محليّة الإرهاب ومسؤولية الدولة

 التسويغات المتوالية نحو اعتبارالارهاب ظاهرة دولية، هي شكل من أشكال السلوة والدفاع عن الذات. فحزمة التبريرات المدرجة في خطاب الدولة حالياً لمواجهة تهمة باتت تحيط بها من كل الأرجاء، تنزع نحو تبرئة الذات وعزل الظاهرة عن منشأها الجغرافي والايديولوجي. فثمة إلحاح على توصيف الارهاب المحلي بإنبثاثاته الخارجية على أنه ظاهرة إنشقاقية مقطوعة الجذور، وفي أحسن الأحوال إعتبارها جزءا من ظاهرة دولية. 

في حقيقة الأمر، أن الإرهاب في صورته الفريدة الآن وبإنبثاثاته الخارجية هو محلي النشأة  بدون خلاف. فالتنظيمات المصنّفة في قائمة الارهاب الاميركية مازالت تخضع دائماً للفحص والجدل، باعتبار أن كثيراً من هذه التنظيمات (وبخاصة التنظيمات الفلسطينية وحزب الله في لبنان) هي تنظيمات تناضل ضد الاحتلال وتحمل مشاريع تحرير في ديارها وتملك من مقومات الشرعية والمحلية ما يجعلها قوى تحرر تسعى نحو أهداف مشروعة وواضحة. الحال في الجماعات الارهابية التي تنتمي تكوينياً وأيديولوجياً لبلادنا تحمل مشاريع تحرير العالم، وتتوسل بإستراتيجيات تدميرية غير مشروطة، تنطلق من عقيدة أن الأرض تغرق في الظلام وثمة بقعة ضوء مشتعلة يجب أن تنفذ اليها فيعم فيها الضياء، ولكن عبر شاحنات مفخخة، وأحزمة ناسفة، ونيران الأسلحة الفتّاكة، تطال البشر والشجر، والطفل والمرأة، والانسان والحضارة، وكل منجز إنساني قائم على وجه الأرض.

فأفراد هذه الجماعات يتناسلون جميعاً من أب وأم محليين، ويتلقون تعليمهم في مدارس الحكومة ويتشربون الخصومة مع الآخر في لغة دينية صارمة، ويملأ أسماعهم خطاب التحريض الدعوي في المسجد وحلقات الدرس الديني، وينقلون في رحلة ذهنية الى عالم آخر، يحققون فيها وجودهم المبدد دنيوياً، وكل ذلك يتم والحكومة تزعم بانها في حل من أمرها. ولكن..كلما أرادت الحكومة نفي الرابطة لتورط المتناسلين منها بحوادث إرهابية، أكدت الجماعات الارهابية على محلية الرابطة عملياً بشن موجة جديدة من الاعمال الارهابية.

 فهذه المنظومة التربوية المعلولة التي تسوق تياراً يغرق في خطاب الهلاك معزولاً عن أي مؤثرات خارجية تعينه على إخضاع الذات للمراجعة رجاء تحصينها من الانسياق وراء مشروع القرابين المتشحطين بدمائهم في مهمة مجهولة الغاية، هي ذات المنظومة التي حرّكت نزعة الغزو وأحلت الدمار والخراب في بقاع شبه الجزيرة العربية قبل قيام الدولة وبعدها. فالتسابق نحو تحقيق مهمة وطىء بلاد الشرك بخيول الموحّدين لم يكن محثوثاً بالرغبة في إشاعة السلم والمحبة، بل كان خطاب الفتح وغزو الديار الكافرة مضخة التحريض على سفك الدم الى حد السفه، ومصادرة ممتلكات الغير، وسبي النساء والذراري، وقطع الاشجار وطمر الآبار، ومصادر الحياة قاطبة هي مكوّنات الصورة التي ترسمها غزوات السعوديين، فهذا كان حال الطائف وتربة ومكة المكرمة والمدينة المنورة وحائل والجنوب والشمال والشرق، وحتى دول الجوار طالها حيف الدعوة وإرجافات الدعاة، فقد تدافعت جيوش الدعوة الى عمان والإمارات والعراق والشام.

فهذا الخطاب الفتحوي ظل متماسكاً لم يطله التحريف والتبديل، لأنه بكلمة أخرى خطاب الدولة نفسها، الذي ظلت تشحنه بكل مقومات البقاء، لأن في ذلك بقاءها. كيف نشأت هذه الجماعات، وماهي المحرّضات الايديولوجية والسياسية والاجتماعية التي دفعتها للانزلاق نحو حافات إفناء جماعي؟ فتمزيق الجسد قد تحوّل لدى هذه الجماعات الى ملهاة دامية إرضاء لغريزة معلولة تزج بطوابير المهووسين في معركة لم يعرف سواهم كنهها ولحظة بدايتها وأغراضها، وتبقى الخاتمة مفتوحة طالما وجدت الثقافة الدينية القادرة على إطلاق الغرائز الشريرة، وطالما بقي هناك من يوطّن النفس على إهراق الدم إطفاءً لغضب الرب، كما يفعل الفراعنة مع فورة نهر النيل المنذرة بالغرق فيقدّمون أجمل ما لديهم من بنات إطفاءً لغضبة النهر.

فالهيجانات المنفلتة من قبضة الدولة لا تبرىء ذمتها بحال، فهذه الهيجانات مازالت تتغذى على المائدة نفسها، وترتدي نفس اللباس، وتحمل ملامح الوجه وتنطق بنفس اللغة، وعلاوة ذلك تفكّر بنفس الطريقة، لأن أدوات التحريض مازالت قائمة وهي الأعلى صوتاً والأشد تأثيراً في نفوس التيار المستلب.

وهنا كلمة وموقف، فلا يجب أن تحمل التجربة الافغانية رزايا وكوارث المندّسين فيها، فقد حافظ الجهاد الافغاني على نقاوة عنصره، ومحليته، وهويته، وأهدافه، فكان مشروعاً لتحرير التراب الأفغاني من الإحتلال السوفييتي أولاً وأخيراً، ولم نقرأ في أدبيات أي من التنظيمات الجهادية في أفغانستان أنها رفعت شعار الأممية وفكرة (إصلاح الكون)، وحتى حركة طالبان رغم ولادتها غير الطبيعية وأيديولوجيتها التنزيهية الصارمة، لم تستدرج الى مشاريع خارج الحدود، فنزعتها الاستئصالية كانت محلية وموجّهة ضد قوى أفغانية داخلية، ولم تخترق المجال الحيوي لمناطق أخرى خارج أفغانستان. فالرأي المرسل والقائل بأن أفغانستان مركز زلزال الارهاب، وقاعدة إنطلاق الجماعات الارهابية للإنبثاث في أرجاء العالم يغدو مجرد هروب من المسؤولية. فلماذا إذن يغيب العنصر الأفغاني في كل العمليات الارهابية التي وقعت خارج أفغانستان، في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وفي الشيشان، والصومال والسودان وكينيا وشبه القارة الهندية..

هذا الارهاب في شكله الفريد إنما نما وترعرع في حضن الدولة، وخرج من فضائها مبشّراً برسالة منبثة في الكتاب المدرسي، وفي الخطبة الدينية في الجامع، وفي الكراسة الشعبية، والشريط الديني، وفي المخيم الدعوي، وفي مجاميع الفتاوى والأحكام لكبار العلماء. هذه السلسلة المترّاصة من الحلقات تمثل منظومة تربوية متكاملة كفيلة بإنشاء رؤية كونية لطوابير من التضحويين المثقلين بعبء الدعوة، والذين يبلغون نشوة النصر بالسقوط في محرقة الموت العابث.

فهؤلاء الطوابير لم يتأهلوا سوى لمهمة الفناء والإفناء، مهمة ليس فيها تركة ولا رسالة للإحياء والأحياء، الذين لا يعرفون عنهم سوى أنهم قرابين في معركة لا عنوان لها. ولا غرابة في ذلك، فالثقافة الدينية المسيّدة توصل أتباعها الى مرحلة اللاعودة، يفقد فيها ضحاياها التعبير عن أنفسهم، أو البوح بأهدافهم، لأن الموت حين يكون هدفاً نهائياً يتحول الى سخرية سخيفة وغير مبررة لا يمكن تفسيرها.

فطوابير من اليائسين من أوضاع سياسية محلية يشحنون بخطاب ديني تفخيخي ويجنّدون ضمن فرق الانتحاريين الذين يبحثون عن مناطق شاغرة في العالم لإطلاق غريزة إهلاك الحرث والنسل، بعد أن فشلت الدولة في إعادة إحتضانهم أو ترويض الفورة الداخلية التي تغمرهم. كان بإمكان الدولة النفوذ الى هذه الطوابير من البوابة التي دخلت منها إليهم أول مرة، يوم كانت تغرس فيهم فكرة الفتح، أي من خلال إعادة تأهيل ثقافي وتربوي لهذه الطوابير من أجل محو ذاكرة مثقلة بكل مسوّغات العدوان على الآخر المختلف، ولكنها إلتقت بهذه الطوابير بسلاح أصبح أداة التخاطب لديها، وهو العنف، فالخيار الأمني المحكوم بالفشل يعوّل عليه الآن أملاً في إستعادة هيبة الدولة وليس من أهدافه التوصل الى معالجة جذرية للعنف. 

لايجب ان تصرفنا تورطات عناصر محلية في حوادث إرهابية خارجية عن مخاطر وشيكة على الساحة المحلية، فهذا المخزون الكبير من العنف المصدّر في جزء منه للخارج، قابل للإستثمار محلياً فيما لو لم يتم نزع فتيل التدمير منه، فالمنظومة الدينية القادرة على تصنيع طوابير الهلاك للانخراط في معارك الخارج، قادرة على ضخ أعداد ضخمة من المتحمسين لخوض حرب التطهير الديني محلياً وضد السكان المحليين وبنفس قائمة المبررات الدينية، فهذا علماني ملحد، وهذا رافضي مشرك، وذاك صوفي ضال، وهلم جرا. فتاوى التكفير وأحكام الردة التي تصدر في حق مفكرين وعلماء وصحافيين ليست شيئاً آخر أكثر من فتاوى القتل، والشحن الديني المتفجر في منتديات الحوار على الانترنت، والمدافعة المتصاعدة بين متواطئين على خطاب ديني تنزيهي، والتحريض الجماعي ضد جماعات دينية وسياسية وأيديولوجية مصنّفة في خانة أهل الضلال، ورسائل التهديد المتوالية لقيادات دينية وسياسية في هذا البلد توفر كافة مبررات الحرب الدموية. وحينئذ ستكون الدولة بكاملها جزءا من هذه الحرب، التي لن يجري النظر اليها حينئذٍ بوصفها طرفاً محايداً، بل ستتحمل المسؤولية كاملة عن عواقب هذه الحرب، الوخيمة في كل الأحوال.

ليس هناك من يقبل تنصل الدولة من مسؤولية كبح جماح العنف، فالجميع يدرك بأن هذا العنف جزءا من خطابها، وأن عليها مسؤولية محاصرته، ودرء خطره، كما أن الهروب بالدولة والمجتمع الى خيار أمني في سبيل تحقيق مآرب، أقل ما يقال عنها أنها غير وطنية وغير نزيهة، هو أشبه ما يكون بـ (الكتف القانوني) بلغة أهل كرم القدم، فهذا الخيار تلبّس العنف ذريعة من أجل تعطيل خيار الاصلاح السياسي، كمدخل صحيح ووحيد لكافة أزمات الدولة، الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

فالحوار الوطني المراد تحميل عنوانه معاني يفصلها أمد بعيد عن الوظيفة المقررة له، لا يجب أن يتم في الغرف المغلقة أو ينحو الى تقديم قراءات نافرة تلامس سطح القضايا وتغفل عن قصد وسابق إصرار علوي العمق المعتل، فهذا الحوار يجب أن يتم في الهواء الطلق، ويكشف خبايا أزمة الدولة، ويقدّم تصوّرات لحلول شاملة.

محاولة إستدراج المجتمع بقواه الفاعلة نحو الاصطفاف خلف الدولة في مواجهة تحديات داخلية وخارجية تشبه الى حد كبير الاستقواء بالخصم للإنقضاض عليه في وقت لاحق، فالإصلاح السياسي وحده الكفيل بإنقاذ الجميع، وهذا ما يجدر إدراكه، حكاماً ومحكومين. فالاستقواء الحقيقي هو ما يكفل الانسجام بين المجتمع والسلطة، وأن إختلال الميزان يعني في نهاية المطاف إنقطاع حبل الأمن، والقطيعة، والانفلات السياسي.

لا تسقط المسؤولية عن القوى الاجتماعية والسياسية الناشطة في إحباط مفعول محركات العنف المحلي، فهذه القوى تدرك بانها جزء من خارطة طريق العنف، وأن إنفجاره سيمتد الى رؤوسها ورموزها، وأن ضغطاً كثيفاً على الحكومة بات ضرورياً الآن من أجل الدخول الى حل مشكلة العنف من بوابته الصحيحة. الانسحاب من الميدان لصالح الخصمين الحليفين، أي الدولة والجزء المتشدد من تيارها الديني، قرار خطير، بل إن ثمة ما يعزز الحاجة الى بناء تكتل وطني عريض ومنظّم لمواجهة إنفجار الظاهرة العنفية محلياً، فالمصطفّون خلف تيار العنف كثر، والطامحون للإنزلاق الجماعي في مسنقع العنف كثر أيضاً، بل هناك من الذخيرة الدينية الكافية ما يجعل إنفجار العنف وشيكاً. صحيح أن الدولة مسؤولة وستظل كذلك في كل الأحوال، ولكن القوى الوطنية والدينية بكافة أطيافها مسؤولة أيضاً عن محاربة هذه الظاهرة من خلال الضغط على صانعها الأول، أي الحكومة.

علماء الدين من كافة ألوان الطيف المذهبي، السني والشيعي، يتحملون قسطاً خطيراً من المسؤولية الدينية والاجتماعية، فالدين مازال المكوّن الرئيسي في ثقافة المجتمع وسلوكه العام، وهو ـ أي الاسلام ـ يواجه اليوم عملية تشويه واسعة النطاق، ويقدّم الآن ملتحماً بالحزام الناسف، والشاحنة المفخخة، وصورة الانتحاري العابث.

تتم الآن مصادرة مجتمع، ودين، ودولة من قبل جماعة لا يمكن الزعم بعزلتها عن محيط شديد التوتر مازال يتغنى بأمجاد الفتح، وعلى كاهل التيار المعتدل داخل الطيف المذهبي الواسع تقع مسؤولية بث ثقافة التسامح الديني، ونبذ العنف بكافة أشكاله كوسيلة في التعامل مع الآخر، والقبول بالتعددية كمبدأ ديني.

دور الاتجاه الوسطي المعتدل من علماء الدين السنة والشيعة في الضغط على الدولة جوهري للانعتاق من ربقة خيارها الأمني المفضي في خاتمته الى إشاعة أجواء العنف، عن طريق إرساء أساس صلب لحوار وطني يكون قاعدة لإصلاح حقيقي وشامل لا يقف عند حدود تبادل الرأي، ومعاضدة الدولة في محنة من صنع يدها.

خلاصة القول أن الدولة مسؤولة عن أي ظاهرة إرهابية تنشأ الآن، سواء في الخارج أو في الداخل، ولا مناص من تبني الاصلاح طريقاً وحيداً لانهاء أزمة بدأت منها وإليها العاقبة.  

(التحرير)