المشترك بين السعوديين والأميركيين: مواجهة العنف أولاً

 رؤية أميركية مرتبكة للإصلاح السياسي في السعودية

 

مرتضى السيد

 يزعم دعاة الإستبداد بأن الديمقراطية واحترام حقوق المواطن والقبول بالتعددية تؤدي ـ في غياب مؤسسات المجتمع المدني ـ الى وصول (الإسلاميين) الى الحكم.. وهذا السبب وحده كافٍ  ـ من وجهة نظرهم ـ للمضي في سياسة القمع والديكتاتورية. ومثل هذه المقولة تتقولب في كل بلد بشكل مختلف، وتتغير بتغير الزمان وتبدّل الخطر. فالديمقراطية كانت مرفوضة عند الغرب إبان الحرب الباردة، لأنها تأتي بالشيوعيين، مثلما أتت ـ كما يقولون ـ بسلفادور اللندي وغيره في دول أميركا اللاتينية والوسطى.

 المهم، هو أن مهندسي الحريات والديمقراطية في الغرب، لا يريدون أن تستخدم الآلة التي ابتدعوها (وهي الديمقراطية) لوصول جماعات لا يرغبون في الوصول إليها، إما لسياساتها الإقتصادية التي تضرّ بمصالحهم، أو لسبب تكوين هذه الجماعات الأيديولوجي. ومن هنا، كان لا بدّ أن نصل الى المفارقة العجيبة والغريبة، وهي أن دول الغرب الديمقراطية، أصبحت أكثر عداءً للديمقراطية من غيرها، وأنها أكثر من دعم الأنظمة المستبدة في دول العالم الثالث. بمعنى آخر، أن الدعوة الى الديمقراطية لن تكون مقبولة إلاّ إذا جاءت ضمن نطاق وفي سياق المصالح الغربية، وضمن الإستراتيجية الغربية وصراعها الكوني، أولاً مع الشيوعية، وثانياً مع ما سُمي بالخطر الإسلامي، أو الإرهاب والأصولية الإسلامية. فالديمقراطية مقبولة ما لم يكن فيها (إسلاميون) فائزون، أو ـ أحياناً ـ بين الفائزين.

وبالطبع، فإن الأنظمة الحليفة للولايات المتحدة والغرب ـ خاصة في المنطقة العربية ـ ومن ورائهم بعض غلاة العلمانية، يحاولون ترسيخ فكرة أن زوال الأنظمة القائمة وفق عملية ديمقراطية لن يكون في صالح الغرب، وبالتالي فإن الإبقاء عليهم، يمثل إبقاءً للحصون الأولى المتقدّمة له، باعتبار أن البدائل (كلّها) لن تكون أفضل مما هو موجود في خدمة السياسة والمصالح الغربية. ونتيجة لذلك، بقيت أنظمتنا العربية متهورة في قمعها واستبدادها وفسادها، اعتماداً على ما توفره المظلّة الغربية من حماية وتغطية.

في الحالة السعودية، لم يطرح في الدوائر الغربية صانعة القرار، موضوع التغيير والإصلاح ـ وبجديّة ـ إلا مؤخراً، أي بعد أحداث نيويورك، وفي مواجهة ما أُسمي بالراديكالية الإسلامية، وكان لا بدّ من مناقشة وضع التيار الديني في المملكة ودوره في صناعة القرار، ومستقبله ضمن العملية التغييرية، وفي سياق الرؤية العامة لمستقبل المملكة التي نظر اليها الغربيون بأنها (شيطان) يجب شطبه وإلغاؤه، أو تدجينه بالأداة الديمقراطية إن أمكن.

 مواجهة التطرّف الديني السلفي

 حين ووجهت الإدارة الأميركية بأحداث سبتمبر، رأت أن الوقت قد حان لتغيير المملكة الحليفة، من باب الدفاع عن النفس ـ رغبة واضطراراً ـ بعد أن كان (الإسلام السعودي) النموذج الذي روجت له وامتدحته لعقود طويله، إما مقابل الإيديولوجيات القومية ـ الناصرية تحديداً ـ أو مقابل الإسلام الشيعي الإيراني المعادي في تكوينه للغرب والولايات المتحدة وإسرائيل بشكل خاص.

الرأي الأول الذي جرّبه الأميركيون، هو محاولة الفصل بين الوهابية وآل سعود. وهو رأي يستهوي الكثير من اللبراليين داخل المملكة، ويقوم على أساس أن الوهابية ـ بما تمثله من مؤسسات ومراكز قوى هائلة داخل الدولة ـ أضحت عبئاً على صانع القرار السياسي، وعلى المجتمع السعودي نفسه؛ وأن في إزاحتها أو فصلها عن الدولة، إضعاف لها، وتوسيع هامش حرية الحركة السياسية لصانع القرار والمواطن على حد سواء.

وجاءت الضغوط الكبيرة على العائلة المالكة، داخلية وخارجية، بهذا الإتجاه، ولكن المسؤولين، وخصوصاً الجناح السديري، بدا وقد استوعب تجربة وتاريخ المملكة، أن فصل الوهابية عن آل سعود، يشبه الى حد بعيد فصل التوأمتين الإيرانيتين، فنسبة النجاح قليلة، واحتمالات موتهما معاً ـ آل سعود والوهابية ـ أمرٌ محتمل الى أبعد الحدود! ولهذا لم تنسق العائلة المالكة في مواجهة شاملة مع الوهابية أو حتى تسعى لتقليص نفوذها، بعكس ما يتراءى ظاهرياً، فإن العائلة المالكة إن أخذت من مواقع المؤسسة الدينية من جانب، فإنها منحتهم إياها أو نظيرها من جانب آخر؛ ولعلّ ما يعكس واقع السياسة السعودية هو الإعلام السعودي نفسه الذي زيد من جرعاته (السلفية) حتى فاقت حدّ الإمتلاء.

استطاع المسؤولون السعوديون مواجهة الضغوط بإقصاء الوهابية، وتساهلوا في تقديم بعض التنازلات ـ الشكلية حتى الآن ـ في موضوع المناهج والجمعيات الخيرية، دون التفريط في أصل العلاقة والتحالف الوهابي ـ السعودي الذي خدم الطرفين منذ أن قامت الدولة السعودية الحديثة، بل حتى قبل قيامها. ومن هنا، لا يمكن للمسؤولين السعوديين المجازفة بفصل التوأمين عن بعضهما نصرة لـ (الدولة وآل سعود)، وإن كان قلّة من السلفيين يرون ضرورة الفصل انتصاراً للمذهب. إن التيار العام في الجانبين يرى استمرار التحالف، وهناك إدراك كاف من كليهما بأن القطيعة ستضرّ بهما معاً، مهما كان رأي كل طرف في الآخر. الأمر الذي يمكن التنازل بشأنه هو تعديل طفيف في موازين القوى بين الطرفين يتناسب مع حجم التغيرات الداخلية والإقليمية والتحديات التي تواجهها المملكة.

هناك رأى آخر معاكس يلاقي صدىً بين أعضاء الكونغرس وفي مؤسستي الدفاع والأمن القومي، ويقوم على عدم الفصل بين آل سعود والمؤسسة الدينية الوهابية، وتحليل هذا الجناح يميل الى الإقتناع بأن السياسة والدين في السعودية لا يمكن الفصل بينهما، كما لا يمكن تحميل المؤسسة الدينية وحدها وزر أحداث سبتمبر وانتشار العنف في كل أصقاع العالم. ومن هنا كانت هناك مقترحات راديكالية من هذا الجناح، تقوم على إضعاف ـ إن لم يكن إزالة ـ الحكم السعودي برمّته، وكذلك تقسيم السعودية الى ثلاث دول، تحيّد الخطر القادم من وسط الجزيرة العربية (نجد). وفي هذا السياق جاءت أقوال ريتشارد بيرل شبه العلنية بأن أيام العائلة المالكة باتت معدودة. وهناك ـ أيضاً ـ الكثير من الكتاب والمحللين الغربيين الذين لهم ميولهم السياسية المعروفة، ممن يعتقدون بهذه الآراء، لعلّ آخرهم روبرت بئير صاحب الدراسة المشهورة: سقوط البيت السعودي، The Fall of the House of Saud والذي نشر في يوليو الماضي كتاباً بعنوان النوم مع الشيطان Sleeping with the Devil كرّس فيه نظرية التآمر بين الوهابية وآل سعود ضد أميركا ومصالحها وتالياً ضرورة التخلّص منهما معاً.

 الحل الديمقراطي

 وهو حلٌّ بدا مهماً في تجفيف مصادر العنف الآتية من السعودية. فالقناعة المشتركة بين أقطاب السياسة الأميركية بكل أجنحتها وألوانها ترى أن الأنظمة المستبدّة في الشرق الأوسط بطبعها مولّدة للعنف، وقد كان هذا العنف فيما مضى قابلاً للإحتواء داخلياً، ولكن شدّة القمع والقسوة نثرته في كل أنحاء العالم. ولذلك أصبح العنف خارج حدود السيطرة (القطرية) وإن كان يستقي أسبابه وتمتد جذوره من (القطرية) نفسها. لذلك جاءت مبادرة الشراكة الشرق أوسطية، والتي تهتم بتشجيع الديمقراطية في الشرق الأوسط، خاصة في السعودية، على أمل أن تغيّر المبادرة من المناخ المفرّخ للعنف.

لكن الإدارة الأميركية ـ وفيما يتعلق بالشأن السعودي على الأقل ـ اصطدمت بمسألتين خطيرتين جعلتا من مشروع الدمقرطة ضئيل القيمة:

الأولى ـ هي أن الولايات المتحدة، كانت تحثّ على استخدام المزيد من العنف، أو المزيد من التضييق على مصادر التمويل والفكر الذي تعتقد أنه يفرز العنف، دون النظر الى طبيعة ظروف الدولة السعودية نفسها؛ وهي بهذا أصبحت داعماً لمشروع (القمع والإستبداد) الرسمي قبل أن تدعم مشروع الديمقراطية. بل أن المسؤولين السعوديين وكلما تحدثوا عن (خصوصية) المجتمع السعودي، ردّ الأميركيون بالمزيد من المطالب التي لا يمكن أن تتحقق دون أن تثير المزيد من النقمة الداخلية، والمزيد من العنف والعنف المضاد. وكما قلنا، فإن الأولوية الأميركية لم تكن يوماً تميل الى الديمقراطية، وهي هنا بدت كحلّ لأزمة، ولكنها وضعت في سياق تشجيع العنف السلطوي، ليس المتوازي مع الديمقراطية بل سابقاً لها. بمعنى أن الإدارة الأميركية تحثّ بشكل آني وسريع على استخدام سلطات الدولة كحلّ لغائلة العنف والتطرف، ولكنها لم ترفق هذا التحريض بـشيء ما يشبه (الجزرة) ويعطي أملاً بتغيير سياسي إصلاحي. الذي حدث عكس هذا تماماً، ففي حمّى الإنشغال بمكافحة العنف الداخلي بعد تفجيرات 12 مايو الماضي في الرياض، رأت واشنطن وحليفاتها الغربيات، أن وقت الحديث عن الديمقراطية والدفع باتجاهها لم يحن أوانه، بل يجب السكوت ريثما تقوم الحكومة السعودية بتصفية جيوب السلفية العنفية، وهو أمرٌ لا يبدو أنه سيحدث على وجه اليقين، وقد يستمر الإضطراب الى وقت طويل قادم.

الثانية ـ أن الغرب لا يرى سوى لاعبين سياسيين أساسيين: السلفيون وآل سعود. وبمعادلة بسيطة، وحسابات مغلوطة، رأى أن إضعاف العائلة المالكة فيه تعزيز لدور السلفية وزيادة في سيطرتها على مقدرات الدولة. وبغض النظر عن أدوات الصراع (العنفي عبر المواجهة المسلحة، أو السياسي عبر صناديق الإقتراع) فإن الدوائر الأميركية لا شك ستنحاز لصالح العائلة المالكة، التي تريد تأجيل الإصلاح السياسي معتمدة على دعاوى نفوذ السلفية المتطرفة، وأن رجال الحكم الحاليين أفضل من ديمقراطية تأتي بالمتشددين.

هنا، تبدو الديمقراطية، من وجهتي النظر الرسمية الأميركية والسعودية ليست حلاً في مواجهة المتطرفين والتطرّف، أو على الأقل لا تحتلّ أولوية في الأجندة السياسية.

 الديمقراطية عدو لأميركا، والسلفيين وآل سعود

 هل يصل السلفيون الى الحكم؟ بل هل يصل المتشددون إليه ويقصون آل سعود الى الأبد؟ هل مخاوف الغرب في محلّها، وهل كُتب على السعودية أن تكون أمام خيارين لا ثالث لهما: الإستبداد الديني السلفي، أو الإستبداد السياسي السعودي؟

ينبغي التشديد على أمور عدّة قد تفوت المراقب السياسي لحركة التغيير في المملكة:

أولاً ـ إن الإسلاميين (السلفيين) هم في الأصل جزء من المؤسسة الرسمية السياسية؛ فبعكس التيارات الإسلامية في الدول الأخرى الشرق أوسطية، فإن السلفيين جزءٌ من النظام السياسي القائم؛ وما تشهده المملكة يمثل تزاوجاً للإستبداد الديني والسياسي معاً. إن السلفيين جزءٌ فاعل في صناعة القرار، أو التأثير عليه، وهم لا يحتاجون الى شرعنة لإدخالهم اللعبة السياسية، بقدر ما يشرعنون الوضع السياسي القائم على المذهبية السلفية. ومن هنا تتضح الكذبة الكبيرة المتخفية وراء: هل يصل السلفيون الى الحكم؟ إذ أنهم فعلاً مشاركون أساسيون ـ وليسوا ثانويين ـ فيه. بيد أن السؤال المطروح لا يتعلق بإشراكهم، بل بحجم حصتهم؛ فهل يميل (السلفيون) كتيار الى الإستفراد بالسلطة وإقصاء العائلة المالكة؟.

أحسب ـ فيما عدا فئة قليلة تمارس العنف المسلح ـ فإن أكثرية السلفيين يرون أن مصير الدعوة السلفية (الوهابية) مرتبط بمصير آل سعود. جلّ ما يريدونه، هو (إعادة التوازن) للتحالف الإستراتيجي بين المتحالفين، بحيث تمنح المزيد من السلطة للتيار الوهابي في تقرير مصير الدولة، بل والشكل الذي تأخذه، عبر مراجعة لاستراتيجياتها من جديد. ما نشهده اليوم بل ما شهدناه منذ مطلع التسعينيات، أي بعد الغزو العراقي للكويت، من محاولات سلفية سياسية، تمثل تعبيرات سياسية عن الحاجة الى مراجعة التحالف التاريخي بين الوهابية وآل سعود.. ذلك التحالف الذي أثبت قدرة مدهشة على الإستمرار، رغم كبواته المتكررة، وفشله في استيعاب الأفكار والوجوه والتوجهات الجديدة سواء بين السلفيين أنفسهم أو في إطار المملكة كلها.

في البلاد العربية الأخرى، يدور النقاش حول شرعنة الحركات الإسلامية لتعمل تحت مظلّة القانون، كما في مصر ـ الإخوان المسلمون وغيرهم ـ؛ وفي المملكة يدور الجدل حول شرعنة التوجهات الإسلامية غير السلفية، أما السلفية نفسها، فهي شريك يبحث عن دور أكبر، أو يحاول استعادة دور يعتقد أنه خسره لصالح السلطة السياسية الممثلة في العائلة المالكة. لذا فإن من الخطأ بمكان الحديث عن مسألة الديمقراطية كنقطة افتراق بين السلفيين والعائلة المالكة، لأنّها ـ أي الديمقراطية ـ ليست مدار الخلاف بين المتحالفين، فكلاهما يرفضها، لأسباب سياسية مصلحيّة، قبل أن يلقى عليها غشاء الدين والتراث والمزاعم بالخصوصية السعودية.

ثانياً ـ أمّا إذا فُرض التغيير والإصلاح على المتحالفين القابضين على السلطة اليوم، بضغط داخلي في الأساس، فإنه سيكون ضد مصلحتهما معاً، لأنه سيدخل لاعبين جدد الى الساحة السياسية يرفض القائمون الحاليون عليها إشراكهم فيها. من باب المبالغة الشديدة والجهل الكبير القول بأن السلفيين سيحتلون مقاعد البرلمان في أول انتخابات تجري في البلاد. ويعود الجهل والمبالغة الى حقيقة أن التيار السلفي يعتمد على أرضية مناطقية (نجد) لا تمثل أكثر من ربع سكان المملكة نفسها. وحتى بين سكان نجد، فإن تياراً عريضاً لا يرى في التيار السلفي ممثلاً له، ومن هنا ستكون حصة التيار السلفي وفي أفضل الفروض لا تزيد عن 15% من الأصوات. وهذا يهدينا الى حقيقة أن التيار السلفي يتمتع اليوم بحصّة تفوق حجمه الحقيقي، وأنه لا يعبّر عن التيار العريض في المملكة، وأن علو صوته لا يعود الى قوّة ذاتية بالضرورة، بقدر ما يعود الى حجم السلطة التي منحتها العائلة المالكة إيّاه، والتي تزيد في ظهوره الى الواجهة السياسية والإجتماعية، خاصة مع قمعه بسلطان الدولة وجبروتها وبإسم الدين الأصوات المخالفة له. وسيتبدد الكثير من هذا السلطان في أول انتخابات تقوم في المملكة.

إن تعاطف الشارع العربي مع كثير من الحركات الإسلامية، يعود الى عدم مصداقية الحكومات القائمة، والى تجبرها وظلمها لتلك الحركات وقمعها دونما مبررات، وإبعادها حتى عن الطرق السلمية للتعبير عن رأيها والوصول الى جمهورها. وهذا التعاطف المركب على بغض السلطات القائمة، وعلى ما يمكن تسميته بـ (مظلومية) تلك الحركات، كونها الأكثر تعرّضاً للقمع والإضطهاد، هو الذي يولّد لها شعبية مخيفة من أن أول انتخابات ـ على الأقل ـ قد تؤدي الى حيازتهم مقاعد كثيرة في البرلمان. وفضلاً عن هذا، فإن العملية الديمقراطية حين تبدأ، فإن الحركات الإسلامية تمتاز عن غيرها بوجود مؤسسات دينية تستطيع من خلالها حشد الأتباع، كما أن لديها قدرة فائقة على استخدام خطاب ديني ـ سياسي مبسّط للجمهور، له مقبولية واستيعاب وتأثير على الشارع.

لكن الحالة السعودية الدينية مختلفة تماماً، فبسبب الإنقسام المذهبي الحادّ، وغياب خطاب إسلامي جامع، وقف تأثير كل مذهب عند حدود أتباعه، سواء في الحجاز أو الجنوب أو الشرق، وهذا يضع حدوداً للعبة السياسية الداخلية، مهما بالغ البعض في النفخ فيها. ثم إن التيار السلفي، يعتبر ـ بنظر الأكثرية ـ حليفاً للعائلة المالكة، وليس معادياً لها، وبالتالي فهو مستهدف من الخصوم بقدر استهداف رجال الحكم أنفسهم، واليوم يشنّع بتصرفاتهم مثلما يشنّع بأفعال الأمراء؛ وعلى هذا الأساس لن تكون هنالك ميزة إنتخابية للتيار السلفي، فهو سيأتي الى جمهور له موقف مسبق منه، كيف لا وقد جرّبه على مدى عقود طويلة، وتمت تعبئته ضد التصرفات الخاطئة الكثيرة التي ارتكبها. كما أن الأصوات التي أخمدها رجال الحكم لصالح السلفية ستظهر على السطح، وستُخلق منابر جديدة تناقس المنابر السلفية، سواء كانت تلك المنابر دينية غير سلفية أم مؤسسات مجتمع مدني تستطيع التعويض عمّا هو (سلفي).

وفي الجملة، فإن ما يهدد به من طوفان سلفي سينتج عن الإنتخابات او البدء باللعبة الديمقراطية ناتج في أحسن الحالات عن قراءة مغلوطة للخارطة السياسية والإجتماعية والدينية في المملكة، وفي أسوئها ناتج عن تعمّد وتضليل تقوم به العائلة المالكة لإعادة تسويق نفسها سياسياً لدى الغربيين بالدرجة الأولى.

ثالثاً ـ هناك إرتباك لدى الإدارة الأميركية في كيفية الدفع بعملية التغيير السياسي في السعودية، فهي تريد ابتداءً ضرب التيار السلفي، العنفي على الأقل؛ وهي ثانية تريد خفض دور المؤسسة الدينية في الدولة؛ وهي تريد ثالثاً بعض الحريات التي يستفيد منها الجميع ـ دون السلفيين! ـ وهذا غير ممكن بالطبع، ورابعاً تريد البدء بإيجاد مؤسسات المجتمع المدني توازي المؤسسة الدينية الرسمية، دون لحاظ أن تلك المؤسسات لا يمكن أن تظهر بدون قرار رسمي من أعلى المستويات، وهو غير متوفر حالياً، وأخيراً ـ وبعد أن يتحقّق كلّ هذا! ـ تريد الإنتخابات التي تأتي تفصيلاً ضمن المواصفات الأميركية! ترى أي أحمق يعتقد بأن هذا سيحدث ودونما أولويات محدّدة، ومع وجود ممانعة عنيفة من العائلة المالكة؟!

يوازي هذا وجود إرتباك مماثل لدى النخب الإصلاحية في البلاد، فهي حتى الآن لا تعرف الطريق إلى التغيير السياسي، والآمال معلّقة على أن تدرك العائلة المالكة واقع البلاد والتغيير الجوهري الذي طرأ عليها وعلى علاقات العائلة المالكة بالأميركيين لكي تشرع في التغيير الحافظ على الدولة متماسكة. لكن البدائل التي لدى هؤلاء الإصلاحيين باهظة الثمن، يبدو أن القليل منهم مستعدّ لدفعها