عمى الألوان الحكومي في رؤيتها للمعارضة

من الطروحات الإصلاحية الى الدعوات الإنفصالية

 د. خالد الرشيد

  

والمعارضة في المملكة لا تنطبق عليها صفة (الحزب) لأن هدف الحزب هو الوصول الى السلطة سواء بطريق انتخابي أو إنقلابي، فمعظم حركات المعارضة في المملكة أقرب ما تكون الى (جماعات الضغط) منها الى الأحزاب السياسية المتعارف عليها في العالم.

المعارضة في المملكة العربية السعودية لا تنطبق عليها في المجمل صفة (الحزب المعارض) فهي لا تسعى لإسقاط النظام السياسي، فتكون بذلك معارضة (جذريّة) (إنقلابية) (ثوريّة) تقلب كيان البلاد رأساً على عقب، في ثورة تغيّر معها الوجوه والسياسات والأولويات والأهداف في شتى المجالات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والفكرية وغيرها.

ورغم وجود أحزاب في المملكة، أو أنوية أحزاب، فإنها تميل الى التمثيل المذهبي والمناطقي، وبالتالي فهي من الناحية الفعلية تمارس دور جماعات الضغط الهادفة الى تحصيل بعض الحقوق لمن تمثلهم، دون أن يكون لها بالضرورة مشروعاً وطنيّاً. وحتى المشروع الوطني، النووي حتى الآن، فإن المساهمة فيه غالباً ما تعكس الرغبة في تمثيل الجماعة أو المنطقة، ويستهدف الدخول في الإطار الوطني إصلاحاً عاماً ينعكس على الوضع الخاص بالمنطقة والجماعة المذهبية أو القبلية.

هذا لا ينفي أن أحزاباً سعودية نشأت وتحركت على مساحة واسعة من أرض الوطن، كالحزب الشيوعي، وحزب البعث، والحزب الديمقراطي، واتحاد شعب الجزيرة، وحزب العمل الإشتراكي وغيرها، هذه الأحزاب، رغم أن أجندتها وأيديولوجيتها تتسع لكل الوطن، إلاّ أن الصبغة الأيديولوجية والصيغة الحزبية (كأداة) سياسية لم تترسخ في الوجدان الجماهيري، فكان أن حققت فشلاً في إيجاد أرض صالحة لنموها كقوى حزبية معارضة على المستوى الوطني.

وبغض النظر عن هذا، فإن هذه الأحزاب ذات الأيديولوجية العريضة التي يفترض فيها أن تخترق الحواجز والأطر الضيقة، لم تفلح كثيراً في الخروج من شرنقة المذهب والمنطقة، ومثل هذا وجد في كثير من الأحزاب العربية، التي ولدت في بلدان ترتفع فيها الحدود بين الجماعات والأثنيات والأيديولوجيات، بحيث انعكست على العمل الوطني بمختلف توجهاته.

غير أنه ينبغي الإلتفات حالياً، الى حقيقة وجود معارضة ـ وإن كانت غير منظمة ـ تسعى الى التغيير الجذري الشامل، أي الى اسقاط النظام والسيطرة على الحكم، ونقصد بها المعارضة السلفية، أو بعض أجنحتها التي تميل الى استخدام العنف، باعتباره الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك الهدف.

وبسبب حدّة الإنقسامات الداخلية في المملكة، وتباعد المناطق، صار من الصعب كثيراً إيجاد حركة وطنية شاملة تتفق على أهداف محددة وبرامج عمل مشتركة. ويلعب غياب الهوية الوطنية دوراً مهماً في تقزيم عمل المنظمات السياسية ضمن محيطها الإجتماعي وانتماءاتها المناطقية والمذهبية وربما الأثنية. وهذا الأمر رغم أنه يمنح الحكومة راحة وفرصة في ضرب كل تجمّع معارض على حدة بمعزل عما يجري في المناطق الأخرى، ويتيح لها الفرصة للتلاعب بالقوى الإجتماعية وتحريض بعضها على بعض، في ظل تباعد جغرافي ونفسي وثقافي عن الآخر.. إلاّ أنه من الزاوية الأخرى خلق مشكلة عويصة، هي جذر مشكلة الدولة السعودية نفسها. ذلك أن انحصار التجمعات الوطنية في مناطقها، أعطى فرصة التمثيل الضيق للجماعة ومصالحها وحدود الجماعة أرضاً وثقافة وشخصية، وبالتالي فتح باباً لإمكانية (التقسيم).

بمعنى أن غياب التمثيل الشامل في مؤسسات الدولة كما في المعارضة، يؤدي بصورة تلقائية الى الإنحصار في توجه معين ومصالح مجموعة محددة، ومن ثمّ إذا فشل الإصلاح السياسي العام، الذي هو القدر الطبيعي لكل مجتمع حيّ، فإنه سيفضي بلا شك الى التفكير في إمكانية الإنفصال عن الدولة التي لا تمثل الجميع مصالح ومشاعر وهويات، والتي فشلت في إيجاد القواسم الوطنية المشتركة والهوية التي تعزز الإنتماء للدولة بحدودها وقيادتها وثقافتها الوطنية الخاصة والتي هي جماع الثقافات الأدنى (المحليّة) والتي بإمكانها صهر تلك الثقافات في مطبخ واحد والخروج بترويكة ترضي الجميع وتجعلهم على قدم المساواة في الحقوق والمواطنة.

إن جماعات الضغط الحالية، سواء بين الشيعة أو الحجازيين أو أهل الجنوب أو سكان الشمال (الجوف) وغيرهم، من المهمّشين في السلطة، أو الذين لم يحظوا إلاّ بالقليل منها مقابل استهداف الهوية المحلية الخاصة من قبل الدولة.. هذه الجماعات يمكن أن تتحوّل بصورة طبيعية، الى حركات انفصال، وتتبلور لديها مشاعر العزلة والثقافة الخاصة بحيث تدفعها الى العمل باتجاه قيام دولة (الخاصة) أو استعادتها إن كانت قائمة من قبل كما في الحجاز.

في هذا الوقت، نحن نرى أن كل جماعة معارضة أو مختلفة مع النظام، أياً كان توصيفها حزباً أو جماعة ضغط، لا تستطيع أن تخرج من قوقعتها، وبالتالي لا تستطيع تمثيل غيرها، حتى وإن رفعت شعارات وطنيّة، أو دعت الى الإصلاح الوطني، فكل المطالب العامّة تغيب أمام مطلب صغير محلي (مدسوس) بين ثنايا مطالب الإصلاح العامة، أو حين يظهر على السطح شخص ينتمي الى منطقة محددة أو مذهب مختلف. فالسلفيون مثلاً يمثلون أنفسهم، ويفكرون بالإستحواذ أكثر على المناصب والمواقع والصلاحيات والإمكانات المادية، ورسالة المعارضة السلفية مذهبية مناطقية لا تستهوي الآخر، بل هي تخيفه بنزعتها الشمولية الإستحواذية، وهي تعطي عكس مفعولها، أي تجعل الآخر يرتدّ على ذاته، ويفكّر في مستقبل جماعته وتعزيز هويته. والفئات الإجتماعية غير السلفية تنظر بقلق الى تنامي التيار السلفي، وبقلق أكبر الى السلطات التي تمنح له من قبل الدولة، وكلما جاءت هذه الإمتيازات والتنازلات، تعزّز الشعور لدى غير الفئات السلفية بأن الإصلاح الوطني غير قابل للتطبيق، وأن الحل لا بدّ ان يكون عبر الإنسلاخ عن الدولة السعودية القائمة وتأسيس الدولة الخاصة، خاصة في ظل المغريات الكثيرة التي تتنازع الداخل غير السلفي، بين الأمل بوحدة وطنيّة صادقة يتساوى فيها الجميع غنماً ومغرماً، وبين فقدان الأمل بالإصلاح وبالتالي الركض وراء العروض الخارجية لتفكيك مقومات الدولة وأسسها.

هذا هو حال الحجازيين والشيعة وربما سكان الجوف، إن كانت القراءة آنفة الذكر صحيحة. ومن هنا فإن تأخير الإصلاحات، يعجل بدعوات التقسيم ويعزز مشاعر الإنفصال، ويحوّل التجمعات الموصوفة بالمعارضة ـ وهي مجرد جماعات ضغط محليّة أكثر من كونها معارضة او أحزاباً ـ يحوّلها بصورة تلقائية الى حركات انفصال تبحث عن مساعدات تمتد لها ـ ولاتزال حتى الآن ترفضها ـ بغرض إنهاء كيان الدولة السعودية، وتفتيتها الى مكوّناتها التاريخية مطلع القرن العشرين.

الحكومة السعودية من جانبها، مصابة بعمى الألوان، وهي ـ كما الإعلام شبه الرسمي ـ لا تميّز بين المعارضة والإختلاف، ولا تميّز بين جماعات المصالح والمعارضة، ولا تفرّق بين المعارضة السلمية والعنفية، كما لا تميّز في الأهداف الإصلاحية عما سواها من الأهداف الجذرية الراديكالية؛ كما لا تميز بين المعارضة الإصلاحية والتدميرية، ولا الفرق بين هدف إسقاط النظام وهدف إسقاط الدولة وتمزيقها. الخطاب الحكومي واضح: كلهم مفسدون مخربون، متآمرون مع الأجانب، إرهابيون، خارجون عن القانون!

وإزاء هذا التعميم، في الخطاب، كما في العقاب دونما تمييز بين صاحب الرأي وبين حامل السلاح، وبين الإصلاحي وبين التغييري الثوري.. وإزاء الجمود القاتل في حركة الدولة باتجاه إصلاح الوضع السياسي والإجتماعي والمعاشي للمواطنين، تظهر في الأفق علامات القلق من حقيقة أن الأمراء السعوديين لا يريدون مساعدة من أحد، فهم فوق المساعدة، وفوق الإستشارة او الحاجة إليها، بل ان تقديم الرأي يصبح جريمة، لأنه خطوة أولى لتدخل (أفراد) فيما لا يعنيهم، فهم يدخلون حقلاً خاصاً بالأمراء. إزاء هذا كله.. تبدو الأمور اليوم، وكأن جماعات الضغط أقرب الى الإقتناع بأن الدولة السعودية ـ الرافضة للإصلاح والتغيير الجزئي ـ أو غير القادرة على إنجازه، مخلوقاً غير مرغوب فيه، أو كالمريض الذي لا يرجى شفاؤه، وكأن هذه الجماعات تتحزّم للخطوة التالية ـ المنطقية بنظر البعض ـ وهي انحلال الدولة وأجهزتها، وهي ترقب الأمر عن قرب، وتستشرف المستقبل الآتي رغم ظلامه وعبوسه.

لقد حاولت وثيقة الرؤية الوطنية، تجميع الأطياف المختلفة، وجماعات المصالح والرأي في كل المناطق، وعبّرت عن الحاجة الى الإصلاحات وبسرعة، وكأن الموقعين عليها يقولون بأن الوقت لا يجري في صالح الجميع، والسرعة مطلوبة حتى لا تفاجأ الدولة بحرائق لن تكون قادرة على إطفاء لهيبها. استشعرت وثيقة الرؤية ذلك، وحددت المشكلة والعلاج، وألمحت الى المخاطر التي تحدق بوحدة الوطن، وأشارت بوضوح الى مصالح الجماعات المهمّشة في الدولة، وطالبت بإيقاف التمييز على أسس قبلية ومناطقية وطائفية. ولكن لم تكن هناك أية استجابة، وكل العيون اليوم ترمق نتائج التأخير: عنفاً وإرهاباً في كل مناطق المملكة، وخاصة في عاصمتها الرياض.

وفيما الأنظار تتوجّه ـ برغبة حكومية خاصة ـ الى الوضع الأمني المتدهور، وتحاول حشد الشارع وراء إنجازات أمنية وهمية مؤقتة، بغرض تغييب جذور المشاكل واستبعاد الحلول السياسية والطروحات الإصلاحية المكلفة لنظام الحكم، في هذا الوقت، هناك تحولات أخرى لا يجري التركيز عليها، أو هي بطبعها لا تلفت النظر، وهي مسألة تحوّل فئات اجتماعية من الطروحات الإصلاحية الى الطروحات الإنفصالية، التي بدأت تأخذ مساحة أوسع من الرأي العام، الذي بدأ يقتنع بأن آخر الدواء الكيّ.