الحركة الإنفصالية في السعودية

التميّز الثقافي والأسنان السياسيّة

 

د. خالد الرشيد

 

يجب الإعتراف ابتداءاً بأن قمع التعبير عن الهويات الفرعية، يعزّز الإنفصال ولا يمنعه، بعكس ما يعتقده المسؤولون السعوديون وحلفاؤهم الدينيون. كما أن تسويد هوية فرعية وجعلها هوية وطنية، يختصر المسافة نحو الإنفصال، ويعطي الدعوات الثقافية الإعتيادية أسناناً سياسية قابلة للإستخدام في معركة تشطير المملكة وتفتيتها.

يرى رالف برمداس، في بحثه عن طبيعة (الحركة الإنفصالية) والذي حمل عنوان (Secessionist Movements in Comparative Perspective) والمنشور في لندن عام 1990، أن الحركة التي تسعى للحصول على اعتراف بقيمها الثقافية، دون أن تستهدف إنفصالاً مناطقياً، بأنها حركة غير انفصالية. وكذلك شأن الحركة التي تسعى الى تمييز مناطقي بينها وبين الأقاليم المكونة بحيث تكون الحدود الأرضية مميّزة حادّة الوضوح، بحيث يكون الإنفصال على مستوى الأرض أو حسب ما اصطلح عليه بـ Separate Territory مؤكداً عليه، ولكن هذه الحركة صاحبة هذا النوع من الدعوات إذا لم تستهدف حكماً مستقلاً، فإنها أيضاً لا تعدّ حركة انفصالية من وجهة نظر المؤلف.

الحركة الإنفصالية حسب رالف برمداس، تتميّز عن غيرها بأنها حركة تقوم على النضال المنظم، وقد تجد منافساً لها ضمن إقليمها في تمثيل (روح الجماعة)، وهي حركة تميل في الغالبة الى التعصب، وكلما كان النضال طويلاً تراكم المخزون الثقافي والإسطوري  لتصبح مادة إضافية في سبيل تحقيق مطالبها. كما تتميز الحركة الإنفصالية من جهة استهدافها تأكيد الحدود بينها وبين الآخرين على مختلف المستويات السياسية والثقافية، أي رسم الحدود بين شعبها وباقي السكان الذين ينضوون تحت سلطة مركزية واحدة.

فتأكيد مبدأ (نحن ـ هم) على أسس ثقافية أو عرقية أو دينية أو قبلية يستتبعه في الغالب إقحام عامل (الأرض ـ الإقليم) الذي تقيم عليه الحركة الإنفصالية من أجل المطالبة بالحكم الذاتي. وهنا تدور التساؤلات حول حجم السلطة التي يمكن ان تتمتع بها المناطق والأقاليم، وهل تكون تلبية المطالب المناطقية حلاً استباقياً ومانعاً لمطالب الإنسلاخ والتقسيم (كما في سكوتلاندا وويلر ببريطانيا) أم هي مقدّمة لإستقواء الحركة الإنفصالية لتصل الى هدف الإستقلال التام؟.

يرى برمداس أن (الحد الأدنى) من الإستقلال الذي يجب أن تتمتع به المناطق يتمحور حول (الشؤون الثقافية والشؤون المحلية).. فالحفاظ على تميّز المناطق والأقاليم ثقافياً مهم وإن مجابهة الدولة لهذه الخصائص يعدّ بمثابة المذبحة الثقافية ـ حسب تعبيره. كما أن منح المناطق سلطة إدارة شؤونها المحلية والبلدية، هو الثمن الذي تدفعه الحكومات لسحب فتائل النزعات الإنفصالية، وبدونه لا يوجد إغراء آخر يمكنه الحدّ من التطلّع نحو الإنفصالية.

وحين يصبح كلّ من (الشعب) المستهدف بالحركة الإنفصالية وكذلك (الإقليم) المراد فصله وتفكيكه عن الدولة، مميّزين بما فيه الكفاية وقابلين للإنفصال، تأتي المطالبة بالإستقلال، مستمدّة قوتها وفاعليتها من استكمال شخصيتي الإقليم والمجتمع، ونضجهما لقيام حكم مستقلّ فيهما.

بيد أن (الحق في الإنفصال) اعتماداً على مبدأ (الحق المقدس في تقرير المصير) قابلٌ للنقاش، فالدولة ـ من وجهة نظره ـ لها حق مقدّس معاكس يخولها حق المحافظة على سيادتها ووحدة أراضيها وفق قوانين الأمم المتحدة ومواثيقها. فالحركات الإنفصالية تؤكد حقها في تقرير المصير كحق إلهي وطبيعي. ولكن هذا المبدأ لا يُعترف به ضمن إطلاق واسع، وإلاّ لقامت دولٌ إنفصالية كثيرة في كل بلدان العالم.

وأخيراً يعتقد برمداس أن الإنتماءات الطبيعية (الفطرية) إضافة إلى عوامل ثانوية تسهّل وتيسّر الإنفصال، ليست عوامل الدين واللغة والأصل إلا إنتماءات مدّعاة وليست أصيلة حسب برمداس. ولكن العوامل الأخرى تكتسب أهمية بالغة بالنسبة للحركة الإنفصالية، وهي: تعرّض الجماعة الأثنية الى التمييز، أو التجاهل، أو القمع، أو السيطرة. فهذه العوامل تزيد من زخم الحركة الإنفصالية، وهي بالتآزر مع العوامل الفطرية يمكن الإنطلاق منها نحو المطالبة بالإنفصال.

 

حفظ الهويّات أم حركات إنفصال؟

 

ما قامت المملكة إلاّ على أنقاض الخصوصيات المناطقية والإقليمية والمذهبية في المناطق المفتوحة، وأبقت خصوصية مناطقية واحدة مذهبية وسياسية في نجد لتسود الباقيات، ولكن الخصوصية المفروضة السيّدة كانت من حيث الحجم أقلّ إغراءاً وقدرة على استيعاب وامتصاص التعدد. ولقد كان النضال السياسي في وجه منه يحمل خاصية ثقافية، فالأحادية المذهبية والثقافية والمناطقية التي صبغت المملكة منذ نشأتها ما كانت إلا أن تفرز ما أفرزته اليوم: سقوط في وحل التطرف والعنف، واستبداد سياسي طاغٍ بمقاييس الدول المحافظة المشابهة في الخليج، وعجز شامل في إصلاح ما فسد، ونزعات طاغية تبحث عن متنفس للتعبير عن نفسها.

بعد نحو قرن اكتشف البعض أن المملكة متعددة ثقافياً! وأن فيها شيعة إثنا عشرية، وإسماعيلية، وفيها كل المذاهب السنيّة، والزيدية، والصوفية، وبالتالي لم تكن الوهابية إلاّ الغطاء المذهبي المفروض على الجميع. بعد هذه المدة تمّ الإعتراف بـ (وجود) هؤلاء جميعاً، دون أن يسمح لهم بحقّ التعبير القانوني عن خصوصياتهم الثقافية والدينية.

كل الجماعات السياسية والإجتماعية في المملكة، تبدأ مطالبها بحفظ الهويّة إن كانت لجماعة مناطقية أو قبلية أو مذهبية، وحفظ الخصائص الثقافية وإعطاءها الفرصة للتعبير عن ذاتها في محيط آمن، بعد عقود من القمع المستديم الذي عمّقها ما تحت السطح ومنعها قانون فوقياً لا فائدة منه. هذا الإعتراف بشرعنة التعبير ـ وليس مجرد الوجود ـ مرفوض حتى الآن من معظم النخبة الوهابية الدينية، القليل قبل على مضض الإعتراف بوجود المختلف، ولم يقبل حتى الآن بشرعنة عبادته ضمن الإطار الديني، أو حتى الإطار القانوني للدولة نفسها.

وإذا كانت الخصائص المناطقية عموماً أوسع من أن تكون مذهبية بحتة، فإن كل المناطق في المملكة تتحدث عن القمع العمودي ضد الهويات الخاصة ـ أو الفرعية. وحتى الآن، هناك ضعف في التمييز بين المطالب الثقافية والمطالب السياسية، أي بين المطالب المتعلّقة بالهوية: اللباس الخاص، والمعتقد الخاص، واللهجة، والعادات، والفلوكلور وغيره، وبين المطالب المتعلقة بالسياسة: الحكم الذاتي، الإنفصال، تسليم الإدارة المحلية لأبناء المناطق، أو العدل في تحصيص السلطتين السياسية والإقتصادية.. الخ.

حين تبرز ظاهرة حجازية باتجاه تعزيز الزيّ الحجازي، يستشفّ ممثلو النخبة المناطقية الحاكمة من ذلك أن النزعة الحجازية بدأت بالتصاعد. وحين تتزايد المناسبات الدينية في الحجاز وفي المنطقة الشرقية، ويتزايد الإصرار عليها، كالموالد، والإحتفالات الدينية، تشير أصابع الإتهام فتربط بين الممارسة الدينية المختلفة للآخر وبين رغبته في الإنفصال بمنطقته عن الدولة القائمة. بل حتى التواصل الطبيعي بين البشر المختلفين سواء كان اقتصادياً أو علمياً أو ثقافياً يمكن أن يتحول ـ بسبب الحساسية الفائقة لدى محتكري السلطة ـ الى تآمر وإدانة وتخطيط أجنبي لتمزيق الوحدة السياسية القائمة!

وللحق فإنه ينبغي التمييز بين هدفين متلاحقين:

1) تحقيق الذات من خلال التعبيرات عن الهوية الخاصة، وهذا شأن ثقافي في المجمل، قد يفسد إن تمّ التعاطي معه بحسابات سياسية صارمة. وان منع التعبيرات الخاصة قد يكون نابعاً من خشية سياسية، ولكنه يؤدي في المحصلة الى أزمة سياسية ولا يحلّ أيّ منها. وفي الغالب فإن منع الهويات الخاصة من التمظهر على السطح لا يعني اختفاؤها، بل هي تمارس تحت الأرض الى أن يأتي الوقت لكي تعلن عن نفسها في حالة تحدّ صارخة. وجدنا أمثلة فاقعة لها في المنطقة الشرقية بين الشيعة، حيث المبالغة أحياناً في استظهار الهوية الخاصة إعلاناً للتحدّي وكسراً للعرف الرسمي القائم على المنع والإنكار والسخرية. كذلك فإن الكثير من الممارسات الدينية واحتفالات استنطاق الهوية في الحجاز والتي كانت تجري تحت الأرض استعلنت على نحو مكشوف.

ومع أنه لا ينكر أبداً بأن قمع الهويات الخاصة في المملكة جاء على خلفية سياسية، ولتحقيق أهداف سياسية بالدرجة الأولى، أقلّها إضعاف الخصم وإفقاده أدوات المقاومة للسياسات الدونية التي اتبعتها الفئة الغالبة؛ وأعلاها، تعزيز وحدة الجماعة المنتصرة وشحذها بعناصر التغليب والتمكين والإستئثار.. رغم هذا، فإن الربط السياسي القوي بين استعلان الهوية ـ غير النجدية وغير الوهابية ـ وبين العداء للدولة، أو محاولة الإطاحة بنظام الحكم، أو التآمر لتقسيم الدولة ـ وهو الهاجس المتأصّل لدى النخبة الحاكمة، يجعل من صراع الهويّات الفرعية بين بعضها البعض أمراً مستحكماً، كما ويجعل من استظهار هوية وطنيّة مشروعاً حالماً غير قابل للتحقيق.

إن قمع التعبير عن الهويات الفرعية في الشرق والغرب والشمال والجنوب، عدا المركز بالطبع، لم يكن خدمة لهوية وطنية بقدر ما كان خشية من إضعاف الهوية المفروضة المناطقية، وبالتالي إضعاف الفئوية الحاكمة، ديناً وسياسة.

ومن هنا، أدّى منع التعبيرات الذاتية بشكل قانوني الى مشكلتين أساسيتين: الأولى، تغوّل الهويّة النجديّة بكل خصائصها المذهبية والمناطقية، الى حدّ عدوانها على الهويات الأخرى واحتقارها لها. والثانية، احتلال (الهوية الفرعية النجدية) مقعد (الهوية الوطنية) التي لا معالم ظاهرة لها ولا خصائص مدعّمة تثبت وجودها وحضورها. وفوق هذا كله، لم يؤدّ التنكّر للهويات الفرعية الأخرى الى عدم حضورها أو ممارستها، بل قد يكون حرمانها من الظهور أدى الى التشبّث بها وتعميقها.

2) بعد أن أوصدت الدولة والمذهب الرسمي الأبواب أمام استعلان الهويات الفرعية، وتأطيرها وطنياً، وقطع النتوءات التي يمكن أن تفرزها الممارسات، وجد الطرفان نفسيهما أمام واقع غير طبيعي. فما يخشى منه حقيقة اليوم، هو (تسييس) الممارسات الثقافية وليس القبول بممارستها وحتى استعلانها. الخطر أن تؤدي تلك الممارسة ـ من وجهة نظر النخبة الحاكمة ـ الى أبعد من أغراضها النفسية او الروحية للأفراد، فالتعبير عن الذات والهوية يستجلبان بلا شك مشاعر الرضا الداخلي، والألفة والسلام في المحيط العام. ولكن لأن ذلك التعبير لم يأت وفق رضا الدولة ولا برغبة منها، ولا من حليفها الديني، وإنّما جرى انتزاعه في صراع عنيف مستمر منذ عقود، ويجري التعبير عنه اليوم في ظرف سياسي معقد وعصيب يهدد الدولة السعودية بالإنفلاش والتفتت.. لهذا، هناك زاوية قد تبدو صحيحة، بأن الوضع في المملكة قد تخطّى مرحلة المطالبة بالتعبير عن الهوية الفرعية ـ فهذا قد كسر فعلاً ـ الى مرحلة المطالبة بتأطير ذلك التعبير سياسياً، على نحو تتعايش فيه الهويات جميعاً على أن تُبنى في الوقت نفسه أُسس الهوية الوطنية الجامعة.

إن المطالب التي تطرح اليوم، والتي تشير الى الهوية، وذلك في ثنايا الحديث عن ضرورة القبول بالتعددية الثقافية في المجتمع السعودي، تحمل الى السطح أسئلة ذات أهمية: فشئنا أم أبينا، فإن كل ممارسة الهويات الفرعية، بما فيها الممارسة النجدية الثقافية والوهابية الدينية، تعمل كلها باتجاه معاكس لمصلحة الدولة وبقائها.

قد نكون على مشارف انفجار للهويات المخنوقة، لا يفيد معه الإستمرار في منعها من التعبير. بل لم يعد ذلك المنع ممكناً، فقد انهارت السدود. ومادام قد تمّ ربط ممارسة التعبير عن الهوية ـ وبشكل مبكر ـ بالعداء للدولة والنظام السياسي بل والنظام القيمي المفروض.. فهل التأطير للهويات الممنوعة رسمياً أمرٌ ممكن، وذلك عبر حصر دورها في الحدود (الأدنى) حسب برمداس في ممارسة الحكم المحلي، بدل أن تتجه المشاعر الى الإنفصال عن الدولة كلية؟

ما نشهده اليوم كأنه يشير الى وجود حركات إنفصالية (أو لنقل دعوات انفصالية) تدفعها مشاعر السخط من قمع الهوية الخاصة الى التعبير عنها بشكل متحدّ. ولكن الأهداف السياسية الغائبة الحاضرة هي ما يهمنا. فهل النزعات الإنفصالية التي قد تكون وراءها حركات انفصالية ـ من نوع ما ـ تقبل بالحفاظ على خصوصيتها الثقافية، فحسب؟ أم يكفيها إدارة شؤونها المحليّة، إي أن تدير مناطقها عبر مجالس المناطق، وإبعاد الأمراء كلية عنها؟ أم هي تريد محاصصة في السلطة على مستوى أعلى؟ أم أن كل هذا لا يعنيها أو لا يمكنها أن تحققه، لذا تختصر الطريق بالمطالبة بإعادة السعودية الى مكوناتها التاريخية: إمارات ودول مستقلة؟!

 

مسؤولية الدولة في تنمية الدعوات الإنفصالية

 

لقد نمّت الدولة النزعات الإنفصالية بوسائل مختلفة: بانحيازها لهوية فرعية، وبتعميد تلك الهوية كهوية وطنية، وبالمبالغة في إخماد الأصوات المتنوعة المختلفة من أن تعبّر عن نفسها. وفوق هذا فإنها أخطأت حين احتكرت السلطة السياسية ولم تدخل عليها أية إصلاحات، مثلما لم يتغير شيء بشأن المذهبية والمناطقية والفئوية الحاكمة.

ولو أتينا الى مفردات رالف برمداس، والتي وضعها كعوامل ثانوية تنطلق منها قواعد الحركة الإنفصالية وتبني عليها، فهي كالتالي: التمييز، التجاهل، القمع، السيطرة! وهي كلها عوامل متوفرة ـ بل شائعة ـ في البيئة السياسية السعودية منذ قيام الدولة.

عدا فترة العامين الأخيرة، التي كثرت فيها الدعوات الى المساواة والمواطنة، في مقالات الصحف وحتى في بعض تصريحات وتلميحات المسؤولين.. لم تكن المساواة مقبولة مطلقاً، ليس على أساس ديني/ مذهبي فقط، أي بدعوة من رموز المذهب الرسمي وعلى أساس حرمة المساواة بين المواطنين الكفار: الشيعة والحجازيين وغيرهم وبين المسلمين الموحدين أهل نجد. ليس هذا فحسب، فالطاقم الحاكم لم يكن يؤمن بالمساواة، يدلنا على ذلك أن مواطنين تقدموا بعشرات الدعوات في عرائض تمتد من منتصف الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي وحتى اليوم تسأل المساواة وتدعوا لها، فلا يرد عليها أحدٌ من المسؤولين أصلاً. الآن فحسب، تظهر إشارات ـ وحتى الآن لا تعدو كونها مزاعم ـ بأن هناك استعداداً لأن يكون المواطنون متساوين، على أسس المواطنة ومستحقاتها وواجباتها وليس على أسس قبلية أو دينية أو مناطقية.

لكن التمييز الذي تعرضت له كل القوى الإجتماعية غير النجدية منذ أن قامت الدولة، سواء على صعيد ثقافي عام أو ديني أو اقتصادي أو سياسي أو مصلحي أنّى كان.. هذا التمييز الذي استطال زمانياً ومكانياً وعمقاً، أضعف ارتباطها بالدولة، كما جعلها زاهدة في نظام الحكم، على الأقل على صعيد المشاعر، وأصبح التمثيل الفئوي للعائلة المالكة واحدة من المخاطر التي لا يعلم كيف يمكن حتى اليوم التغلّب عليها. التمييز يؤدي الى العزل والإقصاء، كما يؤدي الى الحرمان والتفاضل في الحصول على منافع التنمية. لقد طارت الطيور بأرزاقها، ولم يعد البقاء ضمن الوحدة القائمة يحمل ـ بالضرورة ـ منافع اقتصادية منظورة، بل قد تُحسب عكس ذلك! لكن من الضروري التنبّه الى أن التمييز الطائفي والمناطقي والقبلي وغيره لازال مستمراً، بتعميمات من رؤوس الدولة أنفسهم، وأصبح عصيّاً على الإقتلاع بعد أن تجذّر في نفوس القابضين على السلطة والمواقع الرسمية العليا والوسيطة. ولهذا، فإن الضرر قد وقع، ومشاعر الخيبة تجاه الدولة والحكومة حادّة، لا يغيّر فيها كثيراً الإستجابة للمطالب العامة بإيقاف التمييز كما طالبت به وثيقة الرؤية ووثيقة الشراكة (الشيعية) وكذلك وثيقة (الإسماعيليين).

تتغذى مشاعر الإنفصال على ممارسات الحكومة التمييزية في تعاملها مع مواطنيها. ولربما لا شيء يقنع بالإقلاع عن هذه السياسة المستديمة إلا ممارسة نقيضها فيما يعرف اليوم: بالتمييز الإيجابي. أي معاكسة السياسة القديمة لتعديل الحصص في المنافع كافة، ورفع مستوى المناطق الفقيرة والمحرومة وتقليص الفجوة بينها وبين نظيراتها.

التجاهل.. القمع.. السيطرة! ثلاث مفردات أخرى تحوي مخزوناً هائلاً من التشطير. التجاهل للجماعات المختلفة نابع من احتقار لهم ولثقافتهم وفيه إظهار لتفاهتهم أو عدم أهميتهم واستضعافهم دونما خوف من النتائج. وهذا النوع من المشاعر تجده عن أتباع المذهب الرسمي أكثر مما لدى السياسيين. فالأخيرون يبالغون في القمع لا بدوافع الخوف من الضحايا بقدر ما هي دوافع الإستهانة بهم: بكرامتهم وبأعراضهم وبدمائهم. وتحكي قصص سجون السياسيين نماذج معبّرة عن هذه المشاعر. أما السيطرة Hegemony فتتطلب مشاعر تسود المسيطر بأنه الأقوى والأعلم وأن ثقافته أكثر طهراً وسلامة ونقاءً، وأن المخالف القابع قباله يستحق القمع والسيطرة والتجاهل والحرمان من الحقوق، وقد تبلغ بالكثير منهم مشاعر تَحَقُّقْ (الإستخلاف الإلهي) لهم ضد الجماعات الأخرى. وحين تبلغ السيطرة مداها وفي كل أوجهها، تدخل الجماعات المقموعة ـ كما حدث في المملكة منذ السبعينيات ـ وبصورة تلقائية الى المناطق المحظورة في التفكير، حتى وإن كان هنالك عقلاً طارداً للأفكار (الهدّامة!) وفي مقدمتها الإنفصال.

الإنفصال، يعني فقدان الأمل في الإصلاح.

والإنفصال يعني الإعتقاد باستحالة التعايش.

والإنفصال تعبير عن الإختلاف الصاعق في الرؤى والتصورات والمصالح والتمثيل بين القاعدة والقيادة.

في الحجاز كنتَ تسمع من بعض النخب بأن التقسيم حاصل لا محالة إذا ما انتهت أموال النفط وتعطل المشروع الإقتصادي! وفي الشرقية ومنذ عشر سنوات على الأقل كان هناك من يفتح باب الجدل على هذا النحو: إذا كنا لا نستطيع أن نتحمل الظلم المذهبي والتمييز الطائفي من الدولة ومؤسستها الدينية، وإذا كنا غير قادرين على تغيير النظام السياسي أو إقناعه بأن سياسته الدينية غير صحيحة.. فليس أمامنا ـ والحال هذه ـ إلاّ أن نطالب بالإنفصال!

كانت وجهة نظر لينين أن الجمهوريات السوفياتية يحق لها الإنفصال، فما بينها من إتحاد عبّر عنه بعقد زواج يستطيع أي من الطرفين (الجمهورية ـ أو السلطة المركزية) فسخه، وإن كان أي من الطرفين لا يتمنّى وصول الحال الى الطلاق! طلاق الأفراد كما طلاق الجماعات يتسبب فيه الظلم والإعتداء وغياب العدالة وتفضيل وسائل القهر والسيطرة والإبتزاز والحرمان من الحقوق وعدم الإحترام وغير ذلك. وكلما طالت المدة على هذه الممارسات، فإن القناعة باحتمال أن يقوم الطرف المضطهِد بتغييرها تتضاءل، كما تتضاءل معه فرص القدرة على الإستمرار والتعايش، ونحسب أن الأوضاع في المملكة وصلت الى هذا المنحدر المأساوي.

 

كيف يمكن منع التوجّه الإنفصالي؟

 

يبدو أن جذر المشكلة في السعودية لها وجه واضح هو أن (الدولة السعودية لم تصبح دولة) بالفعل! بمعنى أن الدولة لا تمارس عمل الدولة من جهة سياديتها ـ ليس على الأرض فهذا تقوم به ـ وإنما على مواطنيها جميعاً. فهناك مواطنون فوق مستوى المساءلة، وينالون حقوقاً إضافية، يمكن اعتبارهم مواطنون درجة أولى. وهناك في المقابل مواطنون تجحف حقوقهم الأولية التي يفترض أن الدولة أول من يلتزم بها. فالدولة التي لا تتعامل مع مواطنيها بسواسية، هي دولة تخرق وتدمر أساسيات وجودها، ومؤسسات الدولة ووزاراتها وجهازها البيروقراطي العريض إن فشل في تقديم خدمة عامة للمواطن أنّى كان منبته، فإنه لا يبقي للدولة من مكان في نفوس المواطنين، حيث تصبح الدولة شأناً خاصاً ومنفعة خاصة بالبعض دون الآخر. سيعيد لنا المسؤولون معزوفتهم المسجلة على اسطوانة مشروخة والتي تفيد بأنهم والحكومة لا يميزون بين مواطنيهم! وهذا الإدعاء لا يفيد في حفظ الدولة نفسها، إن كان المواطن لا يعتقد بصدق الدولة فيما تدعيه. فالأولى الإعتراف بالمصيبة ومعالجتها، فالإنكار لا يقدم خدمة لأحد في هذه الظروف البائسة.

لا تتعاطى الدولة السعودية مع مواطنيها على أساس مفاهيم الدولة الحديثة، أي مفاهيم الدولة القطرية ـ الوطنية. وينطبق ذات الأمر في تعاطيها مع ثنائية الدين والدولة، فالدين بطبعته الوهابية يملي على الدولة تبنّي مفاهيم تنسف أسسها (رفضها المساواة بين المواطنين، ورفضها حرية التعبير عن الهوية، ورفضها إعطاء المواطن حقاً في صناعة القرار، كأمثلة) حتى أن موضوع سيادة الدولة صار ناقصاً، يعبّر عن ذلك دائماً التساؤل الذي يطرحه المواطنون: لماذا تصمت الدولة أمام تعدّي الجهات الدينية على حقوقهم؟ لماذا أصبحت الدولة رهينة المؤسسة الدينية؟ لماذا لا تقوم الدولة بمعارضة رجال الدين في المجالات التي تخرق حواجز الوحدة الوطنية وتتجاوز حدود واقع التعددية الثقافية في البلاد؟

سيادة الدولة ناقصة في شموليتها من جهة مواطنيها، ومن جهة المؤسسة الدينية نفسها. وهذان العاملان كبلاها بقيود ومفاهيم، ومن ثمّ ممارسات جعلتها غير قادرة على الإيفاء بمتطلباتها كدولة تسود، حتى أن العجز يبدو واضحاً لدى صانع القرار السعودي، منتظراً الفتيا الدينية في مسائل هي من صميم مسؤوليات رجل الدولة؛ خاصة إذا ما لحظنا أن المؤسسة الدينية لا تزال تعيش عصر ما قبل قيام الدولة، في التفكير والتخطيط والرؤية للمصالح والمفاسد. نحن لانزال نعيش مرحلة الإقتتال الداخلي الذي ظهر في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، والمؤسسة الدينية ترى أن الدين صنع الدولة ليستخدمها في خدمة أغراضه الدعوية، في حين أن الأمراء السعوديين لم ينفوا هذا الأمر، ووافقوهم عليه بدل أن يجعلوا من الدين وسيلة لخدمة الرعيّة وفق متطلبات ومفاهيم الدولة القطرية التي تعيش عالماً مختلفاً تقيدها بذلك مواثيق ومعاهدات دولية، لا ترى المؤسسة الدينية لها أية قيمة، بل لا تنظر إلى الإنتماء إليها إلا على أساس أنها تنازلات دينية، كالإنضمام الى المنظمات العربية والدولية والإسلامية: الإمم المتحدة، الجامعة العربية، مجلس التعاون الخليج، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، محكمة العدل الدولية، مواثيق حقوق الإنسان، وغيرها.

عودة على بدء، مشكلتنا أن الدولة السعودية يجب أن تصبح دولة فعلاً! فتمارس مهمات الدولة وتتقيّد ـ حفاظاً على بقائها وعلى مصالح مواطنيها جميعاً ـ بمفاهيم سياسية أولية، لها علاقة بالسيادة وبالمساواة وبالمواطنة. ربما كان تأرجح الدولة بين ممارسات مسؤولياتها المخوّلة لها وفق المواثيق الدولية، وبين مشاركة المؤسسة الدينية لها في السيادة وفرض المفاهيم الخاصة على العامّة، هو الذي أدّى الى إضعاف الدين بطبعته الوهابية، والدولة بطبعتها السعودية، وهو الذي جعل الدولة السعودية ذات خصائص (مزعومة) مختلفة عن نظيراتها، لأنها في الأصل لم تلتزم بتلك الأصول، وجعلت مسؤولي الدولة مجرد ملاك لأرض بلا شعب (أمّة ـ بمعناها القطري) يشجعها في ذلك الرؤية السلفية للمواطن ومحدودية حقوقه المادية والمعنوية التي أخضعت لتفسيرات رجال المذهب الرسمي، والتي وسّعت من جهة حقوق بعض الأفراد (الموحدين) وقلّصت من جهة أخرى حقوق الرعية الآخرين تحت مدّعيات دينية باطلة.

لكي تكون الدولة السعودية دولة بحق، يجب أن تعود السيادة لصانع القرار السياسي، وأن يُلتزم بحقوق المواطن الأساسية التي جاءت بها المواثيق الدولية التي وقعت عليها الحكومة السعودية نفسها. ولكي تمنع السلطة السعودية نوازع الإنفصال، فإنها مطالبة بالخروج من شرنقتها المناطقية والمذهبية لكي تمثّل التيار العام في المملكة دونما محاباة، وأن لا تنتهك حقوق المواطنين الآخرين. فما يحق للتيار الديني السلفي يحق لنظرائه في الحجاز وفي الأحساء وفي الجوف وفي الجنوب، وما يتمتع به المواطن في الوسط يجب أن يتمتع به الآخرون في كل المناطق، وبينها التعبير عن هويته الخاصة به في إطار وطني يجب أن يُبنى لبنة لبنة.

مسألة أخرى ترد هنا، وهي أن المناطق بما تمثله من تنوع وتعدد، بحاجة الى فسحة تبلور فيها هويتها الخاصة ودورها في صناعة القرار الوطني كما المحلّي. في القرار الوطني لا بدّ من إصلاحات سياسية تمكّن الجميع من المساهمة في اتخاذها عبر الإنتخابات، ووضع دستور جديد، وعبر التنمية المتوازنة لكل المناطق. أما إدارة الشأن المحلي، فإنه آن الوقت لكي ينسحب الأمراء من المناطق كأمراء لها، وأن تنسحب الطواقم التي ترافقهم في ذلك. والسبب أن وجود هؤلاء يعطي الإنطباع بوجود (إستعمار داخلي). فلا يمكن اليوم قبول سيطرة الأمراء على كل مرافق الدولة حتى الصغيرة منها، ولا يمكن لإدارة الشأن المحلي أن تسلّم لأبناء المنطقة مع وجود أمير وطاقم من خارجها يفرض إرادته على كل قراراتها. إذا كان لا بد من ثمن يدفع كتعويض عن الإنفصال أو إبعاداً لغائلته، فليكن الحكم المحلي ثمناً له، وليكن الإصلاح السياسي بوابته العريضة، ولتكن وثيقة (الرؤية) التي قدمتها النخبة القاعدة التي تسير عليها قافلة الإصلاح والتغيير.

أما احتكار كل الكعكة بيد أمراء لم يخرجوا بعد من أصدافهم المحلية وانتماءاتهم الخاصة وهم يديرون دولة جعلوها ملكاً خاصاً مشاعاً بينهم، فإنه لن يؤدّي إلا الى تسريع الحراك باتجاه التقسيم. لا شك أن الحلول المقترحة صعبة، ولكنها ثمن لإصلاح إعوجاج استطال أمده، ودرءاً لفتن سوداء قادمة. فهل التضحية بالقليل حفاظاً على الكثير وبينها كيان الدولة وسيادة العائلة المالكة أمرٌ مستحيل؟ ربما الآن وفي المستقبل المنظور هو كذلك! ولا نعلم ماذا بقي من وقت لتدارك المشاكل الكثيرة، فقد تنقلب الأوضاع بين ليلة وضحاها، فتنهار الدولة التي تنتظر (القشّة التي تقصم ظهر البعير).