الخروج من الشرنقة

الشيعة السعوديون وردّ الفعل النمطي على الطائفية

 فؤاد ابراهيم

 سياسة التمييز الطائفي ضد الشيعة شكّلت قضية نزاعية في العلاقة مع الحكومة والمؤسسة الدينية الرسمية قبل وبعد قيام الدولة السعودية عام 1932، وهذه السياسة رهنت الجماعة الشيعية الى خيارات حمائية كرد فعل نمطي تلجأ إليه الجماعات المقهورة عادة في إستجابة تلقائية للاحساس العميق بالخطر المحدق بها. ولذلك كان إبتكار بدائل المجابهة ضد سياسات الدولة وبخاصة المتصلة منها بالبعد الديني خياراً إستراتيجياً نشطاً داخل الجماعة، فالتعليم الديني الرسمي، مثالاً، بنزعته الخصامية ضد الشيعة يتم إحباط تأثيره عبر تعبئة دينية مضادة، تضطلع بها وسائل التوجيه الديني الأهلية، وينسحب ذلك على الكتاب، والمجلة، والشريط الديني، والفتوى.

 الطائفية الدينية فرضت نمطاً من العلاقة، والتفكير، والسلوك العام في الوسط الشيعي تجاه الدولة بصورة عامة، ولذلك كان التمييز الطائفي مصدراً في التعبئة الداخلية سياسياً ومذهبياً، صبغ خطاب السياسيين الشيعة طيلة عمر الدولة، فالعرائض الشيعية المرفوعة خلال الثمانية عقود الماضية تتجه الى مظالم ذات بعد طائفي، في التعليم والتوظيف والقضاء والطقوس المذهبية الخاصة، والخدمات الاجتماعية.

فقد ظل وجهاء وعلماء الشيعة يناشدون الحكومة في سلسلة عرائض متوالية منح المحاكم الشيعية صلاحيات كاملة أسوة بباقي المحاكم الرسمية التابعة للدولة، وتطبيق أحكام المذهب الجعفري في المناطق المأهولة بأغلبية شيعية مطلقة، الا أن هذه المناشدات تصل غالباً الى طريق مسدود، وتنتهي غالباً الى تخفيض سلطة المحاكم الجعفرية وربطها بالمحاكم الرسمية، دع عنك عدم الاعتراف بشهادة الشيعي في المحاكم الشرعية التابعة للدولة.

ثمة سلسلة عرائض أخرى تتصل بتحسين الظروف المعيشية والخدمية في المناطق الشيعية، منذ بدء تنفيذ الخطط التنموية بعد الانتعاش الاقتصادي الذي شهدته البلاد في السبعينيات. فقد ظلت مناطق القطيف والأحساء تعاني من الإهمال المتعمد قياساً للتطور المفاجىء والسريع الذي شهدته مدن أخرى مثل الدمام والخبر، ولم يكن هناك ما يبرر ذاك الإهمال سوى سياسة التمييز المفروضة على الشيعة من قبل الدولة.

الخدمات الصحية، التعليم، التوظيف، الجيش، الحرس الوطني، السلك الدبلوماسي مجالات دائماً كانت عرائض الشيعة تثيرها مع القيادة السياسية، رجاء العثور على تسوية نهائية وشاملة، ومؤسف القول بأن الاستجابة كانت فاترة على الدوام، وسلبية في الغالب، حتى أمكن القول بأن الشيعة حصدوا الأقل في زمن الطفرة وتكبّدوا الأكثر في زمن الكساد. فقد ظلت سياسة التمييز تلاحقهم في زمني الرخاء والشدة. فالتمييز الذي فرض عليهم في زمن الرخاء في القضاء والتعليم والتوظيف زاد قسوة وشدة في زمن فقدت فيه الدولة القدرة على توفير الحدود الدنيا من حاجات السكان.

هكذا كانت المعادلة الطائفية.. سياسة تمييز طائفي تفرضها الدولة، يتبعها رد فعل دفاعي من قبل الشيعة، انعكست في رؤية الشيعة حول أنفسهم ومن حولهم، وتشكلت وفقها هويتهم كجماعة إثنوـ دينية تعيش احساساً دائماً بالخطر، وترى بأن حفظ الكيان قائم على بعث مجمل الرأسمال الرمزي والثقافي وإحضاره في ثقافتها اليومية وفي رؤيتها للاشياء من حولها، ويزداد الانشداد نحو الذات كلما تزايد الشعور بالتهديد من قبل الدولة والمؤسسة الدينية الرسمية. فالحضور الكثيف للذات في الفرد الشيعي خلق ملاذاً نهائياً مقفلاً أدى في نهاية الأمر الى التباعد عن النظام الاجتماعي الأوسع، وأنتج هذا الملاذ في الذاكرة الشيعية شكلاً من أشكال المناجزة بين (الذات) و(الآخر) كتعبير عن التذكير الأولي بالشخصية المستقلة والمنفصلة عن المحيط الاجتماعي الكبير، وهذا التعبير يأخذ في مستوى متقدم طور النضال ضد النظام السياسي والاجتماعي.. هدفه حرية الذات، كما يحقق هذا الحضور الكثيف للذات هدفاًَ خاصاً بالجماعة الشيعية التي تنظر بعين الرضا لقدرتها على إشباع حاجات الافراد وتوقعاتهم داخل الجماعة، حين لا يكون هناك خيار بديل يعوّض الافراد. فالعودة للذات كانت تمثل دائماً شكلاً من أشكال التمرد على النظام العام، سيما حين يكون الأخير عاجزاً عن توفير الاطمئنان التام للخاضعين له طوعاً أو كرهاً. فهناك جهد دائم تبذله الجماعة المهددة لصناعة نظام بديل، تعيد بداخله انتاج ذاتها، وتحمي به أفرادها إزاء انتهاكات نظام مصمم ـ بحسب رؤية الجماعة ـ لتقويض الجماعة واكتساح عالمها الخاص.   

ثمة ما يبرر إنخراط قطاع من الشيعة في اللعبة الطائفية، مصدر شقائهم، وساحة صراعهم، وهناك من يغذي نزعة الطائفية في الوسط الشيعي سواء الدولة أو فئات شيعية ترى في التمترس داخل الشرنقة الطائفية حصناً ووسيلة حماية. ولكن ما يجلب الانتباه ويستحق التأمل طويلاً هو الانزلاق الى مستنقع الطائفية من جانب الشيعة أنفسهم، الذين يزجون بكل قواهم في صراع مفروض عليهم، والذي أفضى بطبيعة الحال الى إرهاق المجهودات الثقافية والاجتماعية في قضية لم يعد بإمكان رد الفعل النمطي قادراً وحده على تحرير إراداتهم وإخراجهم من المسوّرة الطائفية، الأمر الذي أحالهم الى مجرد جماعة مذهبية معزولة عن المحيط الوطني العام، الذي تتقاسم معه مشتركات عديدة.

فالنزعة الطائفية أملت على قطاع من الشيعة الانحباس في نظرة تشاؤمية إزاء المحيط الاجتماعي العام، حتى باتت تلك النظرة ممتدة على كامل الرقعة الاجتماعية والجغرافية في المملكة. فلم تعد الخارطة الدينية والاجتماعية والسياسية المتنوعة تعني لهم كثيراً، فقد استغرقت نظرتهم إزاء وضعهم الديني والسياسي مجمل الخارطة، ولكن بتوحّد اللون بداخلها، فلا فروقات بادية في نظرتهم بين المتطرف والمعتدل، والمتشدد والمتنور، والمخالف والحليف، فهذا التصنيف يغيب في النظرة الشيعية بفعل الافتتان الحادّ بالمعضلة الطائفية. وحبست نظرتهم التشاؤمية قطاعاً كبيراً في زاوية لم يعد يرى فيها الأبعاد الأخرى لبلد بات يفرز على السطح كل تنوعاته الثقافية والايديولوجية والسياسية، في سرعة قياسية خلال العقدين الأخيرين.

ثمة قضية أخرى شديدة الحساسية قد لا يفضّل كثير من الشيعة طرقها أو الاقتراب منها، وأعتقد بأنه قد بات من الضروري الآن إقتحامها، وهي الثقافة الشيعية السائدة. فالمناخ الديني المتسامح الذي بدأت ملامحه ومؤشراته تبرز في الآونة الأخيرة، وإن على نطاق محدود، والتي تبشر بتحوّل في أنساق التفكير الديني لجهة خلق أرضية مناسبة لحوارات فكرية ودينية مثرية، يفرض على الشيعة ونخص منهم رجال الدين والمضطلعين بتعميم الأدبيات المذهبية في الوسط الشيعي أن يتمثلوا منهجاً جاداً ونقدياً إزاء ما يتسرب الى الفضاء الثقافي الشيعي من كتابات غير مسؤولة، ومطبوعات تحمل في داخلها عناصر إنشقاقية من شأنها إحباط فرص الانفتاح والحوار الداخلي في أبعاده المذهبية والسياسية والثقافية.

ليس كشفاً للسر الجهر بأن هناك كتباً ونشرات مصنّفة في قرون ماضية قد أعيد إنتاجها من قبل مؤسسات نشر شيعية خارجية تطمح للربح ولا تكترث بما تؤدي اليه تلك المطبوعات من تأجيج للنزعات الطائفية وسط الشيعة ضد نظرائهم في الدين، وهكذا الحال بالنسبة لكتابات ظهرت في العقدين الأخيرين كرد فعل على كتابات مذهبية سجالية محلية، مازالت تلقى رواجاً شعبياً رغم ما تنضح به هذه الكتابات من إسفاف مخلّ ومخالفة صريحة لتعاليم الاسلام وقيم أهل البيت عليهم السلام.

مؤسف القول بأن المنطقة الشرقية كانت سوقاً رائجاً للنتاج الثقافي الشيعي بصفته السجالية، وهو نتاج يشتمل على تعريض بالخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم) وبأمهات المؤمنين وبخاصة عائشة وحفصة (رضي الله عنهما)، إضافة الى ما تحمله بعض الادعية غير المسنودة من عبارات هابطة ومخلّة، ولا تقترب من بعيد أو قريب من روح التشيع كما صاغه الامام جعفر الصادق (ع). فهذه النتاجات الثقافية حققت في فترة ماضية غرض التعبئة، ولكنها بالتأكيد كانت قاصرة عن خلق توعية دينية حقيقية، وحان الآن وقت الخلاص منها، فهي نتاجات أسيرة لعاطفة دينية غير واعية، ورهينة بيئة ثقافية سجالية خلقتها أجواء التوتر المذهبي في العقدين الماضيين.

إن استمرار تدفق هذه النتاجات الى الساحة الشيعية لا مبرر له سوى رغبة بعض المؤسسات النشرية في تحقيق مزيد من الربح، وتلبية لأهداف خاصة لا يجني منها الشيعة في المنطقة الشرقية سوى المزيد من التوتر في علاقاتهم الداخلية، والركون الى ثقافة سجالية مدقعة، والانحباس في الشرنقة الطائفية.

أجواء الانفتاح الثقافي في المملكة باتت الآن مؤاتية كيما يتبنى أقطاب المدارس الفكرية منهاجاً في المراجعة النقدية للثقافة الدينية السائدة. فهناك مواقف شجاعة منتظرة من هؤلاء من أجل إعادة التوازن في النظرة للذات وللآخر، تتم جنباً الى جنب تعميم أخلاقيات الاختلاف والاجتهاد والتسامح الديني، إذ لم يعد مقبولاً في جو التسامح الاكتفاء بالتعبير عن المواقف داخل الغرف المغلقة أو في اللقاءات الثنائية، فهذه المواقف لا بد من الافصاح عنها أمام الاتباع الذين كانوا يتشربون أفكار التشدد والنبذ المتبادل طيلة عقود ماضية. وعلماء الشيعة، كما نظراؤهم السنة وتحديداً من أتباع مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أمام مسؤولية دينية وإجتماعية وتاريخية من أجل تصحيح مسار العلاقة مع الآخر، والاسهام بصورة مباشرة وفاعلة في مواجهة الثقافة السجالية وتصفية أجواء التوتر بين الاتباع. فحقن الجمهور المتواصل بثقافة السجال والقطيعة مع الآخر مازال يمثل مادة التحريض الأشد ضراوة وسط فئات عديدة داخل الشيعة والسنة من أتباع مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأن مقاومة هذه الاقتناعات العقدية المبثوثة داخل هاتين الجماعتين تتطلب زعزعة عنيفة لكل الأسس التي قامت عليها هذه الاعتناقات في زمن السجال المذهبي، وتفكيك المنظومات الثقافية المتشكلة في عصر الاحتراب الداخلي.

لا تكفي النوايا الحسنة، ولا الظروف المؤاتية لإنجاح خيار المسامحة الدينية. فاقتلاع المنظومات السجالية أو الاصطدام المباشر معها يعزز صدقية المسعى أولاً وأخيراً، كما أن إخفاء الاسلحة لا يعدو أكثر من وقف اطلاق نار مشوب بالحذر، تماماً كما أن تبني دعوات عمومية الى الحوار والتسامح والتنوع هي في جوهرها لا تنطبق تماماً مع النزعة شديدة التطرف الى تحصين الذات المذهبية والابقاء على فورانية التعبئة الثقافية المضادة، يدحض صدقية الدعوات ويبقيها ضمن خط العودة الى الذات. ذلك أن الدخول الى حلبة المصالحة الفكرية تتطلب روحاً جديدة، لا تقبل التعويل على ثنائية متضادة: مع الحوار والتسامح في العلن، ومع شحن الذات بالمادة الخصامية في السر!.

لا تقف مسؤولية العلماء عند حد إشاعة أفكار تسامحية وتقريبية، بل تتأكد هذه المسؤولية في قدرة العلماء على نقد الذات قبل الانشغال بالآخر، نقداً موجّهاً في الأساس لتراث سجالي ساهم بعضهم في صناعته وترويجه، هم الآن مطالبون بتحييد تأثيراته المستقبلية، ولجم انفلاتاته غير المدركة على شارع مازال ذلك التراث يشكل إحدى المرجعيات النشطة في تكوينه الثقافي. فثقافة التسامح وأدب الإختلاف لا يمكن لها أن تسود دون نبذ التراث السجالي الذي لم ينقطع دفقه على الأتباع من الفريقين حتى اللحظة، كما أن التساهل في مرور هذا التراث الى مراكز التوجيه الديني يطيح بمصداقية المتبنيات الفكرية الجديدة. هناك كتب كثيرة تنتشر في أوساط الشيعة والسنة من أتباع مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب مفرطة في العدواة والكراهية المتبادلة، ومازال ينظر اليها بوصفها شكلاً من أشكال الدفاع الثقافي عن الذات الجماعية. وحتى الآن لم نسمع عن حركة ثقافية مضادة داخل الدوائر الدينية تحديداً لجهة نقد محتويات هذه الكتب وإيصال بلاغ علني للأتباع من أجل التخلص منها. فهذه الكتب تعارض كلياً إرادة الانفتاح والتسامح، وتبشّر بالخصومة مع الآخر، وتدعو الى المنابذة المتبادلة، مقترنة بمحرضات في مضامينها القصوى على القتل.

يواجه رجل الدين الشيعي خيار الاقلاع عن النزعة المذهبية الخاصة من خلال تطوير خطاب ديني تقريبي يتجاوز حدود الذات المذهبية الخاصة، بل ويستهدف في أحد أغراضه المباشرة إحلال ثقافة مناهضة للعقائد المتطرفة كالتي تشيعها بعض الطقوس الدينية، والتي تسللت الى المنظومة الثقافية الشيعية من الخارج، وتم إدماجها في الثقافة المحلية، في وقت كانت هناك إنشدادات ضارية لضخ مذهبي كثيف يحفظ الذات ويعزز الهوية الخاصة.    

الشفافية في التعامل مع الوضع الثقافي الشيعي والخروج من النفق الطائفي يتطلب معالجات جريئة لا تتأثر بما يعتقد إستغلاله من الآخر، وتسليم الخصم سلاحاً يحارب به. فهذه الهواجس، رغم وجود ما يؤكدها من قصص ووقائع متناثرة هنا وهناك، تبعد كثيراً عن المنافع الكبرى التي يحققها الجميع من المكاشفة الثقافية الصريحة وغير المشروطة. فالتعامل يتم هناك مع تراثات فكرية غير مكتومة بل هي متداولة وسهلة التناول، وبالتالي فإن الخوف من الاستغلال لا يعدو كونه وهماً وتبريراً لعدم الخوض فيما قد يؤثر على القاعدة الشعبية لهذا العالم وذاك.

إن تشييد جسور الانفتاح والحوار بين المذاهب يتوقف على قدرة كافة الاطراف على الخلاص من المعوقات العقدية داخل كل مذهب، أي بتعديل النظرة الى الذات قبل الآخر. وهذا يتطلب فيما يتطلب الانعتاق من عقيدة (الفرقة الناجية) التي ترى في الذات نزاهة مطلقة وفي الآخر دنساً مطلقاً، من أجل صناعة فضاء مشترك قابل للتمدد يمنح كافة الاطراف حق الاختلاف وحرية المعتقد وتالياً مساحة للقاء والتواصل، إذ لا يمكن لحوار أن ينجز مهمته وأقطاب المذاهب متمترسون خلف عقيدة تنزيهية صارمة ومغلقة.

الانفتاح الشيعي على الواقع الثقافي الجديد في المملكة يتجاوز البعد الديني/المذهبي ويمتد الى المجال الثقافي العام بتنوعاته الايديولوجية والأدبية والفنية. فقد عاش الشيعة عزلة ثقافية طويلة الأمد معروفة أسبابها، وأبعادها، وتداعياتها، أدت الى حرمانهم من المشاركة في مجمل المناشط الثقافية الجارية، فيما كان الانخراط الكثيف في تحصين الذات المذهبية بدرجة أساسية يحول دون مشاركة كتاب وشعراء وأدباء وفنانين من الشيعة في المنجز الثقافي الوطني. الغيتو الاجتماعي الذي فصل الشيعة عن المحيط العام، والالحاح على البقاء داخل الغيتو كمصدر حماية نفسية وثقافية أدى الى إنسحاب كثير من الطاقات الشيعية الى الداخل والخوف من المشاركة في أي عمل خارج المسكونية الشيعية.

وهذا يحثنا لطرق قضية البعد الوطني في التفكير الشيعي، فالإنقسام في بنية المجتمع، والذي تتحمل الدولة مسؤولية كبيرة في خلقه، التقى بعناصر في الثقافة الشيعية التقليدية الدافعة نحو الاستقالة من الواقع انتظاراً لقدوم المخلص، وأدى في الحاصل النهائي الى إضعاف البعد الوطني في التفكير الشيعي الى حدّ كبير. صحيح أن كثيراً من التشكيلات السياسية الوطنية الناشئة في الخمسينيات والستينيات تشكل الجزء الأكبر من قاعدتها التنظيمية من المواطنين الشيعة، الا أن هذه التنظيمات كانت نخبوية بدرجة أساسية، أي مقطوعة الصلة عن التيار الشيعي العام، بسبب ميولها الايديولوجية اليسارية والليبرالية، فيما يدور الحديث هنا تحديداً حول الشيعة كجماعة إثنية ذات خصائص دينية وإجتماعية وتاريخية محددة.

المناخ السياسي والثقافي الراهن فتح الطريق أمام الشيعة للانخراط في نشاط وطني عام، باعتبارهم جزءا من وطن كبير، يحتضن طيفاً من القوى السياسية والاجتماعية والثقافية، وهي قوى يتقاسم الشيعة معها هموما وطموحات مشتركة، ومصيرا واحدا. فالخيار الوطني بات استراتيجياً للشيعة للإنعتاق من ربقة الغيتو الثقافي الخانق، ومن الطائفية المقيتة، فهذا البلد الكبير يضم تنوعاً ثقافياً واجتماعياً وليس هناك ما يمنع وجود العنصر الشيعي داخل هذا التنوع، فهو جزء كان مفصولاً عنه إما بسبب الفرض الرسمي الإكراهي أو بصورة طوعية، كاستجابة من المواطنين الشيعة للطوق المفروض عليهم.

الخيار الوطني ضروري لأسباب عديدة، فقد يمَّم قطاع كبير من الشيعة وجوههم الى الخارج (الشيعي) حين كان يشتد البأس عليهم في الداخل، ولم يكن هذا الخارج يحقق أكثر من إطمئنان نفسي تعويضاً عن المحنة المفروضة عليهم في الداخل من قبل الحكومة. هذا الخارج لم يعد الآن قادراً على تحقيق هذا الغرض، فضلاً عن أغراض أخرى لم يقدّمها في السابق، وقد ثبت أن البحث عن خيارات داخلية هي الأكثر تأهيلاً وجدارة ونفعاً. فالبحث عن خيارات خارج الحدود كانت تمليها المحنة الطائفية التي استدرجت الشيعة الى شروطها وقوانينها، ولكن مع إنكسار الموج الطائفي رغم محاولات دفعه، وظهور قوى جديدة قابلة للاصطفاف سوية في مواجهة هذا الموج، يجعل من تبني الخيار الوطني استراتيجياً. فاللعبة الطائفية كانت فيما مضى محصورة في لاعبين إثنين هما الشيعة والحكومة، ولكن هذه اللعبة الآن أخذت شكل أزمة أكبر تشمل الدولة والمجتمع بكافة قواه، ولم يعد البحث عن حلول جزئية مجدياً في ظل أزمات ذات بعد وطني.

المواطنون الشيعة الآن أمام فرصة للاندماج في النسيج الوطني العام، والانتقال من كونهم فئة مذهبية الى قوة فاعلة في البناء الوطني العام، فهم جزء منه ويتحملون قسطاً من مسؤولية الالتحام به، فالفشل الذريع الذي أصاب سياسة الدولة في إدماج القوى الاجتماعية والسياسية، لا يسقط عن الشيعة مسؤولية الاندماج في المجتمع الذي يتقاسمون معه التراب، والهموم، والمصالح، والمصير.