إشارات مؤتمر الحوار الوطني

إصلاح حقيقي أم إعادة طلاء البيت السعودي

 

ناجي حسن عبد الرزاق

 

درجت العائلة الحاكمة السعودية على أن تدع رياح أزماتها تمر حتى تهدأ ثم تعاود مسلكها السابق وكأن الريح لم تهب. فهل تصرّف العائلة الحاكمة هذه المرة سيكون مختلفا عمّا درجت عليه سابقاً؟ أم لا زالت تحاول الإنحناء للعاصفة؟ من المؤسف أن تصرفات هذه العائلة حيال الإصلاح قد زرع الشك لدى المعارضين السياسيين من الإصلاحيين والمثقفين وحتى الراديكاليين. لقد أثبتت الخبرة التاريخية لآل سعود أنهم بارعون في الالتفاف على مطالب الجماهير الإصلاحية وإفراغها من محتواها. لكنهم من جهة أخرى، حريصون جداً على إرضاء الأمريكيين وقبول توصياتهم ذات العلاقة بأمنهم الاستراتيجي.

 سؤال جوهري

 حتى نقيّم رغبة الأمراء السعوديين في الإصلاح نطرح سؤالا ًمهماً، وهو: كيف تنظر المعارضة السياسية في الجزيرة العربية والعائلة الحاكمة السعودية لمعنى الإصلاح؟ إذا افترضنا أن هذه العائلة متفقة على أن الإصلاح يعني بالنسبة إليها التغيير الذي لا يفضي إلى تنازل حقيقي عن امتيازاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي احتكرتها خلال السنوات السابقة من حكمها، فهذا يعني أن عملية الإصلاح لن تكون إلا مجرد طلاء بألوان براقة. وهذا يعني كذلك أن التغييرات يجب أن لا تفضي إلى تقليص الامتيازات التي احتكرها الأمراء السعوديون بدون منازع.

ولهذا فالإصلاحات التي تنوي الحكومة السعودية القيام بها هي محاولة لترقيع ما أفسده نهجها في التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية خلال اثنين وسبعين عاماً تقريباً من حكمها الدكتاتوري. ومن هذا المعنى ستكون الجولة الحالية واللاحقة للمعارضة السياسية والفئات الشعبية المتضررة من هذه الدكتاتورية في امتحان حقيقي سيفضي إما إلى دفع العائلة الحاكمة لتقديم تنازلات حقيقية عن امتيازاتها وإما أن تتمكن من تمرير رؤيتها للإصلاح بالطريقة التي تخدم استمرار هذه الامتيازات لأطول فترة ممكنة قد تمتد لسبعين عاما أخرى.

من المسلم به أن يصر الأمراء السعوديون على إبقاء وضعهم الحالي كما هو بقدر الإمكان. إلا أنهم ليسوا بالضرورة قادرين على فعل ذلك إذا ما أجاد المعارضون الاصلاحيون السياسيون وجميع الفئات الشعبية المتضررة لعبة المد والجزر بهدف رفع مستوى الحراك السياسي الداخلي الذي يؤمّن مصالحها المختلفة. فالمتغيرات الدولية والمحلية صارت أمرا واقعا وبالتالي لا بد من تطويع هذه المتغيرات سياسياً لجعل العائلة الحاكمة السعودية تتعامل مع المطالب الاصلاحية بجدية وباعتبارها مطالب لا مفر من تحقيقها. وعليه فإن فرض واقع سياسي جديد هو ما يجب أن يكون من أولويات المعارضين السياسيين ونشطاء الاصلاح الحقيقيين في البلاد. أما الاستسلام لمطالب الأمراء، كالأمير نايف وزير الداخلية السعودي، التي تدعو إلى التريث في الإصلاح حتى تنجلي الغبرة، فستكون له آثار سيئة جدا على الاصلاح الحقيقي في بلادنا.

 يؤيدون الإصلاح، ولكن..

 إن الإجراءات التي يقوم بها الأمير عبد الله الآن، والتي يُراد وصفها بأنها إصلاحية يجب أن لا تغري الاصلاحيين الحقيقيين ولا الفئات الشعبية المتضررة. فهذه الإجراءات في الواقع تعكس شعور الأمراء بخطورة الواقع السياسي الداخلي الذي قد يتسبب في زوالهم أكثر من أي وقت مضى. وهذا الاستنتاج لا يبدو أنه غائب عن كل ذي لب سياسي، ولهذا فمن ينبغي أن يقدم التنازل هم الأمراء السعوديون وليس الجماهير المطالبة بحقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والمنهوبة من قِبل هؤلاء الأمراء.. وما هو في حكم اليقين هو أن العائلة الحاكمة السعودية لن تتنازل عن امتيازاتها إلا إذا شعرت بأن الثمن كبير جداً ومكلف بالنسبة لها.

تحاول العائلة الحاكمة السعودية الآن التحكم في مسير التغيير من خلال أخذ زمام المبادرة حتى لا تفقد قدرتها على المناورة وبالتالي تفقد سلطتها. ومن هذا الموقف انطلقت المبادرة (الإصلاحية) التي تبناها الأمير عبد الله وأسفرت عن عقد مؤتمر بالرياض مؤخراً وصف بأنه وطني. وحتى يتحول هذا المؤتمر إلى إنجاز وطني للأمير عبد الله (شرعية الإنجاز) كان أول توصياته هي اعتبار كلمة الأمير وثيقة وطنية يسترشد بها جميع أطراف الحوار.

فالعائلة الحاكمة تحاول أن تعلن عن مشاريع وإنجازات وحدوية وطنية تمنحها مشروعية إنجاز وطني يعزز مكانتها أمام الرأي العام المحلي والعالمي بعد أن فقدت مصداقيتها داخليا وخارجيا بسب نظامها المستبد والمحتكر للسلطة وممارساتها العنصرية ضد المواطنين من المذاهب والفئات الأيديولوجية الأخرى التي لا تتفق مع نظامها الحاكم ولا مع مؤسستها الدينية الوهابية السلفية. وعلى هذا الأساس يبدو أن العائلة الحاكمة قد استطابت حملات العلاقات العامة التي جربتها في المجتمع الغربي عموما والأمريكي خصوصا لتجربها داخلياً أيضا بهدف إقناع الرأي العام بأمرين:

1 ـ أن الحكومة السعودية جادة في محاربة الإرهاب والإرهابيين.

2 ـ أن الحكومة السعودية جادة في الاصلاح.

ولكن عن أي إصلاح تتحدث وعن أي إرهاب تتكلم؟

 الحكومة السعودية تتحدث عن الاصلاح الذي لا يؤدي إلى الإضرار بامتيازات الأمراء السعوديين السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبالنتيجة ربما كان الهدف من وراء المؤتمر الوطني الذي عُقد في الرياض مؤخراً هو الدعاية كجزء من حملة علاقات عامة جديدة داخلية وخارجية عبر سلسلة من الإجراءات المراوغة التي تفرغ المطالب الإصلاحية الوطنية من محتواها الحقيقي. وما يؤيد هذا الاستنتاج هو التوصيات المعلنة التي توصل إليها المؤتمرون. فلم تأت هذه التوصيات بما هو حقيقي في الاصلاح والتغيير الفعلي حيث لم تمس بوضوح وصراحة القضايا الوطنية العالقة، كقضية التمييز الطائفي والتوزيع غير العادل للثروة واحتكار السلطة وفساد الأمراء. كما لم تعلن هذه التوصيات بشفافية عمّا تضمنته المطالب الاصلاحية الوطنية والمذهبية التي وجِّهت للأمير عبد الله ولي العهد منذ مدّة. وربما كون المؤتمرين أوردوا بعض التوصيات المتعلقة بالتنمية العادلة بين مناطق المملكة واحترام حرية التعبير، فإنما لذر الرماد في العيون.

وحتى هذه التوصيات جاءت متناقضة مع مضمون توصيات أخرى وخاصة في التوصيتين الرابعة والخامسة. فعندما يوصي المؤتمرون بتوزيع برامج التنمية بين مناطق المملكة واحترام حرية التعبير من جهة، ويطالبون من جهة أخرى بالمحافظة على الوحدة الوطنية المبنية على العقيدة الإسلامية الصحيحة وعلى الثوابت الشرعية التي تستمد منها الدولة نظامها ويستمد منها المجتمع هويته وتعميق معاني البيعة والسمع والطاعة بالمعروف تحقيقا للجماعة ومنعا من الافتراق والتشتت واستتبابا للأمن بكل معانيه المادية والمعنوية، أو يوصون أيضا بالتأكيد على مكانة العلماء ودورهم في ضمان الوحدة الوطنية، ورد الشبهات، وتقويم الانحراف في فهم نصوص الكتاب والسنة وبخاصة بمجال الوحدة الوطنية وإجماع الكلمة في التعامل مع الآخرين المسلمين وغير المسلمين، فهم بمثل هذه التوصيات يقبرون حرية التعبير في مهدها لأنهم لم يشيروا بهذه التوصيات إلى ضرورة ضمان حرية التعبير بتشريع قوانين خاصة بها بل على العكس من ذلك إذ يمكن استغلال نص التوصية الثالثة عشر في الحجر على حرية التعبير من خلال المنهجية الشاملة التي تلتزم بالأصول والضوابط الشرعية.

وستتيح هذه التوصيات مساحة كبيرة للعلماء الرسميين المستقبليين ( علماء الدين في المؤسسة الدينية الرسمية القادمة ) ليمارسوا صلاحياتهم الديينة تحت مبررات المحافظة على العقيدة والمنهج الشرعي. هذه الحرية التي تزعم العائلة الحاكمة السعودية منحها للشعب ليست إلا حصان طروادة. إن التوصيات في مجملها ستعيق حرية التعبير الموجه للمؤسسة الدينية الرسمية التي يُراد لها أن تكون جهاز من مهامة إضفاء الشرعية الدينية على الحكم السعودي. كما سيكون سيف هذه المؤسسة مسلطا على رقبة كل منْ يوجه نقداً لنظام الحكم السعودي في توزيع الثروة واحتكار السلطة وفساد الأمراء وسرقة المال العام حيث سيُعتبر عندئذ مارقاً ومنحرفا ومثيراً للفتنة.

لقد غابت في هذه التوصيات عموماً النصوص الصريحة التي تشير إلى ضرورة التقسيم العادل للثروة الوطنية وليس تمرير هذا المعنى في عبارات مطاطة كتلك التي أشارت إليها التوصية السادسة. كما لم يشر أيّ من هذه التوصيات إلى المشاركة السياسية عبر آليات الانتخاب ونبذ التفرقة الطائفية والقبلية والمناطقية وفق أطر قانونية تتحدد لاحقا بتوصية تُعد خصيصا لهذا الأمر. كل ذلك لم يرد في نصوص التوصيات التي أقرها مجموعة من المشايخ من مختلف الإتجاهات، وكأن المراد من هذا الإجماع، على ما يبدو، هو الخروج ببهرجة إعلامية كجزء من حملة علاقات عامة توحي باتفاق وطني حول أمرين:

1 ـ أن الحكام السياسيين المتفق عليهم وطنيا هم آل سعود.

2 ـ أن المؤسسة الدينية هي جزء من نظام الحكم السعودي بعد إجراء تعديلات على شكلها الخارجي ولونها المرئي لتكون مقبولة داخليا وخارجيا. فعلى هذه المؤسسة أن تقبل بظهور تعدد مذهبي إسلامي أو تعدد آراء أيديولوجية أخرى بشرط أن تقبل هذه التعدديات المذهبية والأيديولوجية هذه المؤسسة كجزء من النظام السعودي الحاكم. وبهذه التسوية الداخلية تصل العائلة الحاكمة السعودية من وجهة نظرها إلى ما تسمية بالوسطية الدينية كحل لجميع الأطراف المذهبية والأيديولوجية في السعودية. وكأن الأمر هنا يتعلق بالبحث عن مشروعية للمؤسسة الدينية الرسمية التي لم تعد مقبولة داخل العربية السعودية وخارجها. وبهذه الطريقة تكون العائلة الحاكمة قد سدت إحدى اهم ثغراتها الداخلية التي قد يجري استغلالها من قِبل الأمريكيين في تفتيت السعودية إذا ما ارتأوا ذلك.

 إن الأهم في هذا الشأن هو أن تتساءل المعارضة السياسية والفئات الشعبية المتضررة من الحكم السعودي السياسي والوهابي الدكتاتوريين عن شكل التغيير أو الإصلاح الذي سيكون. فهل هو التغيير الذي يبقي الامتيازات كحق شخصي للأمراء بمباركة دينية وهابية أو وهابية – غير وهابية أم هو التغيير الذي ينقل هذه الامتيازات للجماهير المحرومة التي تمثل الحق العام؟ لا شك أن العائلة الحاكمة السعودية الآن تمر بمنعطف خطير يهدد كيانها. ولكنها تأمل أن تتجاوز هذه المحنة بشيء من الجراحات التجميلية التي لا تؤثر على جوهرها السياسي ولا الاقتصادي ولا الاجتماعي.

 قوى الإصلاح الوطني ومهمة التغيير

 على قوى التغيير الاصلاحية أن تعلن رفضها أو على الأقل عدم رضاها عن هذه التوصيات بصياغتها المعلنة والحالية، لأنها تقبل بسلطة قوى دينية تشرعن للطريقة التي تدير بها العائلة الحاكمة البلاد. كما تجعل من نفسها – المؤسسة الدينية الرسمية - قيّما على الآراء بحيث تظل حرية التعبير عن الرأي خاضعة لتفسيرات علماء الدين الرسميين. وبالتالي فمهمة المؤسسة الدينية الرسمية قمع الرأي الآخر الذي يتعارض مع المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية للعائلة الحاكمة السعودية أو يتعارض مع الهيمنة الدينية الرسمية. وبهذه الطريقة المحتملة يكون الهدف للنظام السعودي في هذه المرحلة هو تأسيس قوى دينية جديدة لتشكيل مؤسسة دينية رسمية مقبولة من جميع الأطراف لكي تبقى شرعية نظام الحكم السعودي الدينية مستمرة ولكن بثوب جديد مطلي بألوان براقة وشعارات زائفة لا تمثل الإصلاحات الحقيقية بأي حال.

 إن الكثير من المواطنين ومنهم الشيعة في الجزيرة العربية يعتقدون الآن بأن ما صدر من توصيات لا يمثل تطلعاتهم. لأن الإصلاح الحقيقي هو ذلك التغيير الذي يفضي إلى تنازل الأمراء السعوديين الحاكمين عن امتيازاتهم الحقيقية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتخليهم عن المؤسسة الدينية تحت أي مسمى أو لون أو صيغة، وعدم اعتبارها جزءاً من نظام الحكم، بل تبقى المؤسسة الديينة خارج الحكم ومشكَّلة من جميع الأطياف المذهبية في البلاد. أما عدا هذا فيعتبر تغييرا مجردا من المعنى الحقيقي للإصلاح وبالتالي يتحول إلى طلاء لتغيير الشكل الخارجي لنظام الحكم وهو ما يستدعي عوامل التطرف والإرهاب من جديد.