تمثيل الدين أم المجتمع؟

أدلجة الدولة والمسار المقطوع

عبد الله الراشد

الدين الذي أريد منه توفير جرعة المشروعية للدولة السعودية، لم يتم تأطيره نهائياً، إذ ظل أهل الدين ينظرون الى الدولة بوصفها جهازاً ضخماً لنشر الدعوة وتطبيق الشريعة، فيما كان أهل الحكم عاجزين عن الاجابة عن السؤال المركزي: ما هي حدود علاقة الدين بالدولة، أو بالأحرى ما هو دور الدين في الدولة؟

تخضع علاقة الدين بالدولة في التجربة السعودية الى جدل متواصل وجاد، فلأول مرة في التاريخ السياسي الحديث تتم مصاهرة عنصرين متنافرين، بالنظر الى ما كشفت عنه تجربة الصراع في أوروبا، والذي نجم عن تحولات دراماتيكية في العلاقة بين السلطة والمجتمع. فهذا الصراع أفضى في نهاية المطاف الى تحوّل أوروبا من عصر الاكليروس والنظام الثيوقراطي الكنسي الى عصر الدولة الحديثة بنزوعها العلماني الليبرالي. وكان من الطبيعي أن تحدث عملية تجاذب بين عنصري الدين والدولة، تجاذب يدور حول أولوية أي منهما في الأهمية، أي في الاستراتيجية العامة، وفي الاجندة السياسية والأهداف المنشودة من تلك العلاقة. فأهل الدين يرون بأن الدولة خلقت من أجل خدمة الدين، وأن الدين يعلو على كل شيء بما في ذلك الدولة، التي يجب أن تكون خاضعة لتوجيهات العلماء، وأنها ـ الدولة ـ ملزمة بتوفير كل مقومات بقاء الدعوة وتمددها، فثمة غاية لأهل الدين إذن من المصاهرة مع الدولة، فالدعوة لا تسير بدون غطاء سياسي، يوفّر لها الحماية، ويمدها بمصادر القوة المادية والمعنوية من أجل الانتشار، والدولة لا تحقق سيادتها بدون غطاء ديني، يمدّها بالمشروعية، ويسوّغ لها سياساتها في من تحكم.

على أن نظرة أهل الدولة تميل على الدوام الى التوسل بالذريعة السياسية، كضمانة مؤكدة لحفظ وحدة السلطة، فهم يرون بأن ثمة أيديولوجية دينية ضرورية من أجل إحاطة الدولة بهالة قدسية وبمعنى ديني يوثق عرى تماسكها، ويكفل مشروعيتها في الوسط الذي نشأت فيه، ويضمن الحد الأدنى من متطلبات البقاء على قيد الحياة السياسية، وفوق ذلك كله يضفي مشروعية على سياساتها وأدائها العام. فهناك إختبارات صعبة للغاية، تطلبت إجابة حسمة من قبل أهل الدين وأهل الدولة، انطلاقاً من رغبة الطرفين في تحقيق الاهداف التي حملوها، والرؤية التي رسموها حيال كل منهما.

منذ التحالف التاريخي بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود عام 1744، كانت هناك غايات متبادلة يراد من هذا التحالف إنجازها، ولكن شروط اللعبة تقتضي احياناً أن يخترق الديني مجال السياسي وبالعكس، طالما أن الطرفين يحملان رؤية متماثلة ولكن من موقعين مختلفين. فقد زاول الشيخ ابن عبد الوهاب مهمة الامام الماسك بالسلطتين الدينية والزمنية، فكان يأمر بجبي الخراج والصدقات ويصدر أوامر للقوات بالغزو، ويفصل في الخصومات والمنازعات، فيما كان يوحي أداء الأمير بأن التأسيس الديني لسلطته السياسية ولدولة آل سعود يتطلب تكييفاً من نوع ما مع الشيخ/ الامام، فليترك له في مرحلة التأسيس توثيق رابطة الدولة بالدين من خلال الحضور الكثيف للشيخ ـ الامام في مجالات الدولة عامة.

ولكن مقتضيات سيرورة الدولة تتطلب تحقيق قدر كبير من السيطرة (Hegemonic Control) الضابطة لمقاليد الحكم والشأن في البلاد، ولابد أن يعاد تشكيل العلاقة وضبط المواقع وفق ذلك المقتضى الأصيل. فرحيل الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد خفّض وبنحو تدريجي سلطة أهل الدين، سيما وأن من جاء بعد المؤسسين وخصوصاً السياسيين منهم كانوا مدركين تماماً فحوى التحالف الديني ـ السياسي، وما هي أغراضه الأولية، ولذلك قرر السياسي أن يحقق في نفسه مواصفات رجل الدين ورجل الحكم، دون أن ينبذ بعيداً طبقة العلماء ورجال الدين، فهؤلاء يظلون في كل الأحوال إحتياطياً استراتيجياً لا غنى عنه في تحقيق الاصطفافات الداخلية وحشد الاتباع خلف الدولة. وكانت تلبية تطلعات أهل الدين جزءاً من استراتيجية أهل الحكم، لأن في رضاهم إنجازاً سياسياً لا غنى عنه.. لا أقل كجزء من تحقيق الاغراض الايديولوجية التي يُنظر للدولة باعتبارها مسؤولة عنها كما يرمي الى ذلك مضمون التحالف التاريخي.

لم يقع تصادم من أي نوع بين أهل الحكم وأهل الدين خلال التجربتين السعوديتين الأولى والثانية، واذا كان هناك من إعتراضات من أحدهما على الآخر فهي لم تصل الى حد التصادم، وربما يعود السبب في ذلك الى أن التجربتين لم تصلا الى مرحلة الانجاز السياسي، أي لم تنتج أي منهما تجربة دولة مستقرة ثابتة، بل كان التهديد والاضطراب يحيطان بكلتيهما من الداخل والخارج مما أجّل فرص ظهور تشققات داخل بنية التحالف الديني السياسي، فالظروف السياسية والعسكرية والاجتماعية لم تكن تسمح بكل ذلك، بل كان المطلوب في ظل تحديات داخلية وخارجية أن يكون الاعتصام بالتحالف والوحدة الداخلية.

في التجربة السعودية الثالثة كان مشروع الدولة واضحاً ومتبلوراً، وكان المناخ الدولي يوفّر فرصة تاريخية لتحقيق مشروع الدولة، في سياق تقسيم التركة العثمانية وإحباط مشروع الدولة العربية بقيادة الشريف حسين، وبهذا تحققت لرجل الحكم مقومات الهيمنة على حساب رجل الدين. فمشروع الدولة كان يتطلب الخضوع لحسابات سياسية دنيوية محضة ولأوضاع دولية تفرض نفسها بشدة اقليمياً وعالمياً. أما المشروع الايديولوجي فكان متمسكاً بثوابته من خلال الاحتفاظ بفورانية حركة الفتح داخلياً وخارجياً، والابقاء على جاهزية جيوش التوحيد من أجل تطهير المناطق المجاورة من الرجس وعبادة الأوثان.

كان غزو السعوديين للكويت ومقاطعتهم الإقتصادية لها في العقد الثاني من القرن العشرين، أول ارتجاج عنيف يدك التحالف الديني السياسي، فقادة الأخوان الساخطين على سياسة ابن سعود بشأن الالتزام بالضرورات السياسية من أجل ضمان قيام الدولة وجدوا انفسهم في حالة تناقض مع مشروع ابن سعود، وقد ذكّروه في لقاء معه في جدة عام 1927 ولسان حالهم يقول ألست أنت الذي كنت ترى في العراق دولة شيعية ولا بد من تطهيرها من الشرك، وألست أنت الذي كنت ترى بأن غزو الجوار واجب ديني، فلماذا تخليت عن كل ذلك؟ بيد أن ابن سعود الفاتح ليس هو ابن سعود رجل الدولة، فهو الآن قد وصل الى مرحلة يجب أن يكف يده عن الاعتداء خارج الحدود الدولية المرسومة من قبل الحاكم البريطاني في الخليج، ولا بد بذلك أن يوفّر شروط نجاح الدولة، يأتي في مقدمتها تبديل الخطاب والانتقال من (مرحلة الفتح) الى (مرحلة الدولة)، إذ لم يعد لشعارات غزو الجوار ونشر الدعوة ووطء بلاد الشرك بخيول جيوش التوحيد مكاناً في النظام الدولي الجديد، فالجنوح نحو تطبيق هذه الشعارات قد يؤدي الى إنهيار الدولة نفسها، فهذه الدولة نشأت بدعم وتأييد ومساعدات مالية وعسكرية مباشرة من بريطانيا بموجب اتفاقيات وشروط ملزمة لابن سعود في احترام المواثيق والحدود الدولية المرسومة، وهو ما يتعارض مع صميم المشروع الدعوي.

ابن سعود لم يكن يحمل مشروعاً دينياً بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكنه بالتأكيد يرى بأن الابقاء على نشاطية وحضور الحليف الديني ضرورة من ضرورات الدولة السعودية. ورغم أنه ناضل من أجل توفير كافة مبررات نجاح مشروعه السياسي، بما في ذلك تلك المتعارضة مع التعاليم الدينية الوهابية، في التعليم والتكنولوجيا والاتصالات وغيرها، الا أنه كان يشدد على دور العلماء والعلاقة الوثيقة بهم وبالعلاقة الحميمية بين الدولة وتعاليم الدين.

لا يبدو أن ثمة إجابة حاسمة يمكن للدولة تقديمها عن سؤال حول دور الدين في الدولة والذي مازال حسمه مؤجلاً لزمن غير معلوم، فأهل الدين في خطابي الفتح والتأسيس كانوا سواء في نظرتهم لدور الدين، لأنهم يرون بأن إنجاز الدولة لا يمثل نهاية مشروع الدعوة بل هو حلقة من حلقاتها، فهذا المشروع عابر للزمان والمكان لا يخضع لظروف السياسة وقوانين الدول ولا المواثيق الدولية، أما أهل الحكم فقد ظلت العلاقة بأهل الدين غير محسومة، فهم، من حيث المبدأ، في مرحلة الفتح قوة تحرير وكتائب في جيش الموحدين الذين على أيديهم تحقق نجاح قيام الدولة، ولكن في مرحلة التأسيس لم يعد بالإمكان توظيف قوتهم في البناء فهم اعتادوا أن يزاولوا مهام الثوار في التغيير والهدم ولكن في مرحلة التأسيس لم يكن بإمكانهم الاضطلاع بدور بنائي، ولذلك تحوّلوا الى قوة كابحة لمشروع الدولة، فقد رفضوا كثيراً من التطورات في الدولة لأنها، في عقيدتهم، متخالفة مع الدين، وكانوا يرون بأن عملية تطهير دائمة لجهاز الدولة جزءا جوهرياً من مشروع الدعوة، فالدولة تصبح عرضة للدنس ما لم تكن خاضعة تحت إشراف العلماء وتوجيهاتهم.

المراوحة التي صبغت سلوك أهل الحكم في التعامل مع أهل الدين في ضبط العلاقة بين الدين والدولة، كانت تصدر عن حسابات سياسية داخلية بدرجة أساسية، ولكن في كل الاحوال ثمة ثابت يراد منه أن يكون حاضراً على الدوام في تلك الحسابات، وهو تأكيد العلاقة بين أهل الحكم وأهل الدين. على أن تكييفاً حاذقاً كان يتم بين أغراض أهل الحكم ومقاصد أهل الدين من أجل تحقيق الموازنة المطلوبة بين كفتي الميزان، ولكن هذه الموازنة ليست محكومة دائماً لاعتبارات واقعية كما هو الحال بالنسبة لأهل الحكم، فهناك اعتبارات شرعية وايديولوجية يفرضها أهل الدين في مجمل مناشط الدولة. فبالرغم من صحة الرأي القائل بأن أهل الدين يخضعون في نهاية الأمر لهيمنة أهل السياسة، ويمثّلون على ذلك بالمؤسسة الدينية مجسّدة في هيئة كبار العلماء ولجنة الافتاء والدعوة والارشاد وجهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فأعضاء هذه المؤسسة يعيّنون من قبل أهل الحكم، ويتسملون منهم رواتبهم وتوجيهاتهم، فهؤلاء الاعضاء يمثلون بالتالي جزءا منضوياً في مشروع الدولة. الا أن ذلك لا يعني خضوعاً تماماً يمنحه أهل الدين لأهل الحكم، فهناك إملاءات أيديولوجية يرفض أهل الدين إخضاعها للمساومات السياسية.

ثمة مفارقة دقيقة بين نزعتين في أدلجة الدولة، فهناك أدلجة متصلة بأداء الدولة، وأجندتها السياسية، وهناك أدلجة متصلة بأهداف يراد من الدولة تحقيقها، أي بأغراض تقع خارج المجال الوظيفي للدولة كدولة ناظمة للمصالح العمومية. فأيديولوجية الدولة غير الدينية تكون غالباً مصممة لتنفيذ برنامج سياسي معين، له علاقة صميمية بالدولة نفسها، فيما تكون الدولة الدينية، كما ينظر اليها أهل الدين، مؤسسة لغرض تطبيق الشريعة وتحقيق المثل الدينية العليا، فالدولة هنا لا تحقق قيمومتها من خلال عقد إجتماعي يمنح أهل الحكم حق تنظيم المصالح العمومية وتعميم المنافع، وبالتالي فإن الإخلال بهذا العقد يفضي تلقائياً الى انكسار تلك القيمومة، بل هي دولة تحقق قيمومتها عبر ما يعرّفه أحد الفلاسفة الفرنسيين (مديونية المعنى) حيث تستعير الدولة قيمومتها من مصادر أخرى تقع خارج مجال العلاقة بين السلطة والرعية، كدعوى التفويض الالهي وتجسيد إرادة السماء على الارض، أو دعوى الحق التاريخي الخاص بعائلة وفئة من البشر تملك الحق السلطاني دون حاجة للحصول على تفويض من الناس.

صحيح أن كافة الدول تسعى لاستعارة معانٍ من خارجها، دينية وتاريخية وفكرية، تماماً كما يظهر في الرجوع المتكرر لدى القيادة السياسية في الولايات المتحدة الى الدين والاحتماء بلغة كنسية والذي يعكس نزوعاً ضارياً داخل الدول الى تعويض النقص في جرعة المشروعية عن طريق الالتصاق بمصادر أخرى غيبية ليس بالامكان الحصول عليها من الناس، سيما حين تفقد الدولة جزءا كبيراً من صدقيتها وتعجز عن تقديم علاجات حاسمة لمشاكل الناخبين.. كل ذلك صحيح، ولكن هذه النزعة تبقى في حدودها الضيقة المتصلة بتبرير سياسات متصلة بالدولة ولا تهدف على الاطلاق الى تحقيق أغراض دينية.

من الناحية الواقعية، أيديولوجية الدولة في بلدان عديدة من الشرق الأوسط تحوّلت الى أداة قهر للمجتمعات، ومصدر تبرير لارتكاب أفدح الاخطاء. ولكن الايديولوجية في بلد مثل السعودية تتخذ طابعاً أشد سطوة فهي تلبس الحق التاريخي والحق الديني في آن واحد، وهذا يفقد الدولة سماتها الحقيقية، وصفتها الرئيسية، وتالياً الوظيفة المنوطة بها، إذ تتحول من جهاز لتنظيم المصالح العمومية الى أداة لتحقيق مآرب خاصة، فهذان الحقان يفوّضان أهل الحكم وأهل الدين باحتكار تمامية مجال الدولة بكامل حمولتها، وتحويلها الى منطقة مسوّرة. فالدولة تصبح منقسمة بين حقين، فلأهل الحكم حق السلطة ولأهل الدين حق الدعوة، فيما لا مجال فيه حينئذ للحديث عن منظومة حقوق وواجبات متبادلة بين الدولة والمجتمع.

إستعادة الدولة لوظيفيتها كدولة مصممة اولاً وأخيراً لتنظيم شؤون الرعية، وادارة المصالح العامة، وتوفير اطارات قانونية لادارة هذه المصالح تتطلب فصلاً حقيقياً بين الدولة والايديولوجيا، دينية كانت او تاريخية أو فكرية، فهذا الفصل لا يقصد منه بحال تخلي الدولة عن مسؤولية حفظ النظام القيمي والمثل الدينية العليا للمجتمع، وإنما فصله عن اطار العلاقة بين السلطة والمجتمع، بما يحفظ للدولة كونها ذات صفة تمثيلية لعموم الفئات المنضوية بداخلها، وبدون ذلك يكون مسار العلاقة بين الدولة والمجتمع مقطوعاً.