حول موضوع المظاهرات في المدن السعودية

إتجاهات الأزمة السعودية القادمة

 حمزة الحسن

 حدث المظاهرات ومحاولات التظاهر، صغير في حجمه، كبيرٌ في دلالاته. جلّ ما حدث لا يعدو تظاهر نحو 500 شخص في الرياض يوم 13 أكتوبر الماضي أمام مبنى (المملكة) التجاري. قالت الحكومة في البداية ان عدد المتظاهرين ثلاثين أو خمسين شخصاً، وفي نفس الوقت اعترفت باعتقال أضعاف هذا العدد، وحين اقترب موعد المظاهرات التالية التي دعا اليها المعارض السعودي سعد الفقيه 23/10/2003 استبقت وزارة الداخلية الأمر فأعلنت عن إطلاق مائة شخص من المعتقلين على خلفية المظاهرات، وقالت أنها ستحاكم البقية وعددهم 83 شخصاً بينهم ثلاث نساء. لقد كان البيان إعلاناً تحذيرياً استباقياً لأولئك الذين ينوون التظاهر، ورافقه في نفس الوقت محاولات تشويش على إذاعة الإصلاح التي لم تعد مسموعة قبل يوم من المظاهرات التالية. وحين حان يوم المظاهرات منعت بالقوة ولم تخرج سوى شراذم في جدة والدمام وغيرهما وتمّ القبض على من طالته يد الأمن من المتجمهرين. وبهذا الأسلوب نجحت الحكومة في منع المظاهرات من التطور كأسلوب احتجاجي، ولكن الحضور الأمني المكثف جعل الحكومة خاسرة في نهاية الأمر وهي تواجه رغبة جامحة لدى المواطنين في التعبير عن أنفسهم.

إذن.. لمَ كلّ هذا الصخب حول المظاهرات رغم محدودية حجمها؟ لم هذه الخشية المبالغ فيها من قبل السلطات التي جاءت بفتاوى المفتي الذي حرّم المظاهرات وفتاوى رئيس مجلس القضاء الأعلى الذي أضاف على ذلك مزايدة تطالب الحكومة بالتصدّي للمفسدين المتظاهرين.. وهذان بالمناسبة أكبر شخصيتين دينيتين رسميتين.. جاءت بهما لإقناع الشارع ـ الذي لم يعد يثق فيهما ـ بفضيلة الصمت والهدوء؟ ولماذا كان وقع هذه المظاهرات صاخباً لدى دوائر القرار الغربية، الى حدّ أن مسؤولاً في الخارجية الأميركية عبر عن خشيته بأن تتحول السعودية الى دولة طالبانية، مطالباً الحكومة بإصلاحات سريعة وشاملة تضمن بقاء الحكم السعودي على المدى البعيد.. مع العلم أن المتحدث باسم الخارجية الأميركية سبق له وأن أعلن ترحيب بلاده بالخطوة السعودية الإصلاحية المحدودة بتشكيل مجالس بلدية نصف معيّنة؟

مظاهرة الرياض التي كانت أقرب الى الإعتصام، لم تكن حالة نشاز في تاريخ الحركة الوطنية في المملكة. لم تكن الأولى، ولم تكن الأكثر عدداً، ولم تخلّف خسائر في الأرواح ولا في المعتقلين كسابقاتها. وأهمها على الإطلاق مظاهرات المنطقة الشرقية في نوفمبر 1979 التي كانت بمثابة هبّة شعبية ضخمة شارك فيها عشرات الألوف نساءً ورجالاً واستمرت لعدّة أيام تخللها شغب، ووجهت بإطلاق نار من الطيران كما من الجنود على الأرض وكانت الحصيلة نحو أربعين ضحية وثلاثة آلاف معتقل. كما وطوقت المنطقة بعدّة آلاف من مختلف قطاعات الجيش إضافة الى الحرس الوطني، وهدد الأمير فهد حينها بدك المدن بمدافع الميدان. لا ننسى أيضاً المظاهرات المتواصلة التي قامت في المنطقة الشرقية والتي استمرت نحو أسبوعاً في مختلف المدن والقرى تأييداً للإنتفاضة الفلسطينية، شارك في عشرات الألوف نساءً ورجالاً، وأسفرت عن حصيلة ضخمة من المعتقلين ما لبث أن أطلق سراح معظمهم#.

الجديد في مظاهرة الرياض هذه المرّة، أنها رغم حجمها الصغير، وقعت في العاصمة، وحدثٌ يقع في العاصمة يحمل تأثيراً أكبر مما تحمله المدن الأخرى التي يمكن أن تحسب على الأطراف. كما أن المظاهرة تأتي بدعوة من (معارضة) سلفية هي الأولى من نوعها في تاريخ هذه المعارضة الجديدة. كما أنها جاءت في ظرف سياسي مختلف، حيث أن النظام يواجه أزمات متعددة لم يكن يواجهها من قبل، جعلت من إمكاناته في استخدام العنف الشامل أقلّ بكثير مما فعل في مواجهة مظاهرات أكثر شراسة وحدّة من قبل.

وزيادة على ذلك، وهو لا يقل أهمية عما سبقه، أن هذه المظاهرات جاءت في فترة نضوج شعبي غير مسبوق من الناحية السياسية، وفي فترة انهيار اقتصادي غير مسبوق أيضاً في تاريخ المملكة. في معظم المواجهات بين السلطة والحركة الوطنية، كان العامل المادي ـ المالي والإقتصادي يلعب دوراً كبيراً في إطفاء الحرائق، أما هذه المرة فإن الحريق الصغير الذي أطفئ وبقي جمره، ليس فقط جاء على خلفية تضعضع وضع إقتصادي وتردي في مؤسسات الدولة الخدمية بالذات.. ليس هذا فحسب بل أن إمكانات الدولة المالية لا تسعفها على تطويق لهيب الحرائق القادمة. في الماضي كان المؤشر الإقتصادي يميل الى الأعلى في غير صالح الحركة السياسية الوطنية، حيث الدولة الريعية في ريعان شبابها، أما اليوم فإن المواجهة تأتي ومؤشر الإقتصاد الوطني يسير من سيء الى أسوأ.

عدا عن هذا، فإن الظروف الإقليمية والدولية قد خدمت السلطة في المواجهات السابقة، فلم يكن هناك إعلام ولا تكنولوجيا تكشف ما وقع، كما لم تكن هناك إرادة سياسية خارجية تسعى لضعضعة النظام، بل كانت على العكس من ذلك تقوم بتعزيز أركانه والتستر على تجاوزاته بحق شعبه. اليوم الوضع مختلف، ويكفي أن نعرف أن المملكة في دائرة الضوء، وأن معظم دول الجوار وما يجري فيها لا يخدم صانع القرار السياسي السعودي، كما أن المظلة الأمنية الغربية ـ الأميركية بالخصوص ـ قد رفعت، في حين لعب الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان في العالم دوراً في تقييد يد الدولة من استخدام وسائل القمع على نطاق واسع.

ولربما يكون أخطر ما في هذه المظاهرات، أنها قد تكون بداية لحريق أكبر قد لا ينطفئ إلا بتغيير جذري في بنية الدولة إن لم ينسف الدولة نفسها من الجذور.

لهذه الأسباب مجتمعة جذبت مظاهرة الرياض ومحاولات التجمع في مناطق مختلفة من المملكة ـ رغم محدودية المشاركين فيها ـ اهتمام المراقبين والمواطنين وصناع القرار في أماكن مختلفة من العالم.

 التظاهر كوسيلة تعبير

 التظاهرة كانت صدمة للسلطة وأجهزة الأمن التي ترفضها كوسيلة للتعبير، وترى أن للشعب السعودي (خصوصية) في استخدام آليات محددة في التعبير عن آرائه أو في المطالبة بما يعتبره حقوقه. المظاهرة تكشف في الحقيقة عن عدّة أمور: فهي توضح أن آليات التنفيس الموجودة وكذلك آليات التعبير ضيّقة جداً. فالمناصحة لولي الأمر، التي تقوم بها شريحة محددة من علماء الدين وكذلك وسيلة العرائض التي استخدمت منذ زمن في التعبير والمطالبة ببعض الحقوق المادية ولكنها أخذت وجهة سياسية مكثفة في العامين الماضيين.. هاتان الوسيلتان ليستا كافيتين لا في (التنفيس) ولا في (تحقيق) أيٍ من مطالب الإصلاح.

موقف النظام من المظاهرات والتجمعات بشكل عام أمرٌ محسوب بل دقيق في حساباته، فهو وإن اعترف إسمياً بحقوق الإنسان، فإن وسيلة التعبير هذه لا تدخل ضمنها. الرؤية السعودية الرسمية ومن يمثلها من كتاب أو مشايخ، يمزجون الموقف من التظاهر كوسيلة تعبير بالموقف من موضوع الشغب. فالتظاهرة بالنسبة لهؤلاء شغبٌ. مع أن التاريخ يثبت أن القليل من المظاهرات تتحول الى شغب أو تتصاعد الى انتفاضة فثورة. حين نقرأ فتاوى مشايخ السلطة فإنهم يركزون على هذا الأمر. إنهم يعتبرون التظاهر (حرقاً للممتلكات! وإفساداً في الأرض! وتخريباً للمصالح العامة!). لكن وجهة النظر الرسمية لا تخلو من جانب صحيح. فليس المهم هو الهدف من التظاهر، فذلك أمر متغيّر، قد يخدم السلطة حيناً وقد يفسد عليها طغيانها أحايين أخرى؛ ولطالما رفضت السلطات التظاهرات حتى وإن كانت مؤيدة لها، بل حتى التجمعات الكروية التي تعبّر عن فرح لا عن احتجاج أو ضيق تمّ رفضها وهي إن حدثت فرغماً عن السلطات لا بإرادتها. الهدف هو أن أصل التظاهر والتجمع ينظر اليه على أنه خطر كامن.

الفلسفة وراء هذا، هي أن السلطات تخشى من تطور التجمعات العادية الى تجمعات سياسية معارضة، وأنه لا بد من (خنق) الشعور الجمعي حتى وإن لم يتصف بصفة (السياسة)، كما أن التجمعات تتيح فرصاً غنيّة لتسييس المجتمع. الموقف الرسمي من المظاهرات هو موقف الرفض النهائي غير القابل للتفاوض. فالتظاهرات تمثل التحدّي والإعتراض الأبرز للسلطة السياسية، حتى وإن اتخذت صفة المطالبة بالأمور الخدمية، ولهذا لا ينتظر في المدى المنظور (شرعنة) التظاهر، بل سيبقى في دائرة المحظور و(غير المألوف) بغض النظر عن الحاجة المادية والنفسية للمجتمع السعودي في التعبير عن مكنوناته الداخلية.

هناك رأيان في الشارع السعودي تجاه المظاهرات، تجد لهما نظائرهما في المجتمعات البشرية الأخرى.

الرأي المحافظ: وتمثله السلطة السياسية ودائرتها الملتصقة بها والمنتفعة منها، وبينها نخب متعلمة إضافة الى المؤسسة الدينية المحافظة. هذه الجهات المحافظة تبني موقفها من المظاهرات على أنها موقف من (الشغب) أي تطور المظاهرات من مرحلة التعبير السلمي الى وضع التخريب. فهذه الجهات لا تفرق بين الإثنين، وترى، كما هم المحافظون في كل الدنيا، الذين طوروا نظرية بهذا المعنى تسمى The Riff-Raff Theory التي تلخص وجهة النظر عموماً في القول بأن الشغب الذي يتبع المظاهرات تحصيل حاصل، وأنه فعل لا عقلاني وغير مبرر. وفي السعودية يميل المحافظون الى تبنّي وجهة نظر ذات إيحاء عنصري أو طبقي. فالمظاهرات لا يقوم بها من وجهة نظرهم سوى أدنى شرائح المجتمع شأناً، ممن ينطوون على مشاعر مفسدة وشريرة منطلقة من عقالها (يطالب اللحيدان الدولة بأن تتدخل لحماية الناس من المظاهرات!) فهم بهذا المعنى من أراذل الخلق، أو من الأفراد المغرر بهم (نظراً لضحالة تعليمهم وثقافتهم والتزامهم الديني!) وأن المتظاهرين إن تركوا وشأنهم سيقودهم فعلهم (الشائن) الى الإجرام، يحدوهم في ذلك الجشع والحسد بحيث يدفعهم ذلك الى التصرف بصورة بربرية تنتقم من (إنجازات) الحكومة و(مكاسب) المواطنين.

ويلاحظ على رؤية المحافظين، إغفالها لمسببات التظاهر ودوافعه، فالمحافظون يميلون الى العموميات بدل الدخول في التفاصيل التي تدين ممارسات وسياسات بعينها، او تلك التي تفضح الخلل القائم في المجتمع من جهة التوزيع غير العادل للسلطة والثروة والخدمات الإجتماعية. وحين يواجهون بهذه الأسباب، فإنهم لا يرونها مبرراً للتظاهر، فضلاً عن تحول التظاهر الى شغب، ويقولون ـ كما قرأنا لهم في الصحافة أثناء احتدام النقاش في موضوع تصاعد العنف في المجتمع ـ بأنه مهما كانت صدقية الأسباب، فإنها ليست مبرراً كافياً لا لحمل السلاح ولا للتظاهر ولا للمطالبة بالحقوق سواء اتخذت صفة سلمية أو عنفية. حتى عرائض المثقفين نظر اليها المحافظون من هذه الزاوية، أنها (صحيحة) ولكنها لا تكفي لرفعها (لأولي الأمر) وما كان ينبغي طرحها او نشرها على رؤوس الأشهاد، وهي تتضمن تحريضاً مبطّناً للعامة.. والحجة أن البلاد تتعرض الى مشاكل خارجية وتهديدات إقليمية. وحينئذ يرى هؤلاء في مثل هذا النوع من الإحتجاج السلمي (اصطياداً) في الماء العكر، و(استغلالاً) لمحنة السلطة، كما كتب أحدهم ـ علي سعد الموسى في جريدة الوطن مثلاً.

أيضاً تميل الرؤية المحافظة الى تحميل الجمهور المسؤولية، سواء كان الجمهور الصامت، الذي لم يقم بالفعل ـ أي فعل، أو الجمهور الذي تحرّك متظاهراً، ولا نجد أحداً من هذا التيار الموالي المحافظ قد أشار بأصابع المسؤولية الى السلطة وسياساتها كعامل مساعد على الأقل في دفع شرائح من المجتمع سواء الى دائرة التعبير العنفي او السلمي. ورموز التيار المحافظ لا يقدمون (حلولاً) وإنما (إدانات) ولا يتوجهون بالإقتراحات الى السلطة، بل الى الجمهور الذي يجب عليه حسب رأيهم أن يحذر مما هو مقدم عليه بأن ينظر الى الدول المجاورة التي أصابتها أدواء السياسة بفعل الإحتجاج، وعليه بالتالي (الصمت) كإشارة تأكيد على الولاء للعائلة المالكة أولاً والوطن ثانياً. المواطن الصامت هو المواطن الصالح، أما الرعاع الفقراء فهم من ينهج نهج المظاهرات، ولا يحترمون القانون، والذين هم من الجهلة الذين يستغلّهم المتطرفون. إنها ـ تالياً ـ مؤامرة من (أقليّة) حاقدة جاهلة ضد الأكثرية الواعية!

الرأي اللبرالي: ويرى أن المظاهرات وحتى الشغب ليس مخلوقاً غريباً عن المجتمعات البشرية، وبينها المجتمع السعودي الذي تجري عليه سنن الكون شأنه شأن غيره من المجتمعات القديمة والحديثة. فالتظاهر بالنسبة لهؤلاء ليس خرقاً للمألوف السعودي أو مناقضاً لطريقة السعوديين في الحياة، وإنما هي استجابة طبيعية لواقع الحياة السعودي المعقّد في هذه الأيام. فالتظاهرات أمرٌ حتميّ ـ حتى إذا ما رافقها شغبٌ ما فتئ المحافظون يحذرون منه ـ إذا ما توافرت الظروف والبيئة المناسبة لها. وتميل النظرة اللبرالية عموماً الى تأكيد مسألة في غاية الأهمية وهي (حق التظاهر) وهي جزء من منظومة الحق في التعبير التي كفلتها القوانين والشرائع. وكما يحاول التيار المحافظ تأصيل موقفه دينياً ويعتبر التظاهر بدعة لم تحدث عند السلف، يأتي اللبراليون بشواهد من التاريخ تبيّن أنها حقّ وأنها تصل الى درجة الواجب أحياناً في الإعتراض على السلطة، حتى من زاوية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أيضاً، تركز النظرة اللبرالية على (أسباب) التظاهرات والشغب إن حدث، وتحاول البحث ودراسة العناصر التي تقوم بالتظاهر. وعموم الرؤية اللبرالية تشير الى أن الظلم وغياب العدالة الإجتماعية تفرز أنماطاً من الإحتجاج قابلة للتصاعد أو الهدوء، وهي بهذا تدعو الى دراسة التظاهرات (كعرض) لمرض موجود في السلطة نفسها وليس في الجمهور بالضرورة. فغياب أركان العدالة، وسوء توزيع الثروة والسلطة، ومصاعب الفقر والحاجة تفرز رد فعل (عقلاني) ذي أهداف محددة لمجابهة الواقع السيء، يقوم به أولئك المهمشون سياسياً وفكرياً واقتصادياً واجتماعياً.

إن التظاهرات وفق هذه الرؤية تعبّر عن حاجة، وعن خلل. حاجة في الشارع السعودي للإصلاح، وخلل في المؤسسات التي أصبحت غير فاعلة في توفير الإحتياجات الأساسية للمواطنين. ليس المهم بالضرورة، حسب هذه الرؤية، ما إذا كان حجم الصعاب كبيراً أم لا؟ ووفق أي مقاييس تستخدم لحساب تلك المصاعب وتأثيراتها؟. المهم هو أمرٌ أبعدُ أثراً، وهو (الشعور بالغبن والظلم والحاجة) وليس (حجم) ذلك. ويعتقد اللبراليون في المملكة أن الشعب السعودي عموماً مهيّء للتظاهر بل والقيام بشغب وربما ثورة في المستقبل إذا ما أساءت السلطة التعامل مع المتظاهرين او قصرت معالجتها للواقع المزري على جانب الردع الأمني. هذا الإستعداد تفرزه الأوضاع المحلية بالغة السوء، وبالتالي فإن معالجة عرض المرض ـ إن عدّ التعبير عن الذات في بلد كالمملكة مرضاً! ـ لا يكون بالعنف ضد المتظاهرين أو النشطين سياسياً، وإنما بإحداث تغيير جذري وسريع في الأوضاع الإجتماعية والسياسية المتفجرة.

التظاهر إذن، عملٌ مستهدف ومليء بالمعاني السياسية، حتى إن لحقه الشغب، وهو فعلٌ شرعي وطريقة مؤثرة في الإحتجاج بالنسبة لشرائح وجماعات غير منتفعة أو بالأصح متضررة من استمرار الأوضاع. والتظاهر كما الشغب تحذيرٌ دراميٌّ ومؤشرٌ لوضع غير طبيعي تمثل البطالة خاصة بين الشباب إحدى مظاهره، وهي بطالة تجدها مكثفة بين تجمعات مناطقية ومذهبية معيّنة، هذا عدا المظاهر الأخرى كالحرمان من الخدمات الإجتماعية في الإسكان والتعليم والصحة، إضافة الى ما تسببه الإمتيازات الخاصة لجماعات معيّنة من شعور بالحقد والغضب، فضلاً عن التهميش السياسي واستخدام الشرطة كحل لمعالجة الإحتجاج.

 ماذا.. لماذا.. ومن يقوم بالمظاهرات؟

 هناك أسئلة بحاجة الى إجابة: لماذا المظاهرات الآن في المملكة؟ من قام بها؟ وما هي الدروس الأوليّة منها؟ لا نريد أن نتوسّع في الحديث عن هذا الأمر، وحسبنا أن نشير الى بعض الملاحظات السريعة:

الملاحظة الأولى: من حيث التوقيت، فإنها تأتي متلازمة مع إعلان الإنتخاب الجزئي للمجالس البلدية. وهذا يعني أن الإعلان، إن لم يكن محفّزاً للتظاهر، فإنه على الأقل لم يلقَ اهتماماً وتقديراً يذكر. الإصلاحات إنما تأتي لتنفيس الغضب الشديد والإحباط، لا أن تزيده ناراً على نار. والإصلاحات إنما تأتي لحلّ مشكلات إقتصادية واجتماعية وتهدئتها على الأقل، لا أن توصل المواطن الى درجة الإحباط وعدم الإقتناع بأن هناك في الأصل نيّة للإصلاح الصحيح. الإصلاحات التي جاءت من الحكومة، هي تافهة بكل المقاييس، لا تتماشى مع الحاجة المادية ولا تمتص الإحتقان. وحين يكتشف المواطن أن لا نيّة في الإصلاح، كما هو واضح اليوم جلياً بعد أن تمخض الجبل فأولد فأراً، فإنه سيبحث عن مسارب له أخرى. ولذلك فإن احتمال قيام مظاهرات وتطور أشكال أخرى من المواجهة مع السلطات أمرٌ ليس ممكناً فحسب بل هو حتميّ.

الملاحظة الثانية: وتتعلق بحقيقة أن دعوات التظاهر جاءت من إذاعة المعارض السعودي المقيم في لندن الدكتور سعد الفقيه وكذلك منتديات الإنترنت السعودية. الأمر الذي يلفت الإنتباه الى دور التكنولوجيا في تأسيس فعل جمعي سياسي، مهما بدا ضئيلاً، سواء في الدعوة والتحريض على الفعل، أو في نقل تفاصيله لاحقاً بالصورة والصوت الى كل أنحاء العالم. وهذا ما يجعل المواجهة مكشوفة الأدوات، وتحت رقابة المواطنين وغيرهم، الأمر الذي يحدّ من استخدام السلطة لوسائل قمع حادّة كإطلاق الرصاص والقتل في الشارع كما حدث قبل أكثر من عقدين في المنطقة الشرقية.

الملاحظة الثالثة: وهي ملاحظة مهمة، وتفيد بانكسار الحاجز النفسي للمواطنين، فقد خرقت المظاهرات المألوف والقوانين المكتوبة وغير المكتوبة ـ بحرمة ومنع التظاهر تحت طائلة العقاب ـ والتي تحكم السلوك الفردي. كما تشير الى حقيقة سقوط منظومة القيم الإجتماعية والإلتزام بها. فالتظاهرات أثبتت وجود شرائح في المجتمع لا تريد الإلتزام بهذه المنظومة التي هي في الأصل لم يجرِ الإتفاق عليها بل مفروضة من قبل السلطة منذ تأسيسها. بمعنى آخر، إن منظومة الأعراف والقيم لم تعد قادرة اليوم على استمرار فرض سلوك عام بعينه يتناغم مع مصالح السلطة، طالما أن هناك فئات لا تعترف بتلك المنظومة، ولا ترى ممانعة من خرقها. إن فعل التظاهر يتجاوز الأمر الى وضع معايير للسلوك الإجتماعي الجديد، وفق منظومة فكر ورؤى غير محافظة لا تقبل بها السلطة في الأساس.

الملاحظة الرابعة: تشير الصور القليلة الملتقطة لجمع المتظاهرين أنهم في أكثرهم من الشباب، المتعلم، العاطل عن العمل! هذا يلفت الى جذور الأزمة، والى حقيقة أن الجيل الشاب إذا ما دخل المعترك السياسي ـ وهو لا يملك شيئاً يخسره ـ فإنه قادر بالنظر الى نسبته (70% من السعوديين دون الخامسة والعشرين من العمر) الى تغيير الخارطة السياسية أو تهديدها بالفعل. لقد أوضح الجيل الجديد المتضرر من الأوضاع الحالية أكثر من غيره، والذي لم يعاصر عنف السلطة ودمويتها من الستينيات وحتى الثمانينيات من القرن الماضي، أنه محصّن بقدر كافٍ من التأثيرات النفسية التاريخية التي وفرت غطاءً ذاتياً من الردع للسلطة قبالة أي عمل سياسي. لم يعد الشباب اليوم يخشون السلطة بالقدر الكافي، فهم في حالة نفسية مبادرة للفعل، في حين نرى العكس لدى السلطة وأجهزتها. والتظاهرات في الحقيقة تزيد هذا الجيل شعوراً باللامبالاة بقمع السلطة وأجهزتها. ولربما لهذا السبب ـ كما سنشرح لاحقاً ـ هناك احتمالات غير قليلة لكي تلجأ السلطة الى العنف الأعمى لكسر الروح المنطلقة لدى السعوديين هذه الأيام، كوسيلة دفاع أخيرة من قبل السلطة عن حصونها المحافظة والمتآكلة.

الملاحظة الخامسة: تبين أن أكثرية المتظاهرين كانوا من غير الإسلاميين حسب التعبير الحركي، فكما توحي سحناتهم وحلقهم للحاهم، أن الجمهور في المملكة قد وصل الى مرحلة الإنفجار، ولم يعد بإمكانه الإنتظار كثيراً.. وهو هنا إنما يبحث عن وسيلة للتعبير بغض النظر عمّن دعا إلى استخدامها. ويلفت هذا الأمر الى أن التيار اللبرالي في المملكة، فقد بالفعل عنصر تميّزه في هذا الشأن، فهو كان متردداً في استخدام أسلوب التظاهر لتعضيد دعواته الإصلاحية عبر العرائض. لكنه لم يفعل. وجاءت السلطة لتخيّب الآمال في الإصلاح، في حين جاء من (اختطف) الشارع ـ حسب تعبير بعضهم ـ الذي انتظر اللبراليين ليدشنوا فعل الإصلاح وتحريك الجمهور. وتكمن أهمية التظاهرات، أنها ستشجع قيادات من التيار اللبرالي لقيادة المظاهرات والدعوة إليها. ينبغي التذكير هنا الى حقيقة نضج الشارع واستعداده للتظاهر بما حدث في المنطقة الشرقية قبل نحو عامين.. فإن من أشعل الشرارة هم (اليسار) السعودي في مدينة صفوى، وهذا فضلٌ يجب أن ينسب لأصحابه، لكن لا يمكن القول بأن الشارع السعودي صار يسارياً. لقد كانت لحظة تاريخية جاءت الدعوة الى التظاهر لتتوجها. ذات الأمر يمكن أن يقال الآن وفيما بعد ربما حول المظاهرات في المملكة، فمن يشعل التظاهرة لا يتحكم فيها بالضرورة. أما الشعب فإنه ينتظر ذلك الشجاع الذي يشعل ثقابها.

وفي هذا الصدد يجدر أن ننبّه الى مسألة مهمة، فقد لوحظ من تجارب الشهر الماضي وتجارب سابقة، أن السعوديين يتجمعون بالقرب من موقع التظاهرات المزمعة، وهي ظاهرة تستلفت الإنتباه، وكأنهم متفرجون، فإن قامت التظاهرات شاركوا فيها، وإن لم تقم نأوا بأنفسهم عنها، وعن الشرطة التي تعتقل الآخرين! هذه الظاهرة تبين أن هناك شريحة من المواطنين (المترددين) في المشاركة خشية القمع، ولكنهم في كل الأحوال راغبين في التظاهر. الحكومة التفتت الى هذا الأمر، وعاملتهم كمتظاهرين، فرّقت بعضهم واعتقلت الآخرين. وحسب أحد بيانات وزارة الداخلية، فإنها تشير الى هذا الصنف الذي جاء بدافع الإستطلاع أو الفضول! كأن الأمر في داخل كل فرد من هؤلاء المتجمهرين يجري وفق هذا الحساب المنطقي: (إذا ما قام شخص بإعلان البدء بالتظاهرة بإطلاق الشعارات مثلاً، فأستطيع حينها أن أشارك بدون خطر كبير، ولكن إذا ما بدأتُ بها أنا ولم يتبعني أحد، فسأكون المعتقل المميّز والمحرّض الأوحد، لذا سأنتظر أحدهم ليبدأ. فالأمن الشخصي يمكن حفظه إذا ما نجحت الجماعة المتجمهرة في إخراج المظاهرة)! نعم. إذا لم يهتف أحدهم يكون التجمهر تجمعاً بدون فاعلية، وهذا ما حدث في السابق فعلاً في بعض الأماكن (الظهران)، حيث تتصدّى الشرطة للجمهور قبل أن يطلق أحدهم صافرة البدء، فتجهض المظاهرة قبل ان تنطلق ويستقيم عودها ويتكاثر عدد المشتركين بالشكل الذي يؤمن الحماية للجميع.

الملاحظة السادسة: لقد جاءت المظاهرات ومؤتمر الحكومة حول حقوق الإنسان ينعقد لأول مرة في الرياض بحضور دولي ضعيف. فكان اختيار الوقت والمكان ملائمين تماماً للشروع في التظاهرات، لما تسببه من إحراج لدى الحكومة السعودية. فكيف تريد الأخيرة أن تبدو للعالم بأنها حامية لحقوق مواطنيها الأساسية، في حين تقمع تظاهرة صغيرة وتعتقل أغلب المشاركين فيها، إضافة الى كونها لا تعترف بحق التظاهر أصلاً؟ ويزداد الحرج حين تكون مطالب المتظاهرين تتمحور حول: إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ويشارك في التظاهر نساء اعتقل أزواجهن قبل أكثر من عشرة أعوام، ممن لا يمكن للسلطات الأمنية الزعم بأنهم استخدموا العنف، فاعتقالهم سابق له. ويتأكد الحرج باعتقال النساء أنفسهن، إحداهن كبيرة في السنّ، وأعلنت وزارة الداخلية أنها ستحاكمهن بقسوة حسب ما توحي ألفاظ البيان الرسمي. وهذا جرّ على الحكومة انتقاد منظمات حقوق الإنسان (العفو الدولية، وميدل ايست ووتش).. وفي المحصلة خسرت الحكومة معركتها الداخلية والخارجية بشأن (احترام حقوق الإنسان).

 الشغب فالعصيان المدني فالثورة

 الجمهور في المملكة ـ كما في كل الدنيا ـ جمهور عقلاء، يحسبون الأرباح والخسائر. هم لا يخرجون الى التظاهر دون إدراك لهذا الأمر: إمكانية الربح (إصلاحات من نوع ما تؤدي لحلحلة أوضاع معاشية مثلاً) وإمكانية الخسائر (اعتقال، تعرض لعنف جسدي من الشرطة، خسارة الوظيفة، الخ). حين تكون احتمالات الربح أعلى في الذهنية العامة، ولدى شريحة كبيرة، من الخسائر المفترضة، حينها ينطلق الفعل السياسي خجولاً، يبدأ بأفراد وينتهي بتجمعات. التظاهرات واحدة من مراحل النضال السياسي وهي تفعيل لحالة السخط العامّة الكامنة في النفوس، ولكنها خطوة قابلة للتطور نحو أمور أخرى، كأن تتواصل المظاهرات وتنتشر في مدن أخرى، وينضم إليها أعداد كثيرة من المواطنين، بحيث يتحول الأمر الى ما يشبه العصيان المدني الذي قد يرافقه الشغب والعبث بالممتلكات العامة.

هذا بالتحديد موطن مخاوف السلطة في المملكة. فالنار قد يولّدها مستصغر الشرر. صحيح إنه من السابق لأوانه الحديث عن هذا الأمر في المملكة اليوم، فالمظاهرات ممنوعة ومحدودة، وقد لا تقوم أساساً إذا كان تحليلنا للأوضاع غير دقيق. فتطور الأمور الى عصيان وشغب لا يحدث إلا في ظروف إجتماعية وسياسية شديدة الحرج، لا يرى البعض أنها متوفرة في المملكة. وهناك رأي مناقض سبق وأن طُرح يفيد بأن إنغلاق وسائل التعبير السلمي وتضييقها الى أبعد حدّ وفي غياب حلول واقعية للمشاكل الإجتماعية أدّى الى نقل المواطنين سيكولوجياً وعملياً من (النقيض الى النقيض) الى حد أن الطابع الغالب في الشارع السعودي ـ حسب هذا الرأي ـ يميل الى الفرز بين أقصى اليمين المؤيد للنظام وأقصى اليسار العنيف المطالب بإقتلاعه بأدوات السلاح. بمعنى أن الجمهور ـ بعضه على الأقل ـ قد اختزل المسافة ـ نظرياً وعملياً ـ بين الصمت والإنفجار، وبين الولاء والتمرد الشامل، وبين اللاحل والحل الجذري، وبين الولاء الأعمى والعنف الأعمى. بمعنى آخر، أن الجمهور قد لا يمرّ بمرحلة التظاهر ليمارس عصيانه وشغبه، بل قد ينفجر إنفجاراً غير متوقّع أو محسوب، ولعل هذا ما حدث على الأقل لبعض شرائح المجتمع، كانت بالأمس القريب ترى الولاء التام للنظام وإذا بها اليوم لا ترى غير السلاح لمواجهته وإسقاطه.

إن اختزال المساحة السلمية في التعبير، كالتظاهرات، والقفز عليها الى الإنفجار، يعتمد اعتماداً شبه كلّي على رد فعل السلطة، وهنا لا بد من بحث إمكانيات الأجهزة الأمنية وصانع القرار في التغلّب على هذه المعضلة.

لنفترض أولاً أن الحكومة استطاعت منع التظاهرات، مهما بدت الحاجة اليها للتنفيس، فهذا ـ كما قلنا ـ قد يقفز ببعض الشرائح الى استخدام العنف، إلاّ في حالة واحدة، هي إذا ما نجحت السلطة في معالجة الأسباب الهيكلية الدافعة نحو الإحتجاج. ونقصد بالأسباب الهيكلية المعالجة (النسبية) لمسألة عدم المساواة في المجتمع من حيث التمتع بالسلطة والثروة والخدمات وفرص الحياة؛ وإذا ما قضت نسبياً أيضاً على حالة التهميش والغربة الأيديولوجية لشرائح متعددة في المجتمع. ولكن إذا ما شعر المحرومون أو المتضررون بأن الدولة لن تفعل شيئاً أو ليس بمقدورها فعل أيّ شيء، فإنها حينئذ تكون عرضة لشغب واسع وإن تمّ كبحه فإنفجار عنف.

من الواضح ـ في الظرف الحالي ـ أن ليس في نيّة الحكومة (شرعنة) التظاهر. هل يمكن أن يحدث هذا في المستقبل؟ وفي أي ظرف؟ الغالبية من الجمهور اليوم لا تميل الى العنف بكل تأكيد، ومطالبها في الغالب محتملة، لا تمسّ أصل النظام، وإنما تسعى لإصلاحه سياسياً كمقدمة لإصلاح  وضعها المعاشي، وهي بهذا تميل الى استخدام أدوات سلميّة للتعبير من أجل تحقيق تلك المطالب. لكن تأخّر تحقيق الإصلاح بمعناه الشامل، يثبت أن الوسائل المستخدمة غير كافية، ولهذا تظهر نزعة لتطوير الوسائل كمحصلة طبيعية للفشل الحكومي والشعبي المشترك، فهناك فشل حكومي في إصلاح الذات وتحقيق مطالب الجمهور، وهناك فشل في الجمهور ونخبه في فرض مطالبهم.

يمكن وصف الوضع في المملكة بأنه يدور حول البحث عن مخارج لحل الأزمة القائمة. لقد تقلّصت الآمال من أن تقوم الحكومة بشيء مفيد، والحلّ يتمحور حول الوسائل الجديدة لدى الشارع لاستخدامها في الضغط. يقفز الى الذهن التظاهرات، والحقيقة أن عدداً من النخب ناقشوا هذا الأمر قبل نحو بضعة أشهر، وإزاء التجربة التي حدثت الشهر الماضي، فإن الإمكانية مفتوحة للقيام بمظاهرات، فتكلفتها حتى الآن قليلة، بالقياس الى الماضي، والحاجة إليها ماسّة، حتى وإن تضمنت (قمعاً نسبياً!) وفي حال حدوث ذلك، سواء جاء بدعوة من النخب اللبرالية أو من أي جهة أخرى، فإن تكرار التظاهر مع تكرار رد فعل السلطة ـ الذي يبدو انه لن يميل الى العنف الشامل إلا في مراحل متأخرة ـ يجعل من التظاهرات واقعاً لا مفرّ منه.

هذه الفترة يمكن وصفها باختبار الإرادات، فالحكومة لن تجرّب القمع الشديد، لأسباب متعددة، وهذا لا يكفي لقمع التظاهر، بل سيجذب على الأرجح مجاميع جديدة. أما في حال القمع الشديد، رغم الكلفة العالية على سمعة الدولة ومشروعيتها، فهو قد يطلق الخيار للعنف أو يفجر الوضع في تظاهرات صاخبة بأهداف جذرية. وفي العموم، ستكون السلطة وأجهزتها الأمنية محطّ أنظار الجميع، وستواجه بسيل من النقد الداخلي والخارجي على ممارساتها، سواء كان عنفها شديداً او محدوداً.

يمكن في هذه الحالة، أي اذا استمرت التظاهرات، وربما قبلها حتى، أن يدرك صانع القرار السياسي مآل سياساته التي ستكون خاسرة في كل الأحوال.. بحيث يشرع فعلياً وجديّاً في تطبيق برنامج للإصلاح الشامل، كأن يعلن عن انتخابات مبكرة كاملة وليس جزئية لمجلس الشورى، يرافقها إجراءات إقتصادية إصلاحية سريعة تستوعب فعلياً الحاجات الملحّة، وتطمئن الجمهور الى أن ولادة حقيقية للدولة السعودية قد حدثت.

الإحتمال الآخر، وهو مرجح أيضاً، وهو احتمال تتبعه الأنظمة في حالات توترها وخشيتها من الإنهيار، أن تعمد الى عنف غير مسبوق، تشمل آلافاً من المعتقلين وتكسيراً للأيدي والأرجل في الشوارع، وإنزال الدبابات والمصفحات.. بكلمة أخرى: إعتماد المواجهة الشاملة مع الجمهور بغرض كسر شوكته دفعة واحدة. من المؤكد أن نيّة من هذا النوع تدور في أذهان بعض صانعي القرار، تكشف عن ذلك معالجاتهم المشوهة حتى الآن للأوضاع، وما يرشح من أحاديثهم في مجالسهم الخاصة.

لكن ما يمكن الإطمئنان إليه والتأكد منه، أن هذا الأسلوب خطر من جوانب عديدة، أهمها أن تطبيق النوايا على الأرض قد لا يتمّ فعلاً بالصورة التي يريدها (رجل الأمن الأول!) فقد يرفض بعض رجال الأمن القيام بفعل عنفي صاعق ضد الجمهور، إما لأسباب وطنية، أو لأسباب قرابية، أو لأسباب مصلحية مبنية على أن النظام في آخر أيامه. وبالتالي فرجل الأمن العادي قد يتحمّل عقاب السلطة بعدم المشاركة من أن يحاسب فيما بعد على فعلته وقمعه. ومن الإحتمالات الكبيرة في حال ممارسة القمع الأعمى، أن يتخلّى عن النظام ما تبقى له من أصدقاء وحلفاء في الداخل والخارج، فيشعر بالوحدة وأن أيامه قد انتهت. ومن المحتمل أيضاً أن يؤدي ذلك الفعل الى تأجيج الشارع بدل كسره وتحطيمه، وهو أمرٌ حدث في دول أخرى، لن تكون رومانيا ولا صربيا ولا إيران إلا نماذج له.

العنف الشامل لا ينتج عنه إلا خسارة فادحة في شرعية النظام وازدياد الفاصلة بينه وبين جمهوره ـ هذا في حال نجاحه، أو قطع ما تبقى بينه وبين جمهوره من آصرة، فيصبح رحيله أمراً لا مفرّ منه حيث يتعزز الإحساس بأن هذا النظام لا يمكن التعايش معه وبالتالي لا أحد يريد بقاءه ـ في حال فشل في ذلك القمع.

هناك ورقة أخرى بيد النظام غير ورقة العنف والأمن، وهي ورقة الإقتصاد والمال. فإلى أي حدّ يمكن للنظام استخدامها في تسكين الشارع وتهدئته؟ المعطيات التي أمامنا تفيد أن الحكومة السعودية ـ ومن الناحية النظرية ـ تمتلك المال الكافي لتسيير برامجها التنموية والبدء بعملية إصلاحية تنموية جديدة. فمدخولات النفط ليست قليلة وكافية بل ربما تكون ـ نظرياً ـ أكثر من كافية. فما الذي يجعلها عاجزة إذن عن القيام بفعل حقيقي يعالج جذور الحاجة والحرمان المتفاقم في المجتمع السعودي، طالما هي غير راغبة في تقديم تنازلات سياسية؟ لماذا لم تستطع السلطة حتى الآن، وبعد عشرين عاماً من بداية الإنهيار الإقتصادي بسبب تدهور أسعار النفط في منتصف الثمانينيات الماضية، من توفير الوظيفة وقارورة الدواء ومقعد حتى لطلاب الإبتدائي فضلاً عن الجامعي؟ وأين تذهب المليارات؟ ولماذا يتضاعف الدين العام رغم تضاعف المداخيل؟!

ليس هناك من إجابة إلا القول بأن مؤسسات الدولة قد أُصيبت بالشلل، وأن صانع القرار يعيش عالماً غير عالم الجمهور، وأن الفساد والنهب قد خرجا عن السيطرة منذ سنوات طويلة، الأمر الذي جعل البلاد تسير من سيء الى أسوأ، سواء زادت المداخيل أم نقصت. هذه الأسباب هي التي تجعل من قدرة الدولة على معالجة الإنشقاقات السياسية المؤسسة في جزء كبير منها على وضع اقتصادي متدهور ضعيفة.

نحن نعلم بما يشبه اليقين أن الجمهور السعودي الأعم إنما اقتحم فضاء السياسة (الذي هو بتعريف السلطة الحاكمة فضاءً خاصاً) فلأسباب إقتصادية، وهو إن تحرك لتحسين وسائله في الضغط على السلطات فإنما لأجل التعجيل بالحلول الإقتصادية عبر البوابة السياسية، فإذا ما انغلقت البوابتان الإقتصادية والسياسية لا يكون هناك سوى توقع كل الإحتمالات السيئة. إن الفشل الإقتصادي ابتداءً يحرّض على التظاهر السياسي، والتظاهر السياسي إن أُريد له الإنتهاء إذا ما وقع لا بدّ من حلول إقتصادية سريعة لا تؤجل، وإلا تطورت المظاهرات الى شغب فثورة. وهنا مربط الفرس. فالحكومة لا تملك حلولاً سحرية للمشاكل الإقتصادية والإجتماعية، وهي ليست قادرة على القيام بعمليات جراحية صعبة، تخفف من الضغط على الخزينة، وتوقف حالة الترهل والفساد والجشع لدى الأمراء، في حين أن المشاكل صارت متفاقمة تحتاج سنين طويلة، وقمّة النجاح اليوم هي مجرد إيقاف التدهور واحتواؤه، وحتى هذا هم غير قادرين عليه. لقد صرح ـ مثلاً ـ رئيس لجنة دراسة قضية الفقر أن المملكة بحاجة الى ما لا يقل عن ثلاثين عاماً (للتوصل الى تخفيف ظاهرة الفقر)(عكاظ، 20/9/2003).

ولذا يحق لنا أن نتساءل: ما هي الأدوات التي بيد الدولة في مواجهتها للمحنة السياسية؟ فالأداة الأمنية غير موثوقة النتائج، والأداة المالية معطّلة بالفعل؟! أبهاتين الأداتين يمكن تطويق الحرائق، ومواجهة الجمهور؟!

 

إلى أين بعد هذا؟

 

حركة الجمهور في المملكة يمكن أن تخمد بعوامل ذاتية، أو بقمع مقنن يستهدف النقاط المفصلية في النشاط المطلبي. لكي تؤتي المطالب ثمارها، هناك جملة من التحديات يجب مواجهتها، وهي لا تنحصر في تحدّي القمع الذي تمثله السلطات. من بين هذه التحديات:

أولاً ـ تبلور قيادة جماهيرية إما على المستوى الوطني أو على المستوى المناطقي تقود النشاط الوطني ضمن محدداته العامة باتجاه أهدافه بأقلّ الكلف ولكن بشجاعة وجرأة وببصيرة لمؤديات الأحداث.

ثانياً ـ لقد وجدت نقلة نوعية في مستوى الوعي الشعبي في السنوات الأخيرة، وقامت التكنولوجيا بدور النخبة في البلاد من جهة استقبال الأفكار الجديدة المنتجة أو إيصالها، ولكن يجب توطين هذا الفكر بجعله (محلّياً) أي القيام بتحويل المنتج العام في مجالات التغيير والديمقراطية وحقوق الإنسان الى منتج محلي، أو بتحويله من طابعه العام الى طابع خاص يخاطب الجمهور. وهذا يستلزم المزيد من التنظير لحركة السياسة في المجتمع، خاصة في غياب مراكز الدراسات والأبحاث.

ثالثاً ـ يخشى أن يكون الجمهور قد سبق النخبة في استعداده للنضال من أجل حقوقه. وإذا ما حدث هذا، فإن ردة فعل الشارع قد تصبح غير مقننة، وتميل الى العنف والإنفلات بشكل لا يخدم الأهداف الوطنية. وبدل أن يتحرك الشارع بشكل واعٍ، قد تحركه العواطف باتجاهات أخرى، وبالتالي سيكون من الصعب تطوير حركة الجمهور والأخذ بيده نحو المطالب العليا.

رابعاً ـ هناك خطر أن تبرز الأهداف الفئوية المناطقية. فالجماعات المضطهدة مذهبيا ومناطقياً قد تقوم بحشد جمهورها على ذات الأسس الخاصة بها والأهداف المشروعة بها كجماعة، الأمر الذي قد يؤسس الى إنشقاقات واسعة فيما بعد قد تؤثر على كيان الدولة بأكمله.

خامساً ـ لقد تحولت الأزمة الإقتصادية المحدودة في الثمانينات بسبب انخفاض أسعار النفط الى أزمة شاملة دائمة رغم تغير الظروف. ولقد تحولت المطالب الجماهيرية المعيشية الى مطالب سياسية واضحة حتى الآن. وهذان العنصران يرفدان حركة التغيير بزخم دائم، ولكنهما قد يتحولان الى باعث شديد باتجاه العنف السياسي سواء ضد الدولة أو المتحدين معها. التأكيد على الحركة السلمية يجب أن يكون مطلباً مستمراً حتى وإن استخدمت السلطات العنف.