستحواذ على المطالب الشعبية وإعادة طلائها بدهانات رسمية دون تبنيها ببرامج عملية واضحة، ولا التقدم بأي خطوة لتنفيذها سوى التأكيد على مشروعيتها.

وبدليل ترهيب الآخرين أو تثبيطهم عن المشاركة في كوكبة المنادين بالحقوق والمطالب لدرجة يكاد فيها الوضع أن يدخل دائرة الشقاق والصراع ـ وليس الاختلاف ـ حول طبيعة ومستوى الأسماء التي تقود عملية التغيير، حيث السخرية الجارحة من عدد ومهنية الموقعين على البيانات المتتالية.

يحدث هذا بتصوري لأسباب يكمن أهمها في الاستخفاف بأسماء الموقعين والمطالبين، وهو أمر على درجة من الواقعية، فالكثير من الأسماء بلا رصيد عملي، والكثير من تلك الذوات غير مستعدة لدفع ثمن التحدي، وهو أمر واضح ولا يحتاج لجدال، فنحن أمام ذوات لديها القدرة على التكيف مع المقترح الحكومي أكثر مما لديها من الاستعداد للتجابه، فهي تدمن الحديث عن التغيير لكنها لا تغير ولا تتغير، وتسهب في الحديث عن أهمية الحوار لكنها ترفض ولا تريد وربما لا تقدر على التحاور، بل أن بعضها أقرب الى النفس والتصور الحكومي، وما كشفه الاعلان عن الانتخابات الجزئية للمجالس البلدية يؤكد شيئا من هذا، فهنالك بطولة زائفة يروج لها للأسف من داخل التيار الإصلاحي.

أعتقد أن المطالب الشعبية أعلى وأرقى بكثير بل وأكثر واقعية مما تنادي به البيانات، والخراب أكبر من أن يتجاهل أو يتم ترقيعه بدعوات خجولة لتبني وجهة نظر مغايرة، وهذا هو حال القاعدة العريضة التي تتحمل كل صنوف القهر قياسا بالنخب المسوّفة والمفلسفة لضرورة وعي اللحظة وأهمية التدرج في العملية الاصلاحية الى آخر متوالية الكسل والارتكاس السياسي.

لا أظن أن شيئا تغير في عالم السياسة عبر مطالب تشبه حالة تلميذ يستأذن من المدرس للذهاب الى دورة المياه، أو هذا هو منطق الوعي التاريخي!

ولننتبه فالتيارات الدينية لم تتغير، انما غيرت رداءاتها وانحنت مؤقتا حتى تمر العاصفة، فكل اللغو الذي تكتظ به خطاباتها حول الديمقراطية والتشارك والمجتمع المدني لا تعني شيئا، أو هذا ما تؤكده الأحداث، فلا تناموا مع الأعداء. أجل حذار من النوم مع الأعداء، فأولى درجات الوعي والاستعداد للمجابهة أن تعرف عدوك.

وأظن أن الحديث عن حركة اصلاح، ومطالب، وبيانات، وتظاهرات سلمية، تعني كلها في النهاية عنوانا لحركة وطنية فاعلة، هي بأمس الحاجة الى حوار بيني، أي بين مختلف الأطراف للخروج ببرنامج وآلية عمل خارج أفق التصور المؤسساتي، بل حتى خارج ممليات المؤثر الدولي.

 خيارات المستقبل

 مظاهر العسكرة المستمرة من قبل الدولة كرد منطقي على مشروع (جزأرة) الوطن واضحة، أليس كذلك؟! فقد صرنا نحقّب تاريخنا بدمويات الثاني عشر من مايو، والثامن من نوفمبر وهكذا، فيما تفكر المؤسسات بأناة أقرب الى البطء والتماوت في اصلاحات شكلانية. ربما لا تتقن المؤسسات الا هذا الحل الترقيعي الأمني، بل ولا تطيق غيره، ولنتخيل ما يمكن أن نصير عليه بعد مدة.

إذا، لا بد من خيار مستقل.

أعتقد أن الدولة اليوم أمام خيارين، اما النكوص والتسويف بذريعة أن المجتمع يرتهن في حراكه الى صيرورة نمو طبيعية تتكامل بالتدريج وليس بالتحولات المبرمجة وحتما سيصل الى سن الرشد السياسي والاجتماعي.

أو التقدم بجرأة ووعي وانفتاح على كافة الفئات والتوجهات في سجال تشاوري مخطط ومبرمج حول الأخطار الاجتماعية والينبغيات السياسية والممكنات الثقافية، اقرارا بالتنوع والتعدد، وكسرا للمقدس والممنوع والمحتكر، وتأسيسا للديمقراطي بمعناه المنفتح لا المقنن، للوصول الى واقع أو حقيقة وطنية معافاة من الطائفية والفئوية والقبلية والمذهبية والطبقية، أي كمواطنة دستورية مقرة اليوم في كل الأدبيات السياسية.

ولأن الدولة كما أتصور، هي أميل للخيار الأول، فهي غير مستعدة لوعي حركة التاريخ، تعتبر مؤسساتها معفية من اعلان وتبني مبادىء الحرية والمساواة والعدالة والمواطنة الدستورية، وبالتالي فهي أبعد ما تكون عن شروط العقلانية الموجبة لاشاعة ثقافة الحوار والتسامح، بل والتشارك السياسي، الأمر الذي يعطل نشوء بيئة اصلاحية حقيقية اعتمادا على وعودها أو بمعنى أدق أجندتها التي لا تقر قيم التعددية والتنوع والشراكة.

وعليه، أعتقد أنه بات على المثقف الاضطلاع بدوره، فاذا كان هنالك حالة من قلة التجاوب مع حركة التواقيع على المكالب، فالأولى مراجعة هذا السبب على مستويين، أولهما يتعلق بالمطالب أو مضامين العرائض، والثاني على صلة بآلية جمع التواقيع.

أعتقد أن حوارا علنيا بهذا الشأن بات ضروريا بعد سلسلة من البيانات التي كان آخرها التعاضد المجاني مع صنع الله ابراهيم، الأمر الذي يجعل من البيانات مجرد ظاهرة صوتية زاعقة بلا رصيد ولا مضمون ولا أهداف قابلة للتحقق، فتحريك أعماق البحيرة، بتصور البعض ليس هدفا، إذ القاع يمور، وكأنهم كمن يطالب اليوم ـ عربيا ـ بشيء من الشفافية فيما يفرض الواقع الخرب الكثير من اللغة التفضيحية السافرة.

لنسمي الأشياء بأسمائها. لا حقوق ولا مطالب ولا انجازات على الأرض دون جمعيات ونقابات وأحزاب، هذا هو المنطق الجاد للوعي التاريخي، وبالتأكيد هنالك شروط ومواصفات للمنظومات الحزبية هنا تختلف عنها ضمن التصورات الغربية، يعني أن تتحول المفاهيم الى واقع عملي، وتمثيل حقوقي، وجبهات موجودة بالفعل وليس بالكلام.

ولا شك أن المثقف، أي مثقف، يدرك بشكل معقول من الوعي طبيعة دوره المفترض للذهاب بالمجتمع الى أفق الديمقراطية، خصوصا في مجتمعاتنا، على اعتبار أن المثقف هو سياسي في المقام الأول، وعليه يمكن أن يكون ممرا الى ذلك الحراك المستوجب، لوصل ما انقطع من التجربة الممتدة في التاريخ التي تضم أشلاء المغيبين والصامتين والمنعزلين والناكصين والمستتابين.

إذا، هنالك ضرورة لوعي جديد بحقيقة المرحلة، وهنالك حاجة أمس الى تفعيل ذلك الوعي، فالمثقف كما يتمثل في طليعة المتصدين لحركة الاصلاح، بقدر ما هو منذور اليوم، والآن، وهنا، لتأسيس ذلك الوعي بالحرية ضمن أفق العقلانية، هو مطالب أيضا بالعمل على أرض الواقع: مزيدا من الحوار العلني، وليس عبر الانترنت والاي ميل، ولنفتح بجد وحب وجرأة حقيقتنا المستترة، لنحضر في المشاعر قبل التراب، كما يسمي ذلك المكمن الحيوي الأستاذ فؤاد ابراهيم.

أجل، هنالك جبهة خفية في الأحاسيس والشعور ينبغي حرثها والعمل على أديمها، فهي الأجندة الحقيقية المضادة للأجندات المضللة التي تتقنع بالبيانات والشعارات وعرائض الاستجداء.

ليس هنالك أي دعوة للعنف المسلح ولا لأي شكل من أشكاله، انما هنالك دعوة للمصارحة ومعالنة الحوار، أي دفعه الى واجهة المشهد، واخراجه من تحت الطاولة. كذلك تفعيل المطالب عبر تجمعات فاعلة تتجه مباشرة للجماهير ولا تغازل المؤسسات والجهات الخارجية، فمن المعروف أن أقصر طريق للوزارة هو المعارضة، واقرب مكمن للخيانة هو التواطؤ مع الأجنبي أو حتى الرهان عليه. لازلت أتلمس أي فكرة جديدة لتوسيع قاعدة المشاركة ضمن الحركة الوطنية الاصلاحية، والبحث عن آليات لتطوير ذلك الأداء. لا بد من روح نقدية منفتحة لتركيب صورة مقنعة للوطن، ولنتعاون جميعا لمثل هذه المهمة لنوجد مرجعية وطنية أقوى وأضمن من كل الدعاوى السياسية.

أتمنى أن أجد ما يغاير تصوراتي عن الفئة والفلسفة والجهة التي تتبنى العملية الاصلاحية، ولكن ما خرجت به ـ حتى الآن ـ لا يتعدى المزيد من العبارات الانشائية التي تقر بصعوبة العمل، وتلكؤ الحكومة، وشراسة التيار الأصولي أو انغلاقه، والرغبة في الحوار، والاعتراف بضعف الآليات، وضرورة الصبر والهدوء حتى تنجلي الغمة، الى آخر متوالية التسويف والاستضعاف. الجماهير تواقة الى معرفة ما يحدث آنيا وما يفترض أن نكونه من الوجهة المستقبلية، ولكن يبدو أننا سنستقبل المزيد من البيانات!

وعليه سأرسم خارطة الوطن المحروثة بتضاريس الفقر والعنف والفساد ومزاعم الوطنية لمواطنين موزعين بين الخوف والصمت والعزلة والتهميش والحيرة. فالوطن الآن بين فئة مستشرسة تقنبله بأسلحة الفتك والتفجيرات لتطليه باللون الأحمر، وأخرى متبائسة لا تمتلك سوى المزيد من البيانات  تحاول الترويج به لمنتج وطني رديء، وراية بيضاء تحاول بها ارسال اشارة استسلام الى أي جهة، وتصبحون على وطن، كما قال ذلك المجنون الذي قال أيضا: لا يربطني بهذا الوطن غير حذائي.