هل (العرائض) طريقنا للإصلاح؟!

 عبدالله الطائي

 منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، انكسر أو تخلخل التحالف الإستراتيجي بين الولايات المتحدة والنظام السعودي، وكذا تخلخلت العلاقة بين ذات النظام والقوى السلفية المتشددة والمتطرفة، بحيث فقد النظام قطبي الرحى بالنسبة له. فالنظام ـ وطوال مسيرته في سدة الحكم، اعتمد أساساً على تحالف خارجي مع القوة العظمى في العالم، بدءاً ببريطانيا التي كانت عظمى حينذاك، ثم انتقل الى حضن الولايات المتحدة، كما اعتمد على تحالف داخلي مع القوى السلفية المتشددة والمتطرفة، بدءاً بـ(الإخوان) الذين استخدمهم في توسيع رقعة سلطته في بداية توحيد البلاد، ثم انتقل إلى تبني القوى السلفية المتشددة ـ التي هي امتداد للإخوان ـ حيث استخدمها طوال مسيرته لضرب وتخويف وإرهاب كافة القوى والمذاهب والمناطق الأخرى، حتى أصبح ينظر الى المملكة كـ (دولة القوى الوهابية السلفية المتشددة) رغم وجود وانتشار المذاهب الأخرى في كافة مناطق المملكة.

نعود مرة أخرى فنقول إن تخلخل العلاقة مع قطبي الرحى، الولايات المتحدة والسلفية، بالإضافة إلى أزمات النظام الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كل ذلك ساهم بشكل فعال في الحراك الاجتماعي الذي تسارعت وتيرته في بلدنا بعد أحداث سبتمبر، وأخذ المجتمع بكل فئاته يتحدث وينطق ويناقش أوضاعه رغم التاريخ القمعي والإرهابي الذي مورس بحق المعارضين منذ نشوء هذه الدولة. إن تلك النقاشات والأحاديث في أوساط النخب والناس وصلت في يناير من هذا العالم إلى مرحلة كتابة العرائض، وذلك بعد مخاض عسير من نقاشات، حيث أن البعض كان يرى حينها إن مجرد الحديث أو الكتابة عن انتخاب يعتبر تطرفاً وبعداً عن الواقعية، إلا أن وثيقة (الرؤية) خرجت أخيراً ووضعت الكثير من نقاط على الحروف، وطرحت على الأقل الحدود الدنيا المرجوة من عملية الإصلاح. تلا ذلك عرائض أخرى كـ(شركاء في الوطن) و(الوطن للجميع) وتوجت أخيراً بعريضة: (دفاعاً عن الوطن) التي كررت بشكل جديد المطالب المطروحة سابقاً. والسؤال الأهم هو كيف تعاملت الدولة مع كل تلك الكتابات والعرائض؟ وكيف تعامل المجتمع معها؟.

 أسباب تمطيط الوعود الإصلاحية

 إن الدولة ـ ممثلة بولي العهد ومن ثم وزير الدفاع، في مقابلتهما لبعض ممثلي التيار الإصلاحي ـ اكتفت حتى هذه اللحظة بالوعود والتطمينات والحديث الملتوي وتخدير الإصلاحيين، ومحاولة كسب الوقت، ولا شيء حتى الآن نفذ أو حتى في طريقه للتنفيذ أو حتى للإعداد! رغم أن من يملك نية الإصلاح الفعلية ما عليه سوى إصدار بعض القرارات، على الأقل، فيما يخص محاربة الفساد المالي والإداري، ونهب المال العام الذي يمارسه الأمراء والأعوان، أو فيما يخص التعليم، أو فيما يخص الطوائف والمناطق المضامة والتي مورس بحقها حيف وظلم واضحين بأن تعطى بعض حقوقها، ويسمح لها بممارسة طقوسها وإزاحة العوائق التي تحول دون ذلك. بل أنه حتى في مجال الإصلاح السياسي يمكن البدء بإصدار قانون إنتخابات المجالس البلدية، أو تشكيل لجنة لصياغة دستور وغيرها من القرارات الممكنة والتي تكشف عن وجود نية للإصلاح. إذن الزعم بأن هذه الوعود صادقة وحقيقية غير صحيح البتة. وأن ما يجري يعدو مناورة لكسب الوقت وتمطيطه ليس إلا. والسؤال هنا كيف نفسر ظاهرة كسب الوقت هذه، وما الذي تأمله السلطة؟

إن السلطة في السعودية ورغم كل ما يجري على المستوى الدولي والإقليمي لا زالت تراهن على تحالفاتها القديمة، فهي تعتقد أن تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة يمكن استعادته لو صبرت قليلا فلربما لا يصل (الجمهوريون) للحكم ويسقط بوش الذي يستخدم العصا الغليظة ضدهم، بحيث يأتي (الديمقراطيون) للحكم الذين من الممكن ـ في نظر حكام السعودية ـ التعامل معهم، وبالتالي من الممكن عودة العلاقات إلى مجاريها وتنزاح الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة. إن هذا التصور ساذج بلا شك؛ ذلك أن الدول العظمى لا تعتمد على شخصية رئيس يأتي ورئيس يذهب، ومهما اختلفت الأساليب والشعارات إلا أن الاستراتيجية تبقى واحدة ومستمرة. بل أن النزعة نحو (الديمقراطية وحقوق الإنسان) كشعار هي أقوى عند الديمقراطيين منها عند الجمهوريين، أما محاربة الإرهاب فأضحت استراتيجية كونية ترفعها كافة الدول بما فيها الأقطاب المحتملين (أوروبا ـ روسيا ـ الصين) وبالتالي فإن التعويل من قبل سلطة بلادنا على تغير في سنة الإنتخابات القادمة قد يعفيها من الضغوط، أمر غير وارد على الإطلاق؛ ولكن تبقى أحلام وتصورات حكامنا تأمل في عكسه.

الأمر الآخر الذي تأمل سلطة بلادنا أن يحصل هو هزيمة أمريكا إقليمياً أي في العراق وفشل محاولة دمقرطته، بل أنها تأمل وتعمل لدفع الشعب العراقي للإحتراب الداخلي لتضعه مثلا أمام الولايات المتحدة، لتصل إلى استنتاج مفاده أن الإصلاحات والديمقراطية غير ممكنة، بل غير مفيدة في منطقتنا. إن حكام بلادنا يحلمون ويعملون من أجل ألا يصبح العراق ديمقراطيا، وألا تنجح تجربة التغيير فيه، بل أنهم يمارسون كل الأساليب والطرق من أجل إفشال التجربة العراقية حتى لا يأتيهم الدور في التغيير الديمقراطي المنشود.. رغم أن هذا التغيير ضرورة اجتماعية وسياسية لاستقرار بلادنا ونمائها، وليس انتصارا للولايات المتحدة، بل هو تحدٍ لها؛ حيث أن نجاح الديمقراطية في العراق وبلداننا سيجعلنا أكثر حصانة في مواجهة أي عدوان خارجي. إلا أن التفكير الذي يتشبث بالماضي مراهناً على هزيمة أمريكية يستهدف إعفاء الإستبداد من التغير نحو الإصلاح والديمقراطية رغم كونها حاجة لا مناص منها ولا بديل سوى الطوفان والإنقسام والإحتراب الداخلي.

أمر ثالث تراهن عليه السلطة وهو إنشاء تحالفات جديدة مع دول (عظمى) غير الولايات المتحدة، وما زيارة ولي العهد السعودي لروسيا في الفترة الأخيرة وكيل المديح للقيادة الروسية (التي اتهمت القيادة السعودية بالإرهاب منذ عهد قريب) وإغراءها بالاتفاقيات الاقتصادية.. إلا تطبيقا لهذا النهج. وفي الجانب الآخر تسعى السلطة لكسب ود أوروبا وبريطانيا بالذات الحليف اللصيق بالولايات المتحدة، علّه يمارس تأثيرا مهدئاً لسياسة الولايات المتحدة تجاه السعودية. ويعد إطلاق سراح البريطانيين المحكومين في السعودية، وتعيين تركي الفيصل سفيرا لبلادنا في لندن، محاولات على ذات الطريق. وفي هذا المجال أيضا يعد مسعاها خائبا ومتأخرا. فبعد أن لعبت في الماضي دورا منقادا لسياسة الولايات المتحدة في معاداة (الاتحاد السوفييتي السابق) الذي ترثه روسيا حاليا، وساهمت في إسقاطه رغم أنه الحليف الاستراتيجي للعرب آنذاك.. تريد الآن كسب ود القيادة الروسية التي هي عاجزة الآن عن مواجهة واشنطن، بل هي غير راغبة وغير مستعدة لتلك المواجهة. أما بريطانيا فتبقى حليفاً تابعاً للولايات المتحدة لا العكس.

أمر رابع يراهن عليه حكام بلادنا، وهو إعادة وتقوية التحالفات الإقليمية مع كل من مصر وسوريا من أجل إيصال رسالة إلى الولايات المتحدة مفادها أن ضغوطها ستفقدها حلفاءها في المنطقة، وأن هؤلاء الحلفاء يستطيعون ممارسة التأثير عليها والتشويش على مخططاتها في العراق والمنطقة. وفي هذا سلطتنا أيضا خاسرة؛ ذلك أن هذه الدول ذاتها مطلوب فيها التغيير وجميعها تسعى الآن للبدء بإصلاحات ولو جزئية من أجل سلامة رؤوس حكامها وبقائهم في السلطة، وهم جميعا أعجز من ممارسة الثأثير على الولايات المتحدة؛ ذلك أن كل دولة من هذه الدول لا تخلو من الاستبداد، ولها ملفاتها الجاهزة لدى الإدارة الأمريكية.

أمر خامس تراهن عليه الدولة في بلادنا، وهذه المرة في داخل حدودها، وهو مراهنتها على كسب شرائح جديدة من القوى السلفية لا تحمل السلاح، وقد تطرح بعض الشعارات الإصلاحية، ولكنها مستعدة إذا ما أعطيت بعض المكاسب أن تشكل حربة جديدة بيد السلطة، وسلاحاً جديداً في مواجهة أي تغيير ديمقراطي قد يعطي مكاسب للطوائف والقوى الأخرى. وهي حتى في هذا مهددة بالفشل؛ ذلك أن هذا التيار وإن رفع شعارات الإصلاح بشكل آني، إلا أن هدفه في النهاية هو مشاركته المتساوية في السلطة وسيطرته كطيف إسلامي خاص على كافة الأطياف الاسلامية والسياسية في هذا البلد.. وهذا لن يحل أبدا إشكال الإصلاح والديمقراطية، خاصة وأن القوى الأخرى لن تقف مكتوفة الأيدي، ولربما يجد أقطاب السلفية (المعتدلة) أن ضمانة بقائها في الساحة تعتمد على ما يتحقق من إصلاح وديمقراطية وحقوق متساوية.

هذه المراهنات الخمسة المذكورة آنفا هي السبب الحقيقي وراء تمطيط الوعود ومحاولة كسب الوقت من قبل السلطة علها تتملص من أي إصلاح، وتبقي الحال على حاله بانتظار أزمة جديدة ووعود جديدة.

 المجتمع الصامت

 إن العرائض التي قدمت للسلطة حتى هذه اللحظة تعتبر جميعها (نخبوية) وغير شعبية رغم أن ما تطرحه من مطالب وحقوق يمس كافة طبقات وشرائح مجتمعنا؛ ومع ذلك فإن موقعيها نخبة صغيرة، وأكاد أجزم أن عدد الموقعين على كافة العرائض المذكورة رغم اختلافها لا يتجاوز الألف شخص من عدد سكاني يتراوح بين 14 إلى 16 مليون شخص هم عدد سكان المملكة. وهذا يعني أحد أمرين: إما أن تكون هذه النخبة عاجزة حتى الآن عن مخاطبة الجماهير والتعامل معها، بل قد تكون متعالية على الجمهور محتقرة لدوره، وبالتالي فإنها غير صادقة وغير جادة في دعاواها الإصلاحية؛ وإما أنها خائفة ومترددة أو ربما طامحة إلى منصب يجعلها جزء من السلطة لا مغير لها. وفي كلا الحالتين لا يمكن لها أن تمارس الدور المراد لها أن تلعبه. فالإصلاح والتغيير لن يجري بدون الجرأة والمثابرة وزج الجماهير الواسعة صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير في أتون عملية المطالبات بشتى أشكالها. والجماهير وحدها قادرة على حماية النخبة التي تختارها هي.

والأهم من كل ذلك هو: هل أساليب النضال من اجل الإصلاح والتغيير تقتصر على (العرائض)؟ ألا توجد أساليب اخرى وأدوات أخرى قادرة على أخذ زمام المبادرة وفرض أمر واقع جديد؟ ألا يمكن مثلا إنشاء نقابة للصحفيين على أرض الواقع بدل المطالبة بها وانتظار موافقة السلطة؟ ألا يمكن إنشاء وعلى أرض الواقع لجنة للدفاع عن حقوق الإنسان بدل انتظار موافقة السلطة على ذلك؟ بعبارة أخرى ألا يجب إنشاء مؤسسات المجتمع المدني وفرضها في الواقع بدل انتظار الوعود؟ أليس هناك شيء اسمه تظاهرات واعتصامات يشارك فيها الناس أصحاب المصلحة في التغيير، وهي جميعا أساليب سلمية ولا عنفية تطالب بالإصلاح والتغيير؟ كلها أسئلة تطرح على النخب المزهوة بأنها فعلت وطالبت وكأنها (جاءت بالذئب من ذيله) حسب المثل المعروف. على النخب أن تفكر مليا في تطوير مطالباتها ـ إذا لم يعجبها كلمة نضالاتها ـ واستخدام أساليب أخرى تعرفها كل المجتمعات ولسنا بدعاً منها!

ورغم أن الحديث يدور هذه الأيام حول الحوار الوطني ومؤتمر الحوار الوطني ومركز الحوار الوطني الذي سيشارك فيه الجميع وكافة الأطياف السياسية والمناطقية.. إلا أن السؤال يبقى كما هو: ما الذي يمكن أن يصل إليه الحوار الوطني المنشود هذا؟ أليست في النهاية المطالب التي سطرت وكتبت منذ بدء هذا العالم؟ من الذي سيختار المتحاورين؟ وعلى أي أسس؟.

في وجهة نظري المتواضعة إن الحوار الوطني بكل مسمياته هو في النهاية أيضا مراهنة أخرى من ضمن مراهنات السلطة على التملص من الإصلاحات، ترجو السلطة منها أن يشارك فيها الجميع؛ ولكن هذا الجميع غير متناسق وغير متحد على حدود دنيا وغير متفق على أسس وبالتالي فإنه سيأتي للنقاش ليثير التناقضات المتواجدة أصلا بين الفئات والقوى المختلفة التي سيغني كل منها على ليلاه، لتقول السلطة حينها أننا أفضل لكم من بعضكم فدعونا كما نحن. ألا يمكن أن يكفر البعض البعض الآخر في هذا الحوار؟ ألا يمكن أن يتهم البعض بصفات (الرافضة) أو (العلمانية) وغيرها من الصفات الممجوجة في نظر البعض؟.

إن الحوار الوطني ليس هدفا بحد ذاته، إنه إحدى الوسائل لتحقيق الاصلاح. والعرائض وما كتب فيها أتت عبر حوارات وطنية واسعة على الأقل بين النخب، وبالتالي هل هناك ضرورة لإعادة تلك الحوارات. إن السلطة لو كانت جادة حقا في الاصلاحات لبدأت بتنفيذ الكثير منها وهي تعرف قبل غيرها مكامن ضعفها، أو لنقل مكامن تسلطها، وتستطيع أن تتخذ القرارات الحازمة لو كانت جادة. لكن ذلك القرار الحازم المنتظر لن يأتي ولشديد الأسف إلا اذا أتى من سيدها الأمريكي، أما مطالب شعبنا الحقيقية فهي بحاجة إلى النضال والتضحية وتطوير أساليب العمل وتعدي مرحلة (المعاريض) فهل يتأتى ذلك؟.