عسر بعد عسر.. الإصلاح المجهض

ماذا بعد حطام الدولة؟

 الخطوة الاصلاحية البائسة المعلن عنها مؤخراً حول إنتخابات أعضاء المجلس البلدي، والتي يزمع اجراؤها خلال سنة لم تكن مفاجئة، بل تندرج ضمن مسلسل الاحباط الطويل الذي عاشه السكان منذ أكثر من عقد من الزمن، أي منذ اعلان الملك فهد عن الانظمة الثلاثة في مارس عام 1992. فغالبية الناس لم تكن تتوقع أكثر مما أعلنت عنه الحكومة، وإن كان الاعلان الأخير جاء دون خط اليأس العام، إذ كانت سيرورة المشروع الاصلاحي تتطلب ـ نظرياً على الأقل ـ البدء من النقطة التي إنتهى عندها الاصلاح رغم تشوّهاته الخلقية قبل عقد من الزمن، أي من مستوى التعيين في مجلسي الشوري والمناطق الى مستوى الانتخاب، وتالياً وضع دستور حقيقي للبلاد ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويقرر حقوق المواطنين والحريات العامة..وباقي المطالب الواردة في الاجندة الاصلاحية لغالبية السكان.

جديد الاعلان الأخير يكمن في دخول مبدأ (الانتخاب) الى قاموس السياسة السعودية، وهذا تطوّر يستحق التأمل طويلاً، سيما في بلد إعتادت على نمط صارم في صناعة القرار والادارة، ويقوم على إحتكار السلطة من قبل فئة صغيرة من السكان. ولكن سيظل السؤال الهاجس: هل سيتحول الانتخاب الى جزء مركزي في الثقافة السياسية، وفي إدارة شؤون الدولة أم سيتم إجهاض المعاني من ألفاظها كما هو حال ألفاظ سياسية عديدة جرى إبتذالها في وقت سابق مثل المواطنة والشورى والحرية والوحدة.. وغيرها؟

الدولة قررت ما تشاء من إصلاحات، والناس جهرت بما تشاء من مطالب، والفارق بينهما شاسع، ولا مؤشر حتى الآن ولا في المستقبل المنظور بحسب المعطيات الراهنة أن ثمة تصالحاً محتملاً بين الطرفين، فقد لحق جسور الثقة بين الدولة والمجتمع دمار كبير، ولم يعد بإمكان الدولة ترميمها بأعمال ترقيعية، تماماً كما أن المجتمع لا يقبل بحطام الدولة في اصلاحات لم تقترب من الحد الادنى لتطلعاته، فهي إصلاحات ترتد الى ما قبل عقود حين كان الناس ينتخبون أعضاء المجلس البلدي، وكأن الدولة تسير بالناس خطوة للوراء.

إن اختمارات التمرد التي تفجّرت عقب الاعلان عن الانظمة الثلاثة في مارس 1992 نبّهت الى حقيقة كبرى ربما لم يلفت الانتباه اليها في حينها، وهي أن هناك قائمتي خيارات كانتا تعملان بإتجاهين متعاكسين، فحين تفشل خيارات الدولة في وضع حلول حاسمة لمشكلات المجتمع، يتولى الاخير ـ أو أجزاء منه ـ مهمة تصنيع خياراته، إذ لم يعد بإمكان الدولة وهي تسير في منخفضات حادة اقتصادية وسياسية وأمنية الانفراد بحسم أمور المجتمع. فالتنبيهات المدوّية محلياً تدفع بالقوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة لأن تتنج بدائل أخرى، وقد تكون بعضها ردود أفعال على إنتكاسات الدولة نفسها. هذا يقودنا الى الاستنتاج بأن اعلان الدولة الاخير حفّز خيارات سياسية مؤجلة لدى السكان، وليست إرهاصات التمرد التي شهدتها الرياض وارتفاع درجة الغليان السياسي في المناطق الأخرى سوى تعبيرات عن اليأس المرشح لأن يأخذ شكلاً خطيراً في التمرد سيما حين تصل الاوضاع الى حافة الحسم، إما الاصلاح الشامل والفوري وإما الفوضى.

في حقيقة الأمر، أن الدولة أفقرت خيارات رسمتها لنفسها في التعاطي السياسي مع القوى الاجتماعية والسياسية المحلية، فلا أسلوب التناصح أو العرائض أتى أكله، ولا هي أقنعت أحداً بجدارة وكفاءة توجهها الاصلاحي بل هي في ذلك كله تقدّم مبرراً إضافياً للخيارات الأخرى وبخاصة الراديكالية منها، التي لم تنتظر طويلاً كي تعلن عن نفسها فقد جاء أسلوب الاحتجاج العلني عن طريق التظاهر فورياً وفي مركز السلطة وبعد يومين فقط على إعلان الحكومة عن انتخابات المجالس البلدية. بل حتى التيار الاصلاحي الوطني وجد نفسه أمام وضع لم يعد يجد فيه بدّاً من التفكير في اللجوء الى بدائل أخرى، بعد أن أصابه اليأس والاحباط من صانعي القرار السياسي.   

 المواقف الشائعة داخل التيار الوطني الاصلاحي تتفق على أن الدولة ليست جهة التغيير بعد الآن، وأن ما ينتظر منها لا يستحق الانتظار، وأن شيئاً ما آخر لا بد من التفكير فيه للانعتاق من ربقة الخيار الحصري المألوف في التغيير وإيصال الصوت الآخر. لقد خسرت الدولة بقية من كانوا يأملون خروج جنين إصلاحي مكتمل النمو، حتى باتت هذه البقية تنوء بأعباء مجهودها السياسي المجهض من قبل الدولة. فهذا المجهود الكثيف خلال عام لم يسفر سوى عن قرار هزيل، لم يلامس أياً من نقاط الاجندة الاصلاحية كما أفصحت عنها وثيقة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) وعريضة (دفاعاً عن الوطن).

وبين إحباط التيار الاصلاحي العريض، وبؤس قرار الدولة الأخير تترشح الساحة الداخلية لانشقاق تيارات أخرى بعضها من باطن التيار الاصلاحي نفسه، والبعض الآخر من داخل الدولة والبعض الثالث من المجتمع بتكويناته الاثنية والدينية والمناطقية. فقد تبدّد خيارات الدولة الواحد تلو الآخر، منذ الاعلان عن الانظمة الثلاثة وصولاً الى الاعلان عن إنتخابات المجلس البلدي الذي سلب من التيار الاصلاحي العريض جرعة الأمل الأخيرة، وبالتالي باتت الخيارات مفتوحة أمام المجتمع، في أن يوصل رسالته الخاصة وعلى طريقته في الاصلاح والتغيير السياسي.

لم تدع الدولة أحداً يراهن على كفاءتها في تسوية الأزمة الشاملة التي تحدق بها، فهي تنبذ قصياً وبصورة متصلة كل من يضع آماله عليها، حتى باتت دائرة الولاء للدولة ضيقة على فئة من المنتفعين، فيما يخرج السكان من ابواب الدولة أفواجاً بعد أن فقدوا فيها أملاً يرتجى، وأنهكهم المشوار الطويل الذي قطعوه في طريق عادوا منه في نهاية المشوار بجر أذيال الخيبة والحسرة. 

لقد تعاملت الدولة مع الاصوات كافة بأسلوب موحّد، ولذلك جاءت الصدمة موحدة لدى المعتدل والمتشدد، والسبب في ذلك أنها لم تقدّم ما يجلب رضا العامة ويخمد السخط المتصاعد وسط الكافة. والنتيجة أن إعلان الحكومة حمل معه مبررات الاحباط وزاد من سخونة الوضع الداخلي المرشح للغليان والانفجار، فقد أسقطت الدولة خيارات التدافع السلمي نحو الاصلاح، وأوصلت الجميع الى قناعة بأنها غير جديرة بأن تضطلع بدور إصلاحي.

وفي حقيقة الأمر، أن النهج الذي تسير عليه الدولة قد أوصل عدداً كبيراً من دعاة الاصلاح الى حافة الخروج عليها، إذ لم يعد هناك ـ في نظرهم ـ نتائج مثمرة من الاستمرار في الرهان على الدولة كجهة قادرة على انقاذ البلاد من كوارث اقتصادية وسياسية وأمنية.

إن مقدار الجرعة الاصلاحية المقررة من قبل الدولة أسقطت الخيار السلمي، وفتحت المستقبل على ما كان يخشى منه من انتشار الفوضى والعنف والتمزق الداخلي. إذ ليس هناك ما يمكن انتظاره من الدولة..فإذا كانت الأزمات الراهنة بشكلها المثير للهلع لم توصل الدولة الى قناعة بضرورة صناعة حلول تناسب حجم المشكلات فإن ذلك يعني ببساطة أن الدولة وصلت الى مرحلة العجز والشيخوخة والعطب التام. فليس هناك وراء الأكمة من يحمل بشارة الاصلاح للسكان.

ما يظهر في الأفق الآن، أن الدولة ستتحول الى ما يشبه جهاز أمني ضخم من أجل تطويق دوائر السخط والتذمر المرشحة للتفجر في مناطق عديدة، وهنا ستبدأ المواجهة بين المجتمع والدولة. فقد تعسرت سبل الحل.. وهناك تتآكل آمال المصلحين، وتفقد الحكومة المستقيلة من الواقع صدقيتها ومشروعيتها، وتنغمس العائلة المالكة في تقاسم الكعكعة وتوزيع السلطة، في وقت تتفاقم فيه مشكلات الداخل بوتائر سريعة. فالحاصل النهائي من كل تلك المعطيات أن عناصر الاحتراق باتت مكتملة، وليس هناك ما يحول دول إنفجار الوضع الداخلي.

جوهر المشكلة يكمن في أن الدولة تعيش زمناً سابقاً بمعطياته وأغراضه ووسائله، حتى وإن كانت اللحظة الراهنة تهدي بمنبهّاتها المفزعة الى التلبّس بها. فهناك حقائق كبرى شهدها المجتمع، بدّلت منظومته الثقافية والاجتماعية والقيمية، وكان يفترض أن تنتج الدولة خطاباً جديداً يتناسب مع التبدلات الداخلية، ويحقق قدراً من الاستقرار في العلاقة بين السلطة والمواطن، الا أن خطاب الدولة ظل محتفظاً بعناصره القديمة، كما أن التعبير عنه والوسائل التي تنقله هي الأخرى قديمة أيضاً. إن الرؤية الساكنة لدى النخبة الحاكمة والقائمة على اعتبار الدولة ملكا خاصا لعائلة وفئة، يضاف اليه التذكير الدائم بها أمام المواطنين بات يثير إستفزازاً لدى قطاعات كبير من السكان الى حد أن هذه الاعتبارات دخلت كجزء من ثقافة الاحتجاج والسخط. بل قد يدفع التمسك بدعوى الملك الخاص الى المنابذة العنيفة وستضع الدولة بكاملها في عزلة تامة عن المجتمع الذي تسوده، فحينذاك تصبح الدولة والفئة الحاكمة جبهة مناوئة وأن ما ينقم الناس من العائلة المالكة سينسحب ويمتد الى الدولة نفسها. فالدولة تفقد كينونتها حين تتم مماهاتها بالسلطة، ويصبح التعامل حينذاك مع من يحكم لا ما يحكم، وهو ما أرادته العائلة المالكة حين ملأت أركان الدولة بخصائصها، وأملت عليها نمطها الخاص في الادارة، وجعلت مصير الدولة والسلطة ممثلة في العائلة المالكة موحداً.. توحّدا معاً ويزولان معاً.

إن ما نشهده الآن هو بداية فعلية لعملية تفكيك واسعة النطاق لمنظومة علاقات ومصالح وقواعد وخطاب كانت تسيّر دفة الدولة. فهذه المنظومة قد تعرضت على مدار سنوات لاهتزازات عنيفة بفعل انتكاسات الدولة، وأصبحت غير قادرة على إقناع من أريد لهم الخضوع تحت تأثيرها. والسبب في ذلك أن التوسل بالدعاوى الدينية والتاريخية والمنجز التنموي وقوة الردع باتت مفردات مسلوبة التأثير، إن لم تمثل حالياً معوّقاً كبيراً لمهمة الاصلاح في بعده الشامل والفوري.

لقد أوصلت كافة القوى السياسية والاجتماعية رسالتها الاصلاحية للدولة، إبراء لذمتها في الالتزام بمقررات اللعبة الداخلية، وما يترشح حالياً للظهور هو غير سار للعائلة المالكة، ولكنه لا يخلي مسؤوليتها في إيصال الاوضاع الى نقطة الغليان. فالمراهنة المكرورة على كون العائلة المالكة هي الصانع الوحيد للمبادرات الداخلية وتقرير نسب وحجم التغيير ما عادت مربحة، بل ما يعقبها من تداعيات وردود أفعال كفيل بإسقاط أي مراهنة لا تضع في الحساب السياسي ما ينجم عنها من آثار على الأرض وما يلحقها من دمار.

نقول ذلك كله ونحن نشهد التطورات الخطيرة الجارية على الساحة المحلية والتي لن تكون المظاهرات سوى إحدى التعبيرات القصوى التي ينتجها الوضع الداخلي المتفجر. إن هذه المظاهرات التي حصلت في أكثر من مدينة وفي مركز السلطة ذاتها تمثل إجابة عملية على فقدان الأمل في الدولة، وأن الناس وبخاصة المشاركين في هذه المظاهرات بدأوا تنفيذ ما فكّروا فيه، في إنتاج مبادراتهم الخاصة بهم والتي أرادوا فرضها على الدولة، بعد أن ملوّا سماع وعودها المؤجلة ومبادراتها الهزيلة والبائسة.

مؤسف القول بأن الدولة ألجأت السكان الى بدائل أخرى بفعل تعنتها وانحباسها في أوهام قديمة وصراعات مستجدة على السلطة، ولذلك لا نتوقع أكثر من الاسترسال في الخيار الأمني لجهة كبح جماح الاوضاع كي لا تصل الى الانفلات التام والانقلاب بالسلطة. فخيبة الأمل الكبيرة في ظل أوضاع بائسة إقتصادية وسياسية وأمنية لا تدفع سوى بإتجاه واحد وهو الالتحام بالدولة نفسها، خصوصاً حين لا يكون أمام الناس بدائل اخرى، سواء عن طريق الصحافة الحرة أو مؤسسات المجتمع المدني، أو التجمعات السياسية، فالجمهور يصبح الطرف الآخر الذي ينهض لايصال صوته العفوي والمباشر.

إن الاحتقانات الداخلية قابلة للاستغلال من أي من القوى السياسية والاجتماعية الناشطة على الارض، وليس هناك ما يدعو للغرابة والإستنكار. إن وجود جهة قادرة على تحريك الشارع لا يعني نفياً لوجودات سياسية أخرى، فالاختلاف هو في الوسائل والقدرة على التأثير في الجمهور، وإن شجب البعض للمظاهرات لا يجب تطويره الى حد النيل من الوسيلة والهدف المرسوم لها، بل الأجدى هو تقديم قراءة دقيقة ومتأنية للأوضاع التي سمحت بوجود مثل هذه الوسائل، والتعرف على مبررات اللجوء اليها.

(التحرير)