توجيه العنف من الدولة وإليها
الجذور المحلية للعنف السياسي

 منيرة عبد الرزاق

 الميل المتعاظم نحو القذف بمسؤولية انفجار الظاهرة العنفية في المملكة خارج الحدود يمثل أحد تعبيرات رفض الاعتراف بالمشكلة وبالتالي رفض البحث عن حل. فقد حمّل الأمير نايف وزير الداخلية قبل عدة أشهر جماعة الأخوان المسلمين مسؤولية نشوء الفكر الديني المتطرف ومن ثم إنجاب جماعات راديكالية تتخذ من العنف وسيلة لتحقيق أهدفها السياسية. ثم جاءت أحداث الرياض في الثاني عشر من مايو الماضي لتدار الاسطوانة مرة أخرى، فاستجاب بعض رجال الإعلام السعوديين لفكرة العنف كبضاعة مستوردة. وتتكل مزاعم هؤلاء على أن المملكة لم تشهد ظواهر عنفية في أشكالها المدوّية الا منذ  ما يقرب من العقد من الزمن.

في حقيقة الأمر، أن هذا النوع من التفسير رغم سطحيته الا أنه يركن الى شكل وبعد محددين من ظاهرة العنف، وهو العنف الموجّه ضد الدولة، والذي أخذ طابعاً مسلّحاًً. بهذا التحديد نعم تعتبر الظاهرة العنفية حديثة العهد في هذا البلد، ولكن حين ينظر الى العنف باعتباره ظاهرة ممتدة في شكلها وأبعادها، فإن العنف قديم وأصيل في الدولة وفي مستودعها العقدي، فالدولة لم تنشأ الا على أساس الاستعمال المفرط للعنف المسلّح، ولم تتوحد الا بحد السيف ونحر الرقاب وإهراق الدماء وترويع سكان المناطق الأخرى واستباحة الممتلكات.

العنف لم يتوقف حتى بعد قيام الدولة السعودية الثالثة عام 1932 فقد تحوّل جزءاً من سياسة الحكومة مع السكان من أجل بسيط السيادة وإخضاع المناطق، هذا العنف الذي عكس نفسه في مصادرة حرية الاعتقاد وإكراه السكان والمقيمين على التعبّد بطريقة محددة، وتكفير المخالفين، والدعوة الى استئصالهم والتحريض على القتل والتضييق على من لا يعتنق العقيدة الدينية الرسمية. فقد كان عنف الدولة موجّهاً ضد المجتمع يقوده التيار الديني المتشدد الذي لم يوقف عنفه ضد المجتمع بل فتح جبهة جديدة وهي العنف ضد الدولة، حين أخفقت الأخيرة عن تلبية الحاجات الأساسية للسكان وبلغت البطالة حداً مخيفاً (32 بالمئة) فيما تجاوز الدين الداخلي حدود 180 مليار دولار فضلاً عن الانهيار المريع في الخدمات الصحية والتعليمية.

هذه المقدمة التوضيحية تخبرنا بأن انتشار ظاهرة العنف السياسي وتسارع وتيرته إلى مستويات خطيرة في المملكة بات يهدد بحروب دامية وحالات استنزاف شديد لقوى المجتمع والدولة. ظاهرة العنف بدأت في مساحة محدودة ولتحقيق اغراض أيضاً محدودة من قبيل قتل الأجانب ثم تصعّدت الى مستوى منابذة الأجانب في شبه الجزيرة العربية على خلفية دينية واقتربت الآن الى حد مواجهة سلطة الدولة وارغامها على الاستجابة لمطالبها أو لاسقاطها وتأسيس بديل ديني عنها.

ظهور أزمات أمنية وإقتصادية وسياسية واجتماعية رفعت من إمكانية التوسل بالعنف بشكل واسع، فباتت الحياة السياسية السعودية تشهد دورة من العنف لا تكاد تنتهي. جاءت أعوام التسعينات لتضيف مخاوف جديدة منذ ان خلقت أزمة الخليج الثانية مناخاً جديداً من التوتر بين المجتمع والدولة حيث بدأت قوى سياسية محلية بمحاسبة السلطة وتقديم مطالب الاصلاحات السياسية

غدت المواجهة العنيفة، الممارسة اليومية الاكثر شيوعاً واستخداماً سواء من جانب السلطة الحاكمة واجهزة الدولة وسواء من الطرف المقابل، ولم يقتصر العنف على الممارسة المادية والفعل اليدوي، بل سرى بشكل واضح إلى الممارسة الفكرية والثقافية، واصبح العمل الثقافي ملغوماً بلهجة العنف الحاد والارهاب الفكري.

وما يهمنا في هذه المقالة هو إقتفاء أسباب العنف السياسي بين التيار الديني المتشدد والحكومة وربما المجتمع ، والى أين تتجه دوامة العنف والى ماذا تقود نتائجها؟

ان التوسل بلهجة ذرائيعية سعياً نحو تبرئة ساحة الدولة أو الفكر الديني الناشط في فضائها وتحميل (الآخر) الخارجي، الممثل في الاخوان المسلمين، والمجاهدين العرب في أفغانستان أو حتى حركات راديكالية في المغرب العربي على خلفية تفجيرات الدار البيضاء لا يقفل ملف القضية، بل هناك من الاسباب الكافية ما يجعل العنف السياسي بالاشكال التصعيدية التي يرتديها ويتمثلها ظاهرة جديرة بالدراسة في سياق البحث عن تقديم تفسيرات دقيقة لنشوبها وارتساماتها الاجتماعية والخلخلة العنيفة التي تحدثها في بنى المجتمع والدولة معاً.

وحري القول بأن السؤال عن شهادة منشأ للعنف السياسي في المملكة أصبح سلوة أهل السلطة وليس المراقب، فالأخير بات يعلم من قراءة أدبيات الجماعة والظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وهكذا الأوضاع الاقليمية والدولية بأن العنف ليس نبتاً غريباً في هذا البلد، وجاءت الظروف الأخرى كيما يعاد تنشيط عناصر العنف في الفكر الديني المتشدد تكويناً لتحويله الى ذخيرة في حرب الذات المغتربة والجنوح بها نحو العنف ضد الآخر، بلا هوية.

وحين عجزّت تلك الفئات المدرّبة على الخيارات القصوى في التعبير عن ذاتها واحتياجاتها في أن تجد قنوات تعبير سالكة وكفيلة بإيصال الصوت، قررت ومن واقع الانسداد الشامل في أفق الدولة وقنواتها أن تلجأ الى ما ألفت من لغة التعبير المدوّية، والتي أخذت طابعاً عنفياً وتعصبياً فاحشاً. فشمولية الدولة أنتجت جنينها الشمولي، ألا وهو التيار الديني المتشدد، بتبني خيارات شمولية تهدف الى الاطاحة بكل النظم وإزالة كل البنى المجتمعية وإقامة البديل الانفرادي.

ففشل الدولة في الايفاء منذ أواسط الثمانينات بما وعدت بوصفها دولة الرفاه المتكفّلة بحسب تكوينها ووظيفتها أن تدفع ثمن شموليتها مالاً ووظائف ورفاهاً وخدمات، أدى من الناحية العملية الى إنفصام الرابطة السببية بين السلطة والمجتمع تأسيساً على أن الرابطة تلك نشأت من أجل تحقيق منفعة متبادلة يمكن تكثيفها في معادلة الولاء مقابل الرفاه.

الدولة التي وعدت رعاياها بالعيش في فردوس الأرض تحوّلت الى جحيم بالنسبة لكثير من الرحّالة المحليين الباحثين عن وظيفة محتشمة ومقعد في الجامعة وسرير في مستشفى قبل التفكير في مأوى وسيارة ورصيد في البنك باعتبارها من مزايا دولة الرفاه غير القابلة للعودة للحياة مرة أخرى. هذا الجحيم هو ما يغذي مشاعر التضحية بالذات، من أجل وضع حد لرحلة البحث المضنية عن مخرج آمن من بؤس العيش الفاقدة للكرامة.

فالانجراف المتواصل نحو عالم مليء بكل أمتعة الدنيا ومتعها يحدث تدميراً للذات غير قابل للتعويض حين تعجز الذات عن الارتقاء الى مستوى الحصول على جزء من تلك الامتعة حيث تنهض خيارات الحسم المتطرفة، فإما الارتهان الى ذلك العالم والتسليم به والقبول بكل املاءاته أو تفجيره. حسم الخيارات من أجل تحسين الظروف الخاصة بالأفراد والجماعات جاء دائماً متطرفاً في السنوات الأخيرة بسبب عجز الدولة وإهمالها المقرف.

فحين أهملت الحكومة ممثلة في عصبة العائلة المالكة النداءات الراشدة من أجل تأمين طريق آمن للخروج من أزمة الدولة المتشابكة بتبني النهج الاصلاحي، قدّمت مبرراً إضافياً لجماعات العنف كيما تنفرد بالحل على طريقتها في التعامل مع مشكلات الداخل، تماماً كما أن البلاهة السياسية في مارس 1992 قدّمت للعائلة المالكة مكافأة مدوّية في الرياض (1995) والخبر (1996) وكأن تفجيرات الرياض في مايو 2003 تسخر من بلاهة الموقف الرسمي من نداءات العقل المنطلقة قبل أشهر والمجمعة على أن صلاح الوطن بإصلاحه، كما أخبرت عن ذلك حكمة الموقعين على وثيقة الرؤية، والتي كان بإمكان العائلة المالكة أن تنظر إليها دون خشية كرسالة إخلاص لن تتكرر في سياق تاريخي تسير فيه الدولة الى مصير معلوم، وكان بإمكان السلطة أن تخمد الأصوات المجنونة والظواهر العنفية المتوحشة.

إستحواذ لغة الذعر على الجهاز الأمني بقيادة وزير الداخلية والعودة المملّة للهجة التوعيد القاسية كأسلوب في التعامل مع الظواهر العنفية لا يعدو كونه سوى عبثاً يستهدف التعامل مع الظواهر بطريقة ساذجة ومباشرة تبقي المهتمين منشغلين بسطح المشكلة وتنسيهم الحاجة لسبر الاعماق. وهذا ينبىء عن إصرار لدى وزارة الداخلية بأن الظاهرة العنفية طارئة وليست متصلة بأوضاع وظروف محلية خالصة بل هي إستجابة ثقافية وتحريضية لفعل خارج الحدود.

تزايد الطلب على العمليات الانتحارية وانتشار مخصبّات الظاهرة العنفية في المملكة يتحول فيها الدين الى مصدر إحتماء وذريعة ووعد، إحتماء من غدر الدنيا ممثلة في الدولة، وذريعة من أجل إحقان الشعور الديني بأمل إنبعاث دولة تطبيق الشريعة، ووعد حيث يكون الدين أيديولوجية تحرر في الدنيا ووعد حيث يكون الدين معبراً لدخول الجنة مع خروج الروح من الجسد في عملية انتحارية ـ إستشهادية ضد أعداء الله والعقيدة.

واضح هنا أن الدين والنص الديني يتم تأويله تحت وطأة إكراهات نوعية سياسية واجتماعية وايديولوجية يمكن التنبوء بما ستسفر عنه قراءة من هذا القبيل من نشوء صيغ ايديولوجية وتنظيمية. حينئذ ليس هناك ما يدعو للغرابة حين تخرج الجماعة المتأوّلة هذه بمواقف راديكالية تنبذ التسامح والانفتاح والتنوع. هذه الجماعة حين تقرء في سياق إحتكار السلطة من فئة وفقر مادي وربما معنوي يصبح العنف أحد الروافد النشطة للفعل الدفاعي الكتلي ويصبح الدين القوة التبريرية الدافعة الى تحفيز الفعل ذاك.

 التفسير الآخر للعنف المحلي

 كان الخطاب الاعلامي  المحلي في السعودية حتى قبل سنوات قليلة عديم الفاعلية والجدوى في ملامسة القضايا الاجتماعية والمشاكل السياسية والاقتصادية وايجاد الحلول لها، لانه ينتهي في الاغلب لصالح الدولة ضد المجتمع وعلى حسابه وكان يوفر لها الغطاء القانوني للتمادي أحياناً في السياسات الخاطئة والتي بها تم خنق الصوت الآخر أو إضعافه لدرجة انّه حتى وقت قريب كان غير مسموع، وفي مثل هذه الاجواء التي تغلق فيها أبواب الامل والتغيير والخاضعة لعنف مباشر وغير مباشر يتوالد العنف المضاد وتكتمل دورة العنف السياسي لتسيطر على الحياة العامة، ولتأتي النتائج المدمرة على اكثر من صعيد، من أشدّها إيلاماً انتهاكات صارخة لآدمية الإنسان وحقوقه الاساسية، فمن هو المسؤول عن ذلك، هل الفكر الديني المتطرف، ام الدولة التسلطية القمعية، أم كلاهما؟!

حين نقرأ العنف من زاوية مولّداته لا بد أن نتعامل مع حزم متعددة الأبعاد، لأن العنف لا يولد من مصدر واحد. فمبررات العنف متفاوتة القوة والتأثير والفعل، ولابد من الاحاطة بجميع تلك المبررات وفق المجالات المندرجة فيها:

في المستوى السياسي هناك قائمة من المبررات على النحو التالي:

أ ـ شمولية وتسلط النظام السياسي وغياب المشاركة الشعبية والتمثيل السياسي المتعادل.

ب ـ إفتقار الدولة لآليات تتيح للقوى السياسية فرصة التعبير عن آرائها ومزاولة العمل السياسي التنافسي.

جـ ـ غياب المؤسسات الديمقراطية القادرة على إيصال أصوات الشعب الى السلطة. فالالحاح على إستعمال المجالس المفتوحة كآلية نهائية ووحيدة لايصال الصوت والحاجات قد يصلح في التنظيم الاجتماعي البدائي وليس في ظل دولة واسعة ومنظّمة وممأسسة.

د ـ التوسل بالأساليب القهرية  في التعامل مع أصحاب الرأي الآخر سجناً وتعذيباً ومنعاً من السفر وحرماناً من الوظيفة.

هـ - انسداد قنوات التغيير السياسي وإخفاق الخيارات السلمية في دفع السلطة على إصلاح ذاتها وتالياً تبدد الأمل في الدولة كأفق للتغيير السياسي.

و ـ تجاهل الدعوات المتكررة بضرورة عقد حوار وطني لمناقشة القضايا الاساسية والمصيرية على المستوى الوطني سعياً وراء إيجاد حلول حاسمة وعادلة وصولاً الى تحقيق الاجماع الوطني.

على المستوى الاقتصادي تندرج المبررات التالية:

أ ـ الاختلال الطبقي الحاد بسبب التوزيع غير المتوازن للثروة، حيث يقابل طبقة الاثرياء المحدودة العدد نسبة سكانية عالية تعاني الفقر وتعاني قسوة غياب العدالة الاجتماعية وتزايد التفاوت الطبقي.

ب ـ فشل وعجز الدولة عن تلبية الحاجات الاساسية للمواطن كالعمل والتعليم والاسكان والعلاج.

جـ ـ إنسداد أفق الحل الاقتصادي الشامل، وتوقف شبه تام لعجلة التنمية بتوقف الخطط الخمسية.

على المستوى الفكري هناك مبررات عديدة من أهمها:

أ ـ إفلاس الخطاب الايديولوجي للدولة، فالاخفاقات المتوالية للسلطة في مجالات: التنمية الداخلية والقضية القومية والاسلامية (فلسطين مثلاً) وحتى على المستوى الاقليمي (الوحدة الخليجية ومتعلقاتها) كشفت خواء الخطاب السياسي للدولة السعودية.

ب ـ أزمة الهوية الحادة للدولة السعودية، فانهيار الاوضاع الاقتصادية قد فجّر أزمة خطيرة مرتبطة بتكوين الدولة ومصيرها، حيث أن الهوية إرتبطت بقدرة السلطة والعائلة المالكة حصرياً على توفير كمية مال وفرص معيشية محتشمة كافية لاخماد أو تأجيل السؤال عن الهوية، فكان السكان يقبلون على مضض بأنهم سعوديون طالما أن الاحوال المعيشية مستقرة، ولكن مع التردي المتواصل في الاوضاع الاقتصادية شعرت العائلة المالكة بأن السكان باتوا غير حريصين بل وممانعين للتمسك بهوية لم يحصدوا منها سوى الحصرم أي الحرمان والبؤس.

على المستوى الاجتماعي، تبرز المبررات التالية:

أ ـ نشوء قوى إجتماعية مهمّشة تعيش الاغتراب في موطنها وتشعر بعبء الدولة عليها بسبب لاأبالية السلطة لمصير هذه القوى واهمالها لحاجاتها الاساسية والأولية، وبالتالي فهي لا تشعر بأي التزام أدبي ومعنوي تجاه سلطة لم تتعرف عليها سوى من خلال قمعها وإهمالها وفسادها.

ب ـ غياب المشروع الوطني القادم بالأمل لأغلبية السكان والهادف الى تحقيق طموحاتهم.

قائمة المبررات سالفة الذكر تمثل مضخّات نشطة للعنف، وهي كفيلة بتخليق جماعات راديكالية تتوسل بالعنف من أجل قلب الواقع وتغييره كلياً أو جزئياً، وفي الحد الأدنى إشاعة الفوضى فيه من أجل إيصال رسالة تنبيهية وتحذيرية الى من هم في السلطة.

ثمة دافع ينزع بنا لتسليط بعض الضوء على المبررات المباشرة لتفجيرات الرياض الأخيرة، وقد نجد في المحرّكات التالية ما يلبي بعض الحاجة لتفسير الشكل التصعيدي للعنف الذي ظهر مؤخراً، والمبررات هي على النحو التالي:

1 ـ الفكر الراديكالي الشمولي بنزعته الاستئصالية التقويضية كما تعكسه الادبيات الدينية.

2 ـ الفشل في استيعاب التيار الديني السلفي ضمن مساحة عمل سياسي حر وقادر على امتصاص النشاطية المتنامية وسط هذا التيار منذ بدء تدفق الارتدادات السياسية للتجربة الافغانية على مواطن الكتائب المجاهدة التي التحقت بمشروع الجهاد الافغاني.

3 ـ تعاظم العنصر الشبابي داخل التيار الديني السلفي المتشدد، مدفوعاً باليأس والاحباط من التغيير السلمي.