عيد ميلاد الدولة السعودية الـ 73

هل يكون آخر الأعياد؟

 ناجي حسن عبد الرزّاق

 عنوان المقالة بقدر ما يحمل من توجّس وخشية من انهيار الدولة السعودية وهي تصل الى نهايتها، تذكّر بمفاتيح الإصلاح الضرورية لإنقاذها. وهذا العنوان مستوحى من كتابات سعودية كثيرة على مواقع الإنترنت، حملت عناوين مقاربة، كلّها تستشعر أن اليوم الوطني الثالث والسبعين قد يكون ـ ضمن حسابات الشارع السعودي ـ وليس نخبه فحسب، العيد الوطني الأخير لكيان إسمه المملكة العربية السعودية. ما هي مبررات هذا الإعتقاد؟ وهل النتيجة حتمية؟

 في الثالث والعشرين من سبتمبر 2003 صادف يوم الذكرى السنوية الثالثة والسبعين لإعلان العربية السعودية كدولة، وهو ما سُمي باليوم الوطني (السعودي). ولكن ما الذي تغير خلال هذه الفترة؟ إن حجم التغير الذي طرأ على خطاب الدولة السعودية وعلى ما يقابله من أفعال إجرائية على الأرض خلال هذه الفترة لا يتناسب مع حجم الأحداث والمتغيرات التي مرّت بها هذه الدولة. ولن نتوغل كثيراً في الماضي، بقدر ما سنستحضر يوم 11 سبتمبر 2001 كحدث غيّر موازين العلاقات الدولية وبدّل المسلمات السياسية بين  الولايات المتحدة وبعض حلفائها الإقليميين. السعودية من أقوى هؤلاء الحلفاء الذين قلّت درجتهم في  الميزان الأمريكي بعد هذا التاريخ. وبنفس الوقت ظل السعوديون متشبثين بهذا التحالف بطريقتهم التقليدية التي عهدوها منذ إبرام إتفاقية الحماية الأمريكية بين الملك عبد العزيز والرئيس الأمريكي ايزنهاور.

هذا التشبث ألغى عملياً الحماية الطبيعية لكيان الدولة المعتمد على القوى الشعبية المعنية بالدرجة الأولى بأمن الوطن ومؤسساته. ولهذا السبب تزداد كل يوم عزلة النظام نتيجة لعدم وجود إرادة شعبية تضطلع بحمايته من جهة، وتزايد الضغوط الأمريكية عليه من جهة أخرى. ومع ذلك، لا يعير هذا النظام حتى الآن أية اهتمام بالمطالب الإصلاحية الشعبية بهدف انتقاء الوقت الذي يعتقده مناسباً للبدء بالتغييرات حتى لا يفقد كثيراً من صلاحياته. إلا أن هذا الانتظار قد وضع البلاد على حافة الهاوية الآن بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي عجز نظام الحكم عن وضع الحلول الإجرائية لها. هذا فضلاً عن تصاعد واستمرار العمليات العسكرية الدموية المؤسفة بين منتهجي العنف وبين المؤسسات الأمنية والعسكرية السعودية، حتى إن أهم مدن البلاد كالرياض وجدة تحولتا إلى ساحات للمعارك.

وفي ظل كل هذا التخبط السعودي في إدارة أزمة البلاد الحالية، نجد النظام، وبمناسبة ذكرى اليوم الوطني، يؤكد بطريقة أو بأخرى على نعمة الأمن والأمان بعد أن كانت الجزيرة ترزح تحت وطأة الحروب القبلية. لم يكن هذا الأمن والأمان إلا أمناً ظاهرياً سطحياً سرعان ما تسرب وبسرعة بعد 11 سبتمبر 2001. ذلك أن أيديولوجيا السيف والسلفية الوهابية لم تتركا لمعظم أبناء الشعب خياراً طوعياً في أن يوحّد نفسه بنفسه في إطار من التعايش السلمي المشترك. لقد أصبح الكثير من أبناء هذا الشعب يعتقد بأن ما يُسمى رسمياً (المملكة العربية السعودية) ليس إلا وطناً للأقلية من العائلة الحاكمة السعودية والنخبة الوهابية وبعض التكنوقراط المتسعودين المستفيدين من استمرار احتكار السلطة. أما الباقي فلا يجد في هذا الوطن إلا الضيم والقهر ومصادرة الحريات والحرمان من ثروته، إلخ.

 إن النزعات الانفصالية عن المركز النجدي لم تأتِ عبثاً، وإنما نتيجة لكل الظلم التاريخي الذي مارسته العائلة الحاكمة والأقلية الوهابية السلفية ضد أكثرية السكان. وبدلاً من أن تتضاءل رغبات الانفصال في الذكرى الثالثة والسبعين لليوم الوطني، يجدها البعض في مناطق مختلفة حلاً لمأزق النظام والدولة والمجتمع.

لقد فشلت خطط التنمية السعودية في تشجيع إندماج المناطق فيما بينها إندماجاً اختيارياً تكاملياً في وحدة غير مركزية التوجه. حتى أن البعض يعتقد بأن الوحدة القائمة اليوم لا تعدو أن تكون قشرة قد تنهار في أية لحظة إذا لم تُجرَ إصلاحات جدية تؤمّن التلاقي الحقيقي بين أفراد الشعب على أساس من المساواة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولكن هل تشير إجراءات العائلة الحاكمة إلى إمكانية تجنب لحظة الانهيار المحتملة؟ ليس هناك ما يشير إلى جدية الأمراء في إجراء إصلاحات تجنب البلاد الكارثة. بل على العكس من ذلك، لقد دخلت البلاد في دائرة العنف والعنف المضاد بحلول هذه الذكرى وزادت المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في الوقت الذي ينمو فيه عدد السكان بشكل مخيف.

كانت ممارسات السلطة السعودية تعمد الى مراكمة ـ وليس حل ـ المشاكل وتأجيج الأحقاد والكراهيات القبلية والطائفية والمناطقية. وكان ذلك التفتيت للنسيج الإجتماعي الداخلي بمثابة تأمين لنظام الحكم من وحدة شارع قد يفيق فيطالب بإصلاحات لا تريدها النخبة الحاكمة. كانت الشروخ الإجتماعية ضرورة لإحداث شروخ مشابهة في بنيان حركة المعارضة التي اتهمت أعضاؤها مرة بالانحراف الأيديولوجي الهدام، وأخرى بالانحراف المذهبي الكفري. لقد تمّت تغذية وتنمية تلك الأحقاد والكراهيات عبر وسائل الإعلام ومناهج الدراسة حتى ترعرعت داخل البلاد وخارجها جماعات تؤمن بالقتل باسم الإسلام. وأصبحت البلاد مهددة بنزعات طائفية وقبلية ومناطقية تدفع نحو التشرذم والتجزئة. وحتى الآن، هناك إصرار على نهج السلفية الوهابية كداعم أيديولوجي أساسي للحكم برغم الانزلاقات الخطيرة التي تمر بها البلاد بسبب هذا الدعم.

ففي مضامين المقابلة التي أجرتها جريدة الوطن مع وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في 20 – 21 / 9 / 2003 تأكيد صريح على رغبة النظام في إبقاء المؤسسة الدينية الرسمية بطبيعتها الحالية دونما تغيير لتكون داعما أساسيا للحكم، وهو ما يعني استمرار للتحالف القديم بين العائلة المالكة والحركة السلفية الوهابية التي أوصلت البلاد الى مزالق الفتنة والعنف والتفتيت. إن التأكيد على أولوية خيار الفهم الوهابي للإسلام، بل ووضع المشاريع الوطنية لمكافحة ورد الغلو في المملكة وفق هذا الخيار، هو فعل انتحاري وقاتل للوحدة الوطنية في المستقبل. لأن مثل هذا الخيار، ورغم كل التصدعات الداخلية التي تحدث الآن في البلاد، لا يزال يُنكر ـ في بُنيته الفكرية ـ على المذاهب الإسلامية الأخرى حق الوجود كذات مستقلة عن النظرة العقائدية السلفية الرسمية وضمن نطاق الوطن الواحد. بل المطلوب من هذه المذاهب لضمان وحدة الكيان السعودي في محتواه الديني الوهابي هو أن ينصهر  (الجميع في إطار الدولة وخدمة المصالح الواحدة)، كما يقول الوزير.

إن الفلسفة تتجه لا نحو التعدد، وإنما التوحّد، في الأفكار والأنشطة، وصهرها في الإتجاه الرسمي القائم، حيث يشدد الوزير على وجوب (توحيد الموجود، مثل الأنشطة الثقافية والأدبية وغيرها) وليس من حق المواطن أن ينشيء مؤسسة تقوم على توجه ثقافي فكري مختلف، تحت دعوى أن (من حق كل مواطن أن يشارك في أي نشاط وفي أية جمعية أو مؤسسة قائمة حالياً بصرف النظر عن توجهه). فالجميع من أي مذهب كان يشارك بصفته المواطنية التي يجب أن تبقى تحت الرعاية الدينية الوهابية وتحت عنوان الوسطية. أما أن يعبر كل مذهب أو كل توجه أيديولوجي عن نفسه ووجوده فمدعاة للتفرّق والتشتت كما يعتقد الوزير. ولكن على ما يظهر أن الوزير وكامل الجهاز الرسمي السعودي قد تغافلوا عن أن السلفية الوهابية التي يعتمدها الوزير في ردوده أثناء هذه المقابلة لا تزال تحتكر وحدها فهم النصوص الدينية، فتصنع منها الرؤية الدينية لكل أفراد الشعب بصرف النظر عن إنتماءاتهم المذهبية أو الأيديولوجية. إن الغلو الذي يحاول الوزير نفيه عن السلفية الوهابية تحت مفهوم الوسطية وإنكار الغلو هو ذاته الذي رعى ونمّى الأفكار المتطرفة والعنفية لدى منْ يصفونهم اليوم بالإرهابيين (حركات العنف السعودية). 

إن معضلة أيديولوجيا الدولة السعودية الثالثة السلفية الوهابية بعد ثلاث وسبعين عاماً لا تزال تراوح مكانها. فهذه الأيديولوجيا لا تزال تراهن على السلف كخطاب متَضمَّن في خطاب تحديثي مرتبك غير قادر على وضع أركان الدولة العصرية بمقاييسها أساسات المجتمع المدني. النظام الحاكم ومؤسسته الدينية يصرّان على أن التحديث والتحول إلى عصر المجتمع المدني يتم من خلال الفهم السلفي الوهابي. ويزعمون بأنهم يطورون الخطاب السلفي من أجل أن يستوعب التحولات المدنية في السياسة والاقتصاد والاجتماع. إن المراهنة على مثل هذه المزاوجة الغريبة والتي فشلت خلال قرن كامل، والمتشبثة بمفاهيم الماضي الصحراوية، والمتغولة بفعل احتكار السلطة السياسية والدينية، لن تغير من الحقيقة شيئاً. وهي الحقيقة التي تؤكد على أن الدولة السعودية عاجزة عن الدفاع نفسها أمام الرأي العام العالمي الذي يدينها في منظومتها الدينية المؤسَّسة على العقيدة الوهابية ذات الصيت المنبوذ والموسوم بالإرهاب.

إن وزير الأوقاف السعودي أو غيره من الوزراء الذين تحولوا إلى جهاز دعائي متخلف لن يغيروا حقيقة أن نهج المملكة في الحكم شمولي ومهترئ ومتهاوي ويسعى بكل جهده إلى الإمساك بأطرافه حتى لا تتمزق لكيانات منفصلة بسبب الفساد والبطالة واختلال الأمن والصراع الداخلي وسرقة المال العام وتشبث الأمراء بمواقعهم وامتيازاتهم.

إن بقاء الدولة السعودية الثالثة مرهون بقدرتها على تجاوز أزمتها الحالية لا على أساس إعادة إنتاج ذاتها بإجراءات تقليدية قائمة على القناعة باستراتيجية الحماية الخارجية أياً كان شكلها أو مصدرها، ولا على أساس استراتيجية تأجيل الحلول، بل على أساس إجراءات وطنية قائمة على القناعة باستراتيجية الحماية الشعبية، وهذا يستلزم التخلص من أهم معوقات الإصلاح الوطني، وهو المؤسسة الدينية كراع وحيد لصناعة الرأي الديني الداخلي، والبدء الفوري الجدّي بالإصلاحات التي تتبناها قوى الإصلاح المختلفة في البلاد بهدف ضمان إشراك الشعب في حماية بلاده ومؤسساتها من أية إعتداءات وتهديدات داخلية وخارجية.